“لاتحزن.. قم بالتنظيم واعمل”، شعار رفعه أولف بالمة، أشهر رؤساء السويد، على مدار حياته، والتي مازالت قضية اغتياله لغزًا لم يُحل غموضه بعد نحو 34 عامًا على الحادثة، حيث اشتهر بمواقفه الدولية ودعمه للديمقراطية والسلام في العالم.

وسخر “بالمه” حياته لعدة قضايا دولية، كما ناضل لمحاربة الكولونيالية “الاستعمار”، والعمل الدؤوب على استقلال الشعوب وتقرير مصيرها، والوصول إلى نظام اقتصادي عالمي جديد، من أجل تطبيق المساواة بين الشعوب، فضلاً عن محاربة العنصرية بكافة أشكالها وتطبيق ديمقراطية التعليم.

 

نشأته

وولد أولف بالمه عام ۱۹۲٧ لأسرة من الطبقة الثرية في ستوكهولم، واستطاع أن يتحدث أربع لغاتٍ بطلاقة إلى جانب لغته الأم السويدية، وهي الإنجليزية، الفرنسية، الروسية، الألمانية، كما كان مُلماً بقواعد اللغة الإسبانية.

اقرأ أيضًا:

” مارتن لوثر كينج”.. رحلة نضال لم تطرد كل الظلام

توفي والد “بالمة” عندما كان في سن الخامسة من العمر، فترعرع على يدي والدته إليزابيت، وهي ألمانية الأصل، كانت قد درست علوم الطب، وشاركت في إنقاذ المنكوبين من جراء الحرب العالمية الثانية بالتعاون مع الأمير السويدي فولكه برنادوت، تأثر أولوف بالمه بوالدته في الانتصار للحق والعدالة للضعفاء والمظلومين.

ومنذ طفولته شغف بالمه بقراءة التاريخ والأدب، وبدأ يكتب للصحافة بعد أن حصل على شهادة الثانوية العامة في عام 1944، تأثر “بالمه” كثيراً من عنف الانقلاب الشيوعي الذي حصل في براج “تشيكوسلوفاكيا” عام 1948، والتي انقسمت فيما بعد إلى دولتين هما جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا، وانعكس على حياته السياسية ليتخذ طريقاً وسطاً ما بين النظام الشيوعي والنظام الحر.

بعد انتسابه للحزب الاشتراكي الديمقراطي ،عام 1951 بدأ بالمه حياته السياسية وذلك من خلال الحركة الطلابية، درس بالمه القانون في المملكة السويدية، وقال لأحد الصحفيين الفرنسيين، حين سأله عن انتمائه للسياسة الاشتراكية على الرغم من أنه ينتمي إلى عائلة أرستوقراطية فأجاب،”صحيح بأنني لم أترعرع ضمن الحركة العمالية، إلا أنني أنا جزء منها وأتبع لها، إن أساس الاشتراكية عندي هو أنه إذا تلاحم الناس ووحدوا جهودهم فلن يكون أمامهم أية عوائق مستحيلة، لذا أقول دائماً: لاتحزن..بل قم بالتنظيم واعمل”.

استنكر “بالمه” أسلوب العمل والتعامل في اتحاد الطلاب العالمي، الذي كان يسيطر عليه الشيوعيون، لذا قام بإنشاء اتحاد طلابي عالمي مواز له عام 1951، لفت نشاطه السياسي والتنظيمي هذا نظر رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي ورئيس وزراء السويد يومئذ السيد تيج إيرلاندر فقربه منه.

قام بالمه بزيارة عدد كبير من دول العالم الفقيرة، وخاصة الأسيوية، وفي مقدمتها الهند وسيلان، الأمر الذي خلق لديه أثراً عميقاً وعزز عنده صورة العالم الحقيقي، هذا وكان أولف بالمه أول من قام بتنظيم حملات طلابية مناهضة للنظام العنصري في جنوب أفريقيا، ومكن الطلاب الأفارقة من الحصول على البعثات الدراسية في السويد.

ورغم انتخابه عضوًا في البرلمان عام ۱۹٥۸ إلا أنه احتفظ بعمله سكرتيرًا لرئيس الوزراء حتى عام ۱۹٦۳ عندما تمت تسميته وزيرًا دون حقيبة، كما كان عضوًا في وكالة المساعدة الدولية في أوائل الستينيات من القرن العشرين، وكان مسؤولًا عن التحقيقات في تقديم المساعدة إلى البلدان النامية والمساعدة التعليمية، كما أصبح وزيرًا للنقل والاتصالات في عام 1965.

وفي عام 1969، أصبح بالمه قائداً لحزب الاشتراكيين الديمقراطيين وحتى اغتياله في عام ۱۹۸٦، وكان رئيساً للوزراء خلال فترتين من قيادته لحزبه، حيث تم اغتياله خلال الفترة الثانية، بعد تقديمه الكثير من الاصلاحات الاقتصادية والأجتماعية في بلاده.

 

مواقف دولية

وكان الحدث الأبرز والمهم والذي لازال يقترن به اسم أولف بالمه حتى يومنا هذا هو مشاركته، إلى جانب سفير فيتنام الشمالية في موسكو، في مقدمة مظاهرة شعبية في العاصمة ستوكهولم ضد الولايات المتحدة الأمريكية، في فبراير من عام 1968، لقد كتبت عن هذه المظاهرة 367 صحيفة أمريكية، وهذا ما أكسب بالمه شهرة دولية، وربما وضعه ذلك على القائمة السوداء الأمريكية،اذ قامت الادارة الأمريكية على إثرها بسحب سفيرها من العاصمة السويدية.

