يكاد أن يكون تاريخها القريب سلسلة من الولادات القيصرية التي تنتهي دوما بمنتجات “مبتسرة”، فهي رغم مساحتها الهائلة سواء بإطلالتها الاستراتيجية على جنوب المتوسط أو عمقها الذي يلامس وسط أفريقيا دولة “محدودة السكان” وعظيمة الموارد. 

sss

هذا التناقض أوجد دوما محاولات متعارضة تدور كلها حول “السيطرة على الموارد” أو “حماية السيطرة عليها”. 

في النقطة الأقرب عندما أصبحت “جماهيرية” كان الهاجس هو منح الدولة ثقلا وعمقا يعوض الهشاشة الديموغرافية بدأ “بالقصور الذاتي” للمد القومي واضطلعت ليبيا بمفردها تقريبا بمحاولة الحفاظ على التوجه نحو هدف الوحدة العربية بالدعوة لها وبدعم العديد من القوى القومية واحتضانها حتى باتت “المشاغب” العصي على الترويض داخل النظام الإقليمي العربي.

ورغم عدم إحراز نجاحات في هذا المسار لأسباب مختلفة تم التوجه لوليد مبتسر تمت ولادته قيصريا فيما عرف بالنظرية الثالثة وما اشتملته من كتاب أخضر ولجان ثورية بهدف أن تصبح “الجماهيرية العظمى” قائدة لثورة عالمية ضد الإمبريالية وليس فقط للنضال من أجل العروبة والوحدة العربية ولحق بذلك في محطات تالية السعي لإنشاء دوائر داخل أفريقيا وخاصة بين المسلمين في القارة السمراء، لم تكن هناك منتجات فكرية أو صيغ مكتملة فكلها ولادات قيصرية و مواليد مبتسرة.

مهما يكن من أمر فقد شكلت الجماهيرية رغم كل الأخطاء إزعاجًا حقيقيًا للولايات المتحدة الأمريكية ولدول الناتو سواء لتحكمها في مصادر ثرواتها النفطية أو لتدعيم كل مراكز التمرد ضد الهيمنة الإمبريالية سواء بمساعدات أو بخطاب جذري. 

حاولت دول الغرب إزاحة القذافي ولو بالقتل سواء بمحاولات اغتيال أو بالقصف الجوي قبل أن يجد العقيد نفسه مرغمًا على تخفيف تلك الضغوط بتبني مبادرات تحديث لنيل القبول من “المجتمع الدولي” خاصة بعد تآكل التأييد الداخلي وقاد سيف الإسلام جانبا كبيرًا من جهود التهيئة لولادة قيصرية للمبتسر الأخير المتسامح مع “الإرهابيين” والقيم الليبرالية.

ومع ما عرف بثورات الربيع العربي بدأت عملية إزاحة القذافي بعملية قيصرية أيضًا شاركت فيها أطراف دولية وإقليمية ولم تكن “للثورة” أن تنجح دون التدخل العسكري المباشر وخاصة من قبل فرنسا والدعم المالي الإعلامي القطري، ولدت “الثورة مبتسرة” بالطبع وتصدر المشهد عملاء وإرهابيون ووطنيون، كان مزيجًا فريدًا في نوعه وبدا لبعض الوقت أن القوى الإسلامية “قادرة عليها” إلى أن جاءت الانتخابات البرلمانية الأخيرة بنتيجة غير متوقعة حيث كانت الغلبة للعناصر الوطنية من مشارب سياسية مختلفة يجمع بينها هدف إنشاء دولة وطنية حديثة ليبرالية التوجه.

كان ذلك الأمر الذي لا ترغب فيه القوى التي تولت توليد “الثورة الليبية” دون انتظار لمخاض، فكل من الولايات المتحدة وبريطانيا ومعهما فرنسا على مسافة كانت ترى أن الأفضل هو إعادة ليبيا إلى ما قبل المملكة السنوسية بل وإلى ما قبل الاحتلال الإيطالي، ثلاثة أقاليم لدى كل منها ثروة نفطية يتم استنزافها دون مضايقات تذكر أو أطماع أكثر من الحصص القبلية التي سيتم توزيعها، كانت فرنسا تتطلع لفرض سيطرتها على الجنوب الملاصق لتشاد والقريب من النيجر حيث مناطق نفوذها.

