كشف الكاتب منير العكش، في “ثلاثية أمريكا”، عن الوجه القبيح للولايات المتحدة، متمثلا في تاريخها العنصري الحافل بـ “الإبادات” الجماعية والثقافية والجنسية لشعوب وقبائل الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، وكيف تورط في تلك الجرائم المروعة والتي لا تسقط بالتقادم، رؤساء وأدباء أمريكيين يوصفون بـ “العظام”، من أمثال أبراهام لينكولن ومارك توين، وسواهم.

اقرأ أيضًا: أمريكا.. تاريخ طويل من التفرقة العنصرية والإبادات الجماعية (1-2)

 

وفي مواضع أخرى من الثلاثية يكشف الكاتب عن وجود مخططات أمريكية قديمة لـ “تعقيم” الملايين من النساء الأمريكيات، وغيرهم من شعوب العالم الثالث، عن طريق استخدام علم “اليوجينيا” الذي يعمل على تغيير الصفات الوراثية للحفاظ على بشر أصحاء، وتعقيم المعاقين والمتخلفين ذهنيًا، بحيث لا يظل في العالم سوى الأقوياء فقط، وهو العلم الذي أجرى فيه النازيون أبحاثًا علمية موسعة، ما زالت طي الكتمان حتى هذه اللحظة.

 

ويؤكد الكاتب أنه في الولايات المتحدة، وفي زمن ثيودور روزفلت، وليس في ألمانيا النازية وزمن هتلر كما يشاع، بدأ التطبيق العملي لهذه العنصرية العلمية على المستضعفين في الأرض، والتي أدت في مرحلتها المتواضعة الأولى، إلى إخصاء وتعقيم 14 مليون أمريكي من الفقراء والمستضعفين، وهو ما عززته المجالس التشريعية بصيغة قانونية في أكثر من 30 ولاية أمريكية.

وفي هذا الصدد، يستعرض “العكش” مجموعة من آراء العلماء البيولوجيين والمفكرين الاجتماعيين، الذين انشغلوا في التنظير لممارسات الإبادة والتخلص من الفقراء والضعفاء، مثل فرانسيس جالتون وشارلز دافنبورت، اللذيّن اتفقا على أن الوراثة في فئات الفقر والضعف لا تقتصر على لون الشعر والطول والصفات الجسدية الأخرى، بل تشمل المواهب والعواطف والخصال والملكات العقلية أيضا.

 

 

“المذبحة الخفية”

في الكتاب المعنون “أمريكا والإبادات الجنسية: 400 سنة من الحروب على الفقراء والمستضعفين في الأرض”، ضمن الثلاثية، يشير المؤلف إلى حقيقة “الثقافة الفوقية” التي رسمت قناعات وسياسات وتاريخ الإنجليز، أجداد معظم الأمريكيين المعاصرين، واستحوذت على ألبابهم وعقولهم منذ القرون الوسطى حتى الآن، والتي تتلخص في اقتناعهم بأن الإنجليز هم “شعب الله المختار” لنشر الحضارة الغربية وإيصالها إلى “الهمج” من شعوب العالم البدائية الأخرى!

 

ويوضح العكش، أن البريطانيين اعتنقوا في سبيل تحقيق ذلك ثقافة “الجلاّد المقدس”، الذي يحق له أن يلجأ إلى أي وسيلة مهما كانت منحطة لتبرير الغاية النهائية، وهي نشر “الحضارة” في أصقاع العالم الهمجي، عبر المعايير والنظم والقيم الاستبدادية.

الكاتب: تعقيم 14 مليون أمريكي هو العنوان الذي صدرت به صحف ومجلات إمبراطور الإعلام، وليام هيرست، في أواخر سبتمبر 1915

وفي فصل بعنوان “مقدمة.. تعقيم 14 مليون أمريكي”، يقول الكاتب “إن تعقيم 14 مليون أمريكي هو العنوان الذي صدرت به صحف ومجلات إمبراطور الإعلام، وليام هيرست، في أواخر سبتمبر 1915، منذرة بخطر الحرب الأمريكية على المستضعفين في الأرض، وتدمير نسلهم في الأرحام، ومحذرة من أن الطبقات الحاكمة ترسم مستقبل أمريكا والعالم بالدم”، حسب تعبيره.

وعثر المؤلف، وهو أستاذ الإنسانيات ومدير مركز الدراسات العربية في جامعة سفك بولاية بوسطن الأمريكية، على ما وصفه بـ “وثيقة” من 107 صفحات، وضعها هنري كيسنجر، الداهية اليهودي ووزير الخارجية الأسبق، عام 1974 عندما كان مستشاراً للأمن القومي. وتضع هذه الوثيقة بتوجيهات من الرئيس الأسبق جيرالد فورد، خطة لتعقيم الملايين في 13 دولة من دول العالم الثالث، وذلك في مهلة لا تزيد على 25 سنة.

بعد أقل من ثلاثة أعوام من ذلك التاريخ، أي في 1977، كشف الدكتور رايمرت رافنهولت، مدير مكتب الحكومة الاتحادية للسكان التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، عن تورط جامعتي واشنطن وجونز هوبكنز في “برنامج التعقيم” المشار إليه، وعن بدء الحكومة الاتحادية بالإجراءات العملية لإطلاقه، حيث رصدت الميزانية الكافية لتأمين الشروط والوسائل اللازمة لتعقيم ربع نساء العالم من النساء القادرات على الحمل بواقع 570 مليون امرأة.