وتابع ساسة أمريكا استياءهم من بالمه، فرفض الرئيس الأمريكي نيكسون لقاء بالمه عندما قام الأخير بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، لكن غضب نيكسون هذا قد وصل إلى أعلاه في عام 1972 عندما عاودت أمريكا قصفها لفيتنام الشمالية، يومها كتب أولف بالمه عن هذا القصف قائلاً: “علينا تسمية الأشياء بمسمياتها، إن ما يجري في فيتنام اليوم هو عملية تعذيب، حيث لا توجد أية مبررات عسكرية للقصف الأمريكي،إن هذا التعذيب والقتل الممنهج لشعب كامل، وإهانته، وإجباره على الخضوع بالقوة يشكل عملية قتل لها مثيلاتها في هذا العصر” .

هذا ووقف أولوف بالمه أيضاً وبكل حزم ضد الديكتاتور الإسباني آنذاك، الجنرال فرانكو، وهناك صور له وهو يقف في أحد شوارع ستوكهولم وهو يجمع التبرعات من المواطنين السويديين لصالح الشعب الإسباني والمعارضة هناك.

لقد خلقت مواقف “بالمه” هذه مصداقية كبيرة في اتباعه سياسة الحياد، وأهله ليكون الشخصية البديلة الوحيدة لتسلم منصب رئاسة الوزراء، بعد تنحي تيج ايرلاندر عن هذا المنصب بسبب تقدمه في العمر.

واعتبر العرب “بالمة” مناصراً للقضية الفلسطينية، ومن الأمور التي جلبت غضب قوىً غربية له، دعوته لزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات لزيارة ستوكهولم عام ۱۹۸۳، حيث قال حينها في خطبته الشهيرة،” أننا نرى بأنه يوجد هناك شعب فلسطيني، ولهذا الشعب حقوقه الوطنية، لذا علينا الاتصال مع هذا الشعب”.

 

 

كما ساند “بالمه” كفاح شعب جنوب أفريقيا لإنهاء نظام الفصل العنصري، وكان بالمه يُوصف في أفريقيا بأنه “صوت السود في عالم الرجل الأبيض”، وشغل منصب المبعوث الخاص للأمم المتحدة خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية.

اقرأ ايضًا: تبرئة البريطانيين من جرائم العراق.. قلق حقوقي من “جيش فوق القانون”

 

اغتيال غامض

ويبدو أن مواقف “بالمة” السابقة قضت على حياته، حيث ترجح بعض النظريات والكتب وقوف أجهزة الاستخبارات التابعة لجنوب إفريقيا وراء مقتله، وذلك بسب مواقفه المناهضة لسياسة الفصل العنصري التي كان يعاني منها الشعوب الأفريقية وقتها، بينما ذهب البعض الآخر إلى اتهام  المخابرات الأمريكية والبريطانية بسبب بروز مواقف “بالمة” المكافحة لليبرالية الجديدة.

وفي مساء سويدي بارد، عند حوالي الحادية عشرة من مساء 28 فبراير 1986، كان رئيس الوزراء السويدي أولف بالمه، قد خرج توّاً من دار سينما مع زوجته ليزبيت، وابنه مورتن وزوجته أنجريد، عندما أصابته رصاصة في الظهر وعن مسافة قريبة ووسط عشرات من شهود العيان وسكان السويد.

أدت الملاحقة الأمنية عقب الاغتيال، إلى اعتقال رجل مدمن على الكحول، وجنائي معروف، اسمه كريستر بيترسون، مع تخبط أمني وتقاذف للمسؤوليات من قبل الجهات المختصة، ليس فقط عن تأمين رئيس وزراء بلدهم، بل عن القاتل والأدلة، ومن يقف وراء الاغتيال السياسي الذي هز السويد وكل الدول المجاورة، لا سيما بعد جهود بالمه في تعزيز وجه السويد عالمياً.

 

اقرأ ايضًا: تمييز عنصري.. نشطاء ومفكرون عرب يتضامنون مع الاحتجاجات الأمريكية

 

لكن وبعد نحو 34 عامًا، ما تزال قضية اغتيال “بالمة” مفتوحة ولم تُحل، ويؤمن السويديون بأن “مدمن الكحول” كريستر بيترسون لم يكن سوى “كبش فداء”.

ألا أن مكتب المدعي العام السويدي، أعلن أنه سيقدم نتائج تحقيقه الجنائي في مؤتمر صحفي، اليوم الأربعاء، وقال رئيس الادعاء كريستر بيترسون، للتلفزيون العام السويدي في فبراير: “آمل أن أشرح كيف وقعت تلك الجريمة ومن المسؤول عنها”.

ومن غير المعروف ما إذا كان سيتم توجيه الاتهام لأي شخص، أو ستتم تسمية مشتبه جديد به، ولكن ثمة أمل في أن تكون الشرطة قد اقتربت أخيرًا من حل لغز جريمة قتل طغت على البلاد لعقود من الزمن، وراجت عنها نظريات مؤامرة لا حصر لها، بحسب “بي بي سي”.