في عام 2010، فاجأنا المخرج الأمريكي، بول شويرينج، بإعادة تجربة محاكاة “سجن ستانفورد”، بفيلم يحمل عنوان “التجربة” بطولة الممثل والمنتج فوريست ستيفن ويتكر، حيث اهتمت التجربة بالآثار النفسية للمسجونين، ولقيت العديد من الانتقادات الأخلاقية حينها، وهو ما ظهر جليًا في أحداث الفيلم الذي تحولت التجربة العلمية فيه إلى صراع دموي بين السجناء ومن يمثلون دور رجال الشرطة، حتى خرجت الأمور عن السيطرة.
وتجربة سجن ستانفورد، التي مولتها البحرية الأمريكية، كانت محاولة لاستقصاء الآثار النفسية المعنية بالاستجابات الإنسانية للأَسْر، والاهتمام بالظروف الحقيقية لحياة السجن، حيث تم إجراء التجربة في الفترة ما بين 14 إلى 20 أغسطس عام 1971 تحت إشراف فريق من الباحثين يقوده فيليب زيمباردو من جامعة ستانفورد.
وأدى دور الحراس والسجناء متطوعون، وذلك في بناء يحاكي السجن تماماً، إلا أن التجربة سرعان ما تجاوزت حدود السيطرة وتم إيقافها مبكرًا، بسبب بعض الممارسات السادية التي مارسها الحراس على أجساد المسجونين، وكثيراً ما أحيطت هذه التجربة الشهيرة بشكوك من وجهة نظر أخلاقية.
ويمكن القول بأن تجربة “سجن ستانفورد” رغم عدم نجاحها إلا أنها تبقى تجربة تستحق الاهتمام، فإذا كان بعض الأشخاص المسالمين يتحولون إلى “ساديين” بدرجات بمجرد ارتدائهم اللباس العسكري أو لمجرد امتلاكهم السلطة حتى ولو كانت مؤقتة، فإن ما نشاهده من وحشية في تعامل ممارسة الشرطة الأمريكية مع المتظاهرين حاليا، يصبح أمرًا عاديًا بالنسبة لرجال الأمن في العالم، ولكن يبقي أمر الإدانة والمحاسبة مسار جدل.
صعوبة الإدانة
وشهدت الولايات المتحدة، مظاهرات واحتجاجات طاحنة منذ بداية مقتل جورج فلويد، الأمريكي من أصل إفريقي على يد شرطي أبيض بطريقة وحشية، بولاية مينيسوتا، حيث شملت المظاهرات نحو 140 مدينة أمريكية كما امتدت إلى خارج الولايات المتحدة.
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أثار جدلا واسعًا في البلاد، بسبب تهديده باستدعاء الجيش حال عدم سيطرة الولايات على الوضع في الشوارع.
في المقابل، قدمت المنظمة الأمريكية المدافعة عن الحقوق المدنية إلى جانب ناشطين في المجتمع المدني دعوى قضائية ضد الإدارة الأمريكية بسبب العنف الذي مارسته القوات الأمنية بحق متظاهرين سلميين خارج البيت الأبيض، حين توجه الاثنين الماضي الرئيس دونالد ترامب إلى كنيسة بجوار المقر الرئاسي لالتقاط الصور حاملا “الإنجيل”.
واستخدمت قوات الأمن رذاذ الفلفل وقنابل الغاز لتفريق المتظاهرين السلميين الغاضبين بسبب مقتل جورج فلويد، حسبما جاء في نص الدعوى القضائية التي قدمت إلى محكمة واشنطن الفيدرالية الخميس الماضي.
وذكرت وسائل إعلام محلية أن وزير العدل، ويليام بار والدفاع مارك إسبر تمّ اتهامهما بشكل مباشر في نص الدعوة بالتعدي على الحقوق الأساسية المكفولة من قبل الدستور الأمريكي.
وتشير التقديرات إلى أن الشرطة الأمريكية تقتل نحو 1200 شخص كل عام في الولايات المتحدة ولكن في نحو 99 بالمئة من هذه الحالات لا يتم اتهام الضباط بأي جريمة.
