يبدو أن الأزمات تمتحن ما بداخلنا، فتُظهر ما رفضت ظروفنا العادية كشفه، وهو ما ينطبق على تعاملنا في ظل الجائحة التي نعيشها في الوقت الراهن، حيث من المؤسف رفض بعض الأبناء استلام جثث آبائهم المتوفين إثر إصابتهم بفيروس كورونا، وآخرين أيضًا رفضوا مجرد رؤيتهم أو التواصل معهم بأي شكل من الأشكال، وهناك من يتركهم بمفردهم في غرف باردة داخل المستشفيات دون معين.
ومع انتشار فيروس كورونا وعدم وجود لقاح للوقاية منه، وعدم وجود أدوية معتمدة لتخفيف الأعراض، كان الخيار الطبي الوحيد هو “التباعد الاجتماعي”، ومع مرور الوقت ذهب المختصون وعلماء الاجتماع إلى أننا على أعتاب مرض اجتماعي قد يتحول إلى وباء أيضًا، وعند الحديث عن الآثار، سنجد أن آثار الوباء الاجتماعي المنتظر لن تقل عن آثار الفيروس، بل قد تزيد، وهو ما يفسر لنا جحود بعض الأبناء في زمن الوباء.
الوجه الآخر لـ “كورونا”
وكل يوم، تضج مواقع التواصل الاجتماعي، بالكثير من القصص حول علاقة الأبناء بالآباء في ظل كورونا، لاسيما مع استمرار الأزمة وعدم معرفة وقت انتهائها؟.
“حد يقولي أعمل ايه انا مش بنام من تأنيب الضمير”، بهذه الكلمات بدأت عضوة على أحد جروبات المشاكل الأسرية على “فيس بوك” حديثها، كاشفة أنها هي وأشقائها تركوا والدتهم المسنة بمفردها في الشقة رغم ظهور أعراض فيروس كورونا عليها، خشية انتقال العدوي إليهم أو لأحد أبنائهم .
وبحسب نص رسالتها، قالت “امي ست كبيره في السن ٧٥ سنه وعندها كل اعراض الكورونا واخواتي سيبنها وقعدين في شققهم وقفلين عليها خايفين يتعدو وسيبنها في عزل مع نفسها ومعندهاش تليفون من اكتر من ٣ اسابيع وكل مااكلم حد منهم يروح ليها يقولي روحي انتي !!!!!!! واني جوزي حالف عليا مروحش علشان خايف اعديهم الحل ايه منعرفش عنها اي حاجه لتكون ماتت جوا. في رقم مثلا نتصل عليه من الصحه يروحو يبصو عليها ؟”.
واللافت للانتباه، أن عددًا من التعليقات على المشكلة كانت تتلخص في أرقام للإنقاذ في الشرطة او أجهزة الصحة، أو نصائح حول التعقيم للوقاية من انتقال العدوى، إلا أنه على الجانب الآخر جاءت بعض الردود القوية التي تذكر بحق آبائهم عليهم ورعايتهم في مرضهم.
وفي مشهد آخر، شهدت محافظة المنوفية، وتحديدًا في مستشفى السادات العام، قسوة من نوع آخر، حيث أوصل أبناء والدهم على كرسي متحرك إلى باب المستشفى ثم رحلوا دون النظر ورائهم أو معرفة مصيره، والذي لم يتأخر حيث توفي الرجل في اليوم التالي.
وتلخصت رحلة الأب المكلوم في بضعة ساعات، حيث رفضت المستشفى بداية الأمر استقباله، ثم مع إصرار بعض رجال الخير تم استقباله وإيجاد سرير فارغ له، ولكن يبدو أن الأب زهد في الحياة ورحل في اليوم التالي، والسبب أزمة قلبية وليس فيروس كورونا.
وفي حادث مشابه، وجاهت إحدى المتعافين من “كورونا” نفس مصير الأب المكلوم، فبعد رحلة علاج في أحد مستشفيات العزل بالإسكندرية، رفض أبناؤها استلامها من المستشفى أو الذهاب بها إلى أي مكان، وهو ما عرضها لأزمة قلبية حادة ماتت على إثرها على الفور، ولكن الأقسى من ذلك أن طاقم التمريض والأطباء هم من صلوا عليها ووارى جسدها التراب في مدافن الصدقة بعد تحرير محضر بالواقعة، بحسب الدكتور محمد علي، مدير مستشفى النجيلة، المخصصة لعزل الحالات المصابة بفيروس كورونا.
اقرأ ايضًا : فريق البهجة وسيدة الأوبرا وبيانو بلال..3 حكايات عن هزيمة كورونا بالموسيقى
الوحدة
ويؤكد الكثير من علماء النفس والأطباء، أن “الحالة النفسية هي نصف العلاج “، في مواجهة جائحة كورونا، مشيرين إلى أن كثير من حالات الوفاة لم تكن لسبب طبي أكثر منه حالة نفسية سيئة يعيشها المريض، لشعوره بالوحدة بدون وجود أحد من أفراد أسرته أو احبائه، بل ذهب البعض إلى إخباره بأنه بعد الموت لن يجد من يستلم جثمانه أو يصلي عليه.
