كي نحكم على تجربة ما ونقوم بتقييم مخرجاتها، ينبغي علينا التوقف في المقام الأول حول ما طرحته التجربة نفسها من مقدمات، وحول أهدافها التي تود أن تحققها، وفقا لتحليلها لطبيعة الوضع الراهن.

ولكي لا نذهب بعيدًا حول مقاصدنا من هذه العبارة ندخل في لب المسألة بروية نظرا لطبيعة القضية والممرات الشائكة التي تتخللها من ناحية وتحيط بها من ناحية أخرى، وهذه القضية المقصودة هنا هي المشروع/ الرؤية التي طرحتها وشرعت في تنفيذها وزارة التربية والتعليم منذ تولي الدكتور “طارق شوقي” حقيبتها، والتي استندت على فرضية أساسية مفادها: أن التسارع في استخدام تكنولوجيا الاتصالات من شأنه أن يدخل تطورات حاسمة على منظومة التعليم في مصر، يمكن بدورها أن تحدث تطويرا ملحوظا، حيث يقول الدكتور شوقي معلقاً، ”نريد طلاباً يتعلمون من أجل النجاح في الحياة، لا من أجل الاختبارات فحسب“.

ويساعد مشروع دعم إصلاح التعليم في مصر، الذي يسانده البنك الدولي بمبلغ 500 مليون دولار عملية الإصلاح الطموحة الجارية في مصر.

ويستعين الإطار التعليمي o.2 (كما يطلقون عليه) الجديد بمنهج يستند إلى الكفاءة، ويركز على تجربة الطلاب، ويجري تعميمه حالياً جنباً إلى جنب مع إصلاح المنهج الدراسي الحالي، وهذا المنهج الجديد مدعوم ببرامج لدمج تكنولوجيا المعلومات تغطي المحتوى الرقمي، وأجهزة تابلت تُوزع على الطلاب، مع تقديم تدريب داخل الفصول، وإجراء اختبارات بواسطة الكمبيوتر.

ويجري نشر نظام التعليم 0.2 حيث يطرح منهجاً جديداً في الصفوف الأولى، فضلاً عن تدريب المعلمين، وتقديم دليل للمعلم، وفي الوقت ذاته، أطلