الأسف هنا لكل الذين ينتظرون انهيار الولايات المتحدة الأمريكية، أعرف أن هذا محبط لقطاعات من النخب في الشرق الأوسط، منهم ناصريون يؤمنون بأن تحقيق حلمهم في “الولايات المتحدة العربية” لن يتحقق إلا على أنقاض انهيار وتفكك الولايات المكونة للدولة الأمريكية، فالغرب في العموم، وأمريكا التي تقوده، يؤمنون أنها العدو، الشيطان، الذي يخطط وينفذ لتحطيم “الإمبراطورية العربية”، وعندك اليسار الشيوعي الذي ما زال يحلم باستعادة “الأممية الشيوعية”، أي توحيد العالم بالقوة تحت راية الشيوعية، والعقبة بالطبع هي “الإمبريالية الغربية” التي تقودها أمريكا.
لا يجب أن ننسى الإسلاميين بكل تنويعاتهم، الذين يحلمون باستعادة “إمبراطورية قريش” الاستعمارية، ومن بعدها إمبراطورية الأتراك الاستعمارية، هذه الإمبراطورية التي سيطرت على جزء كبير من العالم، حطمها الغرب كما يدعون، وحتى يمكن استعادتها، لابد من تحطيم الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
رغم أن هذه الأيديولوجيات فشلت من داخلها أولاً، لكنها استطاعت إقناع قطاعات واسعة من المجتمعات في الشرق الأوسط، أن تعاستهم وكل مشاكلهم ليس لها أسباب داخلية، ولكن بسبب تآمر أمريكا الشيطان الأكبر، وباقي الدول الغربية الشياطين الصغار، كل هؤلاء ينتظرون بفارغ الصبر انهيار أمريكا وانهيار الغرب عموماً حتى يبنون إمبراطوريتهم، ولكن للأسف في الأغلب الأعم فهذا لن يحدث، وإليك الأسباب:
أثبتت التجارب الإنسانية أن أنظمة الحكم الشمولية هي التي تنهار، مثل الاتحاد السوفييتي، فقد كان إمبراطورية استعمارية لا تختلف كثيرًا عن الإمبراطورية الغربية الاستعمارية، أولاً لقد استولى الشيوعيون على الحكم في عام 1917 عبر حرب أهلية، وليس ثورة كما ادعو، لكنهم استولوا على الحكم بالسلاح، فهي لم تكن ثورات أبداً، وهو ما حدث في كثير من البلاد منها كوبا، ومصر وغيرهما، الإمبراطورية السوفيتية انهارت لأنها ديكتاتورية، يسيطر عليها قلة تورث بعضها البعض، ولذلك فهذه الإمبراطورية وكل الدول التي رفعت شعارات اشتراكية أو قومية انهارت من داخلها، والمؤامرات أو التأثير الخارجي كان فقط عامل مساعد.
مثلها الإمبراطورية الاستعمارية العثمانية، فليس صحيحاً أنها انهارت بسبب “الغرب الاستعماري”، ولكن بسبب بنيتها الديكتاتورية التي لم تتطور، انهارت من داخلها، وكمال أتاتورك لم يفعل شيئاً سوى مراسم الدفن، لكي يحافظ على ماتبقى منها والذي نسميه الآن “تركيا”.
الغرب لم ينهار بعد تحطم إمبراطورياته الاستعمارية، بل واصل التقدم، وواصل ما يمكن أن نسميه حماية مصالحة بطرق أخرى، لم يحدث له مثلما حدث مع الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة التي انهارت مثل العثمانيين، بريطانيا (الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس) على سبيل المثال تخلت مضطرة عن الاستعمار العسكري، لكنها لم تنهار من داخلها، ومثلها البرتغال وإسبانيا.. إلخ. والسبب أن هذه الدول كانت قد بنت نظاماً رأسمالياً يستند إلى قواعد أساسية يمكن أن نلخصها فيما يلي:
الدولة العلمانية، أي الفصل الكامل بين الدين، أي دين، ومؤسسات الدولة، فالولايات المتحدة الأمريكية دولة ليس لها دين محدد تريد نشره، ولا لها أيديولوجية دينية أو عقائدية شمولية، تقاتل من أجل فرضها على العالم بالقوة، ووجودها مرتبط بهذه الأيديولوجيا.
التوصل إلى ما نسميه “حقوق الإنسان” وهو باختصار تقديس الحريات الفردية والعامة، أي بناء نظام يضمن عدم الاعتداء على حقوق الفرد، حقه في الخصوصية، وفي حرية الرأي والتعبير والتنظيم .. إلخ، وإذا حدث ما يخل بذلك يتم التصدي له بالقانون، بالإضافة إلى تقديس الحريات العامة، أي بناء نظام ديمقراطي يضمن التداول الحر للسلطة، ويضمن حرية التنظيم، أي حق تأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات.. إلخ.
الفصل بين السلطات، أي استقلال القضاء، واستقلال الصحافة والإعلام .. إلخ، وبسبب ذلك فهذه المجتمعات قادرة إلى حد كبير على تجديد نفسها، وقادرة على التطور، فبسبب طبيعة هذا البناء الديمقراطي الحر، في إطار دولة علمانية، يصبح المجتمع قادر إلى حد كبير على امتصاص الصدمات، والتعلم منها، وتجاوزها بشكل كبير.
الاحتجاجات الأخيرة بسبب القتل المشين لرجل أسود، حدثت بسبب أن هناك مؤسسات لا تعمل بشكل صحيح، هي الشرطة، وربما هناك أيضاً انحيازات في القضاء وغيره، لذلك خرجت الاحتجاجات لأن الأطر التي يستطيع المواطن من خلالها التعبير عن نفسه ليست كافية لتحقيق العدالة التي يتمناها.
هناك صحافة ومتعددة حرة تنقل وتتفاعل، هناك أحزاب تتفاعل، هناك مؤسسات مستقلة إلى حد كبير مثل القضاء تحكم بين المتصارعين، بفضل الحرية رؤساء مقاطعات يرفضون بعضاً مما يقرره الرئيس، لأن المقاطعات لها استقلالية نسبية، قادة في الجيش يرفضون تلويح ترامب باستخدام الجنود والضباط لوقف الاحتجاجات، وهو ما يعني صدام محتمل.
هذا التفاعل الحر بين مختلف فئات وقوى المجتمع، يجعلهم يقررون اتخاذ خطوات لحل المشكلة إلى حد كبير، فالجماهير الغاضبة هي التي تحدد إلى حد كبير ما يجب أن يكون.
أضف إلى ذلك ان الجماهير الغاضبة قادرة على التغيير عبر الانتخابات الحرة، التي تمكن المجتمع من تغيير من يحكمون المقاطعات ويحكمون البيت الأبيض، والمجالس التشريعية، وبالتالي يستطيع سن قوانين ووضع آليات تقترب أكثر وأكثر من العدالة.
لذلك يكاد يكون مستحيلاً الانهيار، ربما يحدث تراجعًا في وقت ما، وتصعد قوة أخرى لمحاولة قيادة العالم، مثلما حدث مع بريطانيا التي كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وصعدت مكانها الولايات المتحدة الأمريكية.
أتمنى إذا حدث هذا التراجع الأمريكي، ألا تتصدر العالم ديكتاتوريات مثل الصين وروسيا، فإذا كنا قد عشنا الكثير من المشاكل في قيادة الغرب للعالم، فما بالك إذا قادته أو سيطرت عليه ديكتاتوريات عقائدية، ومن المفيد هنا أن نتخيل شكل العالم لو سيطر عليه هتلر العنصري، أو موسوليني الفاشي.