في حين، كشفت بيانات نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، أن 1014 شخصًا من أصول إفريقية، قُتلوا على يد الشرطة في عام 2019، وتبين عدة دراسات أن الأمريكيين الأفارقة، أكثر عرضة لأن يقعوا ضحايا للشرطة مقارنة بالأعراق الأخرى.
ويقول نشطاء إن الغالبية العظمى من ضباط الشرطة الأمريكية الذين يقتلون لا يتم اتهامهم ولا تتم إدانتهم بأي جريمة بسبب الحماية القانونية التي يتمتعون بها بموجب القانون الأمريكي.
وتماشيًا مع التقارير السابقة، أكد النائب العام في ولاية مينيسوتا، كيث إليسون، الأربعاء الماضي، أن جميع الضباط الأربعة المتورطين في وفاة جورج فلويد، يواجهون الآن اتهامات جنائية، مشيرًا إلى أن المحاكمة في هذه القضية “لن تكون بالأمر السهل.. إن كسب الإدانة سيكون أمرًا صعبًا”.
بينما قال كلارك نيلي، نائب رئيس قسم العدالة الجنائية في معهد كاتو بواشنطن: “من النادر للغاية” أن يوجه محققو النيابة العامة اتهامات جنائية ضد ضباط الشرطة كما حدث في قضية الأمريكي ذي الأصول الإفريقية جورج فلويد.
وأوضح “نيلي” أن “التحقيق الجنائي لا يعد آلية مثالية لمحاسبة مثل هؤلاء الضباط، فضلا عن أن استخدام القوة المميتة يعد جزءا من عمل ضابط الشرطة الاعتيادي”.
الحصانة المشروطة
“هناك قانون يحميه”، هذا هو السبب الأبرز والحد الفاصل وراء عدم إدانة رجل الشرطة الأمريكية، رغم التقارير والإحصائيات السابق ذكرها، حيث يوجد ما يمسى بقانون “الحصانة المؤهلة”، والذي يحمي المسئولين الحكوميين من المحاكمة.
وأوضحت شبكة “ايه بي سي نيوز” الأمريكية، أن “الحصانة المؤهلة” هي عقيدة قانونية في القانون الفيدرالي للولايات المتحدة يبلغ عمره 50 عامًا، ويحمي المسؤولين الحكوميين من مقاضاتهم من قِبل المدنيين، ويندرج تحت هذه الفئة رجال الشرطة.
كما يحمي “قانون الحصانة” ضباط إنفاذ القانون من الدعاوى المدنية حتى في الحالات التي تم فيها انتهاك حقوق المواطن.
وتحت عنوان “مقتل جورج فلويد يدفع المحاكمة العليا لإعادة النظر في الحصانة المؤهلة”، ذكرت الشبكة الأمريكية، في تقريرها، أنه مع تسليط الضوء على سوء سلوك الشرطة، فإن هناك دعاوى للمحكمة العليا الأمريكية لإعادة النظر في مذهب الحصانة المؤهلة أو المشروطة.
وكانت القاضية سونيا سوتومايور قد حذرت من أن الحصانة المؤهلة أصبحت درعًا مطلقًا لرجال إنفاذ القانون لفعل ما يريدون مع المواطنين دون وازع، ولعل من أشهر أعراف رجال الشرطة الأمريكية هو “أطلق النار أولًا وفكر لاحقًا”، وهو ما يبلور طريقة تفكيرهم.
وتشكك القاضي كلارنس توماس أيضًا في هذا القانون، قائلة: ليس لها أساس صلب في الدستور أو القانون العام.
وبحسب تقديرات مكتب التحقيقات الفيدرالي، يتم القبض على شخص ما في الولايات المتحدة كل 3 ثوان، وتم إجراء 10.3 مليون عملية اعتقال في جميع أنحاء البلاد في عام 2018.
العنف في أوروبا
ومن هنا، نجد ان مبدأ “الحصانة المؤهلة” لا يحمي رجال الشرطة الأمريكية، فحادثة “فلويد” سلطت الضوء على حوادث مشابهة في بعض دول العالم المتقدم، فبحسب شبكة “سي إن إن” الأمريكية، فإن الشاب الفرنسي من أصول إفريقية آداما تراوري، تشابهت حادثة وفاته مع حادث فلويد، فكلاهما أدت مواجهتهما مع الشرطة إلى وفاتهما، وكلاهما واجه صعوبة في التنفس بلحظاتهما الأخيرة.