 

المذبحة الخفية لنسل الملايين من الفقراء والمستضعفين داخل أمريكا وخارجها لم تبدأ مع كيسنجر، ولم تتوقف مع انهيار الاتحاد السوفيتي، بل بلغت أوج سعيرها في عهد باراك أوباما

وقال المؤلف في مقدمة كتابه “إن هذه المذبحة الخفية لنسل الملايين من الفقراء والمستضعفين داخل أمريكا وخارجها هي موضوع هذا الكتاب، فهي لم تبدأ مع كيسنجر، ولم تتوقف مع انهيار الاتحاد السوفيتي، بل لعلها بلغت أوج سعيرها اليوم في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وهي في النهاية كما سيرى القارئ وجه آخر لثقافة الإبادات التي عاشت عليها فكرة أمريكا المستمدة من فكرة إسرائيل التاريخية: فكرة احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة وتاريخ بثقافة وتاريخ”.

اقرأ أيضًا:

عنف اليمين الأمريكي يهدد بتحول الاحتجاجات إلى “حرب عرقية”

والمثير للدهشة، وفق المؤلف، أن أحد رجال عهد أوباما، متورط في هذ المخططات الشيطانية، وهو جون هولدن الذي شغل أخطر ثلاثة مناصب علمية في إدارة أوباما: مدير مكتب السياسة العلمية والتكنولوجيا في البيت الأبيض، ومساعد خاص لقضايا العلم والتكنولوجيا، ورئيس مشارك لمجلس مستشاريه للعلم والتكنولوجيا. لهولدن كتاب وضعه مع مؤلفين آخرين، يتحدث فيه عن أمواج هائلة من المجاعات والأمراض والحروب ستقضي على شعوب العالم، إذا لم تسيطر أمريكا على خصوبة البشر.

 

واكتشفت طبيبة من السكان الأصليين تدعى كوني أوري كانت تعمل في مستشفى ولاية أوكلاهوما، منتصف عام 1974، ارتفاع نسب أعداد النساء اللاتي خضعن لعمليات تعقيم. وتبينت الطبيبة من خلال أرشيف المستشفى أن الضحايا كلهن من السكان الأصليين، وقد تم تعقيمهم بعد يوم أو يومين من وضعهن.

“الهولوكست الأمريكي”

من جهة أخرى، وفي فصل بعنوان “تأليه الجشع”، يوضح العكش حجم التفاوت الطبقي الرهيب في الولايات المتحدة، والهوة السحيقة التي تفصل بين من يسكنون قصر حاكم الولاية، والذي تعلوه قبة مهيبة مطلية بالذهب الخالص، وبين امرأة تظنها للوهلة الأولى كيس قمامة من البلاستيك الأسود، امرأة ستينية هزمها الفقر والجوع، تجلس أمام القصر ذاته، الذي لا يقدم لها أحد من سكانه كسرة خبز!

الفيلسوف الصهيوني ستيفن كاتز: تفريغ العالم الجديد من سكانه الأصليين كان السحابة التي أمطرت بالهولوكست النازي

وتحت عنوان ملفت هو “المرضعة الأمريكية للهولوكست النازي”، يسجل العكش في فصل خاص، أنه بينما تحوّل “الهولوكست”، أي المحرقة النازية لليهود، ورموزها ونظامها السياسي إلى مجرمين، حوكموا وعوقبوا ودُمرت بلادهم وأراضيهم، فضلا عن كونها وصمة عار في جبين الشعب الألماني الذي مازال يدفع ثمنها لإسرائيل حتى هذه اللحظة، لا يتم الحديث أو الاعتراف بـ “الهولوكست الأمريكي” الأصلي، الذي استقى منه النازيون فكرتهم. يقول الفيلسوف الصهيوني ستيفن كاتز: “تفريغ العالم الجديد من سكانه الأصليين كان السحابة التي أمطرت بالهولوكست النازي”.

ويرصد الكاتب تشابه مصطلحي “القدر المتجلي” في الولايات المتحدة و”المجال الحيوي” في ألمانيا النازية، واللذيّن اعتمدا على فكرة النماء الطبيعي للدولة وتوسعها، ومع طغيان نظرية التطور، ساوت كلتاهما بين البقاء والتوسع الجغرافي كتطبيق لفكرة “البقاء للأقوى”. وعملت الدولتان، كل بطريقتها، على خطة متطابقة للهيمنة على العالم أجمع، الفارق بينهما فقط أن الأولى “النازية” فشلت، بينما نجحت الثانية!

في هذا “الهولوكست الأمريكي”، الذي بدأ منذ خمسة قرون ولازال مستمرًا في رأي المؤلف، قُتل 112 مليون إنسان من السكان الأمريكيين الذين يطلق عليهم اسم الهنود الحمر، والذي ينتسبون ويشكلون ما يقارب 400 شعب وأمة من أعراق شرق آسيوية مختلفة.

ويرى العكش أن “الحالة الأمريكية” ما زالت ماضية في إبادتها للبشر عبر العالم، حسب قوله، ولذلك فهي تستمر في صناعة “هولوكستها الخاص”، ما لم تضع البشرية حدًا له كما فعلت مع النازيين من قبل، مؤكدًا أنه عمل لم يكتمل بعد، وما زال مفتوحًا على المستقبل ويهدد كل المستضعفين في الأرض بكل أعراقهم وأوطانهم وثقافاتهم.