ويشير علماء النفس إلى أن التجارب التي يعيشها الآخرون تؤثر علينا بشكل أو بآخر، فمع تزايد أعداد مصابي كورونا، ورفض بعض الأبناء استقبال آبائهم من المستشفى رغم شفائهم، أصبح دخول المستشفى يسبب حالة من الهلع للمرضى، خوفًا من أن تنتهي حياتهم بين جدرانها.
ويبدو أن هذا ما دفع إحدى الطبيبات للخروج ومناشدة الجميع بإلزام العزل المنزلي إذا ظهرت أعراض كورونا، قائلة: “اعزلوا نفسكم ف بيتكم افضل لان اكتر المتوفين فى مستشفيات العزل بيكون سبب الوفاة دمار نفسي، والمناعة بتضعف جدًا من الهلع والخوف لأنهم فجأة بيلاقوا نفسهم لوحدهم لا أهل ولا أولاد وتفكيرهم ف الموت إنهم مفيش حد هيستلم جثمانهم ولا هيتصلى عليهم ولا هياخدوا فيهم عزاء”.
وتابعت: “للأسف بسبب التفكير السلبي ده الأعداد بتتزايد وكمان بسبب إنهم بيشوفوا جحود الأبناء لأهاليهم بيوصل إنهم يرفضوا يستلموا جثامين أهاليهم، انت لو اشتباه وروحت المستشفي مش هتخرج منها سليم اما لقطت العدوى او فعلا مريض، ودة مش عشان تقصير من الخدمة الطبية لا عشان نفسيًا هتتدمر والمناعة هتقل والفيروس هيلاقي ملعب حي يرمح فيه”.
الباقيات الصالحات
لكن حادثة جمعية “الباقيات الصالحات” والمختصة برعاية كبار السن ومرضى الزهايمر، جاءت لتكشف عن ازدياد الظلمة بداخلنا، حيث أوضحت الدكتورة عبلة الكحلاوي رئيس إدارة الجمعية، خلال مداخلة لها لـ برنامج “الجمعة في مصر”، المذاع على قناة “إم بي سي مصر”، أنه بعد اكتشاف 12 حالة كورونا بداخلها، خاطبت أهالي غير المصابين بضرورة استلامهم، مشيرة إلى “أن العديد من الأهالي رفضوا استلام أهلهم، لذلك قمنا بعزل الجميع في غرف مختلفة، ويتم متابعاتهم من خلال أطباء متبرعين”.
اقرأ ايضًا: علاج مصابي “كورونا” بـ”التأمين الصحي”.. كبار السن في فوهة البركان
التباعد الاجتماعي
ويقول الكاتب الأمريكي، جورج فريدمان، إنه إذا كان للتباعد الاجتماعي والأزمة الاقتصادية بسبب كورونا تأثير اجتماعي، فسيتم الإحساس بها أولاً في أدق مقياس للزلازل الاجتماعية وهو المنزل.
لذلك، والكلام لـ”فريدمان”،”عندما يتطلب الهيكل الطبي أن تغير العائلات سلوكها بشكل كبير، ويولد النظام الاقتصادي مثل هذا الخوف وعدم اليقين، يتم الشعور بالضغوط أولا في الأسرة. يمكن أن تنتشر الضغوط خارج الأسرة، ولكن الآن الأسرة هي المجال الوحيد الموجود، ويتم ترجمة كل هذه المخاوف في مكان واحد مغلق وهو المنزل”.
تشويهات اجتماعية
بينما أشارت الدكتورة، سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، إلى “أن تأثير فيروس كورونا اجتماعيًا لن يمر مرور الكرام على صحتنا النفسية أو حياتنا الاجتماعية، وهو ما نشاهده بوضوح في حوادث عقوق الوالدين التي انتشرت بكثرة منذ أزمة كورونا”، مضيفة:”لابد أن نخرج من خارج شماعة الخوف ونتحدث عن مشاكلنا الاجتماعية بعمق أكثر”.
وأضافت “خضر” لـ مصر 360، “أن ما يحدث من عدم تواصل أو زيارات بين الأبناء وأبائهم هو خلل في السلوك النفسي”، موضحة أن الازمة الراهنة ستحدث تشويهات اجتماعية لا حصر لها، وسنعاني منها أكثر من أعراض كورونا، مرجعة ذلك إلى “انغماسنا الكلي في الماديات وما يساق إلينا في الإعلام والدراما”.
غرامة وحبس
ويناقش مجلس النواب مشروع تعديلات على قانون العقوبات ليشمل توقيع عقوبة على عقوق الوالدين بالحبس مدة لاتقل عن 3 سنوات وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تزيد على 10 آلاف جنيه أو بإحدي هاتين العقوبتين كل من قام بعقوق والديه؛ سواء بالسب أو القذف أو الإهانة أو الترك وتضاعف العقوبة إذا ترتب على الفعل إحداث أضرار صحية بأي من الوالدين.
صلاة وزينة واحتفال بالشرفات.. أمهات يروين تجربتهن مع “عيد كورونا”
وترى “خضر”، أنه رغم الأهداف السامية لهذا المشروع إلا أنها لا ترحب بمثل هذه القوانين، حيث لا يجب أن توجد قوانين لتعليم الأبناء الرحمة والبر بآبائهم، مشيرة إلى أن هذا الأمر سيكون له آثار سلبية كثيرة.