وتوفى تراوري في عيد مولده الـ24 منذ نحو أربعة أعوام بأحد ضواحي باريس، بعد اعتقاله بسبب هربه أثناء التحقق من هويته، وتقول شقيقته آسا تراوري إن الشرطة أخبرتها أن آخر كلمات نطق بها شقيقها كانت “لا أستطيع التنفس”.
بينما تسجل ألمانيا كل سنة حوالي 2000 حالة تم فيها استخدام العنف من قبل الشرطة، في حالات كثيرة لا تصل التحقيقات إلى نتائج في تحديد الأسباب أو محاكمة المسؤولين عن حدوث ذلك.
“لا يُحكم على نسبة 90 بالمائة من رجال الشرطة المتهمين”، بحسب تقارير منظمة العفو الدولية، والتي توضح أيضًا أن تحقيقات موظفي الشرطة ضد زملائهم ليست نزيهة بالكامل، مقارنة مع التحقيقات ضد المواطنين الآخرين، مرجعين ذلك إلى عدم وجود أدلة كافية أو إهمال في التحقيقات .
ويبدو أن هذا ما دفع الباحث السياسي الألماني، ألكسندر راهر، للقول إن “الاتجاه التصاعدي في النشاط الاحتجاجي، ينمو. أعتقد بأن ذلك مجرد بداية في أوروبا”.
وأضاف “راهر” في مقال له في صحيفة “فزليجاد” الروسية، “عادة ما يظهر عنف الشرطة في أوروبا فقط أثناء أعمال الشغب، عندما يبدأ المتظاهرون في إشعال النار في السيارات ونهب المحلات.. هذه ليست مشكلة أمريكية بحتة، فمثل ذلك يحدث بشكل دوري في أوروبا منذ العام 1968.. ومثال ذلك، احتجاجات السترات الصفراء الأخيرة في فرنسا”.
تحامل دفين
في السياق ذاته، كشفت أبحاث فحصت علاقة أفراد الشرطة بأجهزة تطبيق القانون المسؤولة عنهم أنهم يرون أنفسهم مكتوفي الأيدي في مواجهة الإجرام وحدهم، وعندما ترفض المحكمة تمديد اعتقال شخص ما، أو عندما لا تقدم النيابة لائحة اتهام ضد شخص ما في ملفات عالجتها الشرطة، فإنهم يرون بذلك استهتارًا بعملهم.
بينما وجدت دراسات أخرى أن غالبية رجال الشرطة يرون في القوة والعنف وسيلة شرعية لأداء دورهم، فأكثر من 85% منهم، وفق استطلاعات حديثة، يعتقدون أن أفضل طريقة لمعالجة المظاهرات هي استعمال القوة.
ولأهمية الموضوع لن تتوقف الأبحاث والدارسات حول علاقة أفراد الشرطة بالمدنيين، وحول مدى زيادة تكرار استخدام ضباط الشرطة للقوة في أثناء أدائهم لمهام وظيفتهم، وكيف تختلف تلك الأفعال وفقًا للعرق الذي ينتمي إليه الأشخاص الضالعون في الواقعة، إذ أرجع أحد أستاذة علم النفس في جامعة كاليفورنيا، جاك جلاسر، الأمر إلى فكرة “التحامل الدفين”، لاسيما في حوادث العنصرية.
وقال “جاك” إن مشاعر التحامل الدفينة، تعكس ارتباطات ذهنية إيجابية أو سلبية، تكون لدى الأشخاص تجاه مختلف الفئات، كالفئات العرقية أو الإثنية، وسمات معينة كالإجرام أو الخطر، ويتم تفعيل هذه المشاعر في ذاكراتنا، عندما نواجه شخصًا ينتمي إلى واحدة من تلك الفئات، وهو ما يجعلنا نصدر أحكامًا متحاملة بشأن هؤلاء الأشخاص، استنادًا إلى مفاهيم مسبقة عن الفئات التي ينتمون إليها.