رأت بريطانيا أن نشأة حكومة من هذا البرلمان سيعني أن خطط التقسيم ستتعثر وأن فترة حضانة الهيمنة الإخوانية تكون قد وصلت لنهاية سريعة غير متوقعة.

هنا نشأت الضغوط لتعديل “الانحراف الديمقراطي” الذي أدى لتقليص حجم تمثيل الإخوان والفصائل الإسلامية في البرلمان وتم فرض صيغة “الصخيرات” لتوليد حكومة بشكل قيصري من خارج رحم البرلمان المعترف به وبنزاهة انتخاباته دولياً.

وبوسع أي طويل أذنين أن يدرك أن الهدف من اتفاق الصخيرات وما رافقه من ضغوط ومناورات هو الإبقاء على التوتر السياسي وعوامل التنازع.

بالتوازي مع ذلك وقبله وبعده كانت عمليات نقل القوى “الجهادية” على أشدها لتتقاسم بمسمياتها الجهوية والعقدية السيطرة على السكان والموارد النفطية معًا.

ينبغي أن نشير هنا إلى أنه رغم تسريح الجيش مثلما جرى في العراق وتشكيل الميليشيات على أنقاض مخازن السلاح الليبية تمامًا كما جرى في العراق أيضًا بدأت محاولات تصفية الضباط في منازلهم وهو ما أدى لردة فعل نشأ منها ما يعرف اليوم بالجيش الوطني الليبي، أزيحت المليشيات عن الشرق بفضل الدعم المصري بينما بقيت الأخرى في الغرب تحت جناح حكومة الصخيرات وانضافت لها كل الفصائل التي طردت من الشرق.

حاولت بنغازي أن تضع نهاية عسكرية لتلك الميليشيات ومعها حكومة الصخيرات بالهجوم الذي قاده خليفة حفتر وكادت أن تصل لمبتغاها لولا أن تم إيقاف الهجوم ودعوة الأطراف إلى موسكو ثم برلين، ربما يكون ذلك هو الخطأ الأبرز، أي قبول الهدنة حيث تم خلالها التدخل التركي بالأسلحة وبالمقاتلين وأيضًا بالتدخل العسكري المباشر بهدف إزاحة الجيش الوطني الليبي نحو الشرق. 

هنا نتوقف عند أهم الاستخلاصات المتصلة بالموقف التركي: 

1- تعلم تركيا جيدًا أن مخطط أمريكا وبريطانيا (لن أقول الناتو أو  الاتحاد الأوروبي) هو تقسيم ليبيا.

2- تولت تركيا أدوارًا هامة وراكمت خبرات وأدوات في الساحتين العراقية والسورية ضمن مخطط تقسيم البلدين وأثبتت أنها قادرة على أداء أدوارها دون أن تكلف الحلفاء ثمنًا كبيرًا. 

3- تلقت تركيا موافقة واشنطن ودعم لندن لتقوم بعملية تعويم حكومة الوفاق وذلك بنقل الأسلحة والخبراء الأتراك وجزء من المقاتلين (السوريين والتركمان).

لقد كانت السفن والطائرات تنقل كل شيء على مرأى ومسمع حتى من غسان سلامة وسيط الأمم المتحدة التي أعادت قبل يومين تجديد قرارها بحظر توريد الأسلحة لليبيا.

حتى الاتحاد الأوروبي الذي أطلق عملية إيريني لمنع دخول سفن الإمدادات العسكرية إلى ليبيا لم يفعل تلك العملية إلا بعد عدة أشهر من الإعلان عنها ولم يعترض سفينة تجارية واحدة بل وتجاهل كليًا وجود الفرقطات التركية أمام السواحل الليبية.

4- لم تكن واشنطن ولندن وحدهما من أعطى الضوء الأخضر لتركيا بل هناك الطرف الأهم موسكو، كانت روسيا تمر بفترة حاسمة في تدخلها لإقالة دمشق ووجدت مساحة تنسيق مع تركيا على قاعدة أنها تبادل ضمان إبعاد الأكراد عن الحدود التركية بتلجيم أنقرة الفصائل السورية المسلحة التي تعمل تحت إشرافها.

يمكن القول أنه جرت مقايضة الموقف التركي في سوريا بغض الطرف عن الدور التركي في ليبيا، هذه المقايضة ربما تكون خطأ روسيا قاتلا ولكنها حتما أضرت بموقف الجيش الليبي في نهاية المطاف.. ولا زالت.

5- تتحرك تركيا في إطار الاستهداف الأمريكي البريطاني مع مساحة خاصة لها مثلما هو الحال في الشمال السوري فهي تحصل على مليارات الدولارات من الخزانة الليبية سواء لتوريدات الأسلحة أو السلع التجارية.

وحصلت فيما تظن على موطئ قدم في شرق المتوسط للمشاركة في اقتسام موارد النفط والغاز فيه ولعله يكون ورقة تفاوض قوية مع الاتحاد الأوروبي بشأن المجال البحري لقبرص واليونان فتطلق يد أنقرة أمام المياه الإقليمية الليبية للتنقيب عن الغاز والنفط مقابل التخلي عن التنقيب قبالة قبرص واليونان.

6- المجال التركي الخاص يشمل أيضًا إنشاء محطة تركية (ربما قاعدة عسكرية مماثلة لتلك التي في قطر) لإسناد السراج ولتترك تأثيرها لاحقًا على الوضع المرتبك في تونس.

فحيثما تتواجد أحزاب الإخوان المسلمين يتواجد “الظهير المحلي” لأهداف السياسة التركية الرامية لإحياء العثمانية.

7- يتبقى أمر الآلاف من المقاتلين السوريين والتركمان ومعهم عدد ليس بالقليل من التشاديين والجهاديين من عدة دول مثل مصر وتونس والجزائر، فهؤلاء سلاح يمكن توجيهه دون أن تتحمل تركيا الدولة تبعات أعمالهم، هؤلاء أشبه بنقطة حبر وقعت على قطعة قماش فهي ستتمدد على فترات، تارة باتجاه الشرق لإرباكه وإعادته لحقبة مجالس شورى الثوار، وتارة أخرى باتجاه تونس والجزائر إذا ما احتدم الصراع بين الإخوان المسلمين والقوى المناوئة لهم في البلدين.

أخذًا في الاعتبار أن تونس تشهد تشظياً سياسيًا باتت ملامحه جلية في جلسة محاسبة “الغنوشي” وثمة شكوك عميقة في أن يتمكن قيس سعيد أن يكون طرفا فاعلا في المعادلة السياسية

أما الجزائر فالوضع ليس مبشرًا مع استمرار المطالبات بالتغيير من قوى سياسية متشرذمة ومتعارضة، وهناك أيضًا شكوك حول قدرة عبد المجيد تبون على أن يتولى ملف مصالحة وطنية شاملة. 

وأضف لذلك الفصائل الإسلامية التي تعمل في دول الساحل وصولا لنيجيريا وبوركينا فاسو والتي تجمعها وشائج شتى من العديد من الفصائل التي تدين بالولاء لداعش أو القاعدة.

ونعود لمسار الولادات القيصرية، هناك محاولة تركية ستجري لتلد حكومة الصخيرات “حكومة ليبية” تمد نفوذها بشكل رئيسي للهلال النفطي ومناطق الجنوب وهو أمر سيتصادم مع حقائق ديموجرافية قبلية على الأرض، وهناك محاولات للوصول لصيغ سياسية خارج رحم المخاض العسكري الذي وصل لأوجه وليس لنهايته، هناك حضور دولي وراء الوكيل التركي وهذا الحضور غير راغب في بدء مفاوضات على موازين القوى الحالية ويعني ذلك أننا أمام سيناريوهات محتملة، أولها استمرار تقدم قوات الوفاق والمرتزقة وتركيا باتجاه الشرق ربما وصولا لبنغازي أو غرب طبرق.

والسيناريو الثاني تغير نوعي بدعم وربما تدخل سافر (أقل من انخراط مباشر) من أحد أو كل الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لحفتر. 

يقودنا ذلك لمقال قادم عن مصر وهل كان عليها أو ما زال عليها أن تتدخل بشكل مباشر في ليبيا. 

دكتور أحمد السيد الصاوي 

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن سياسة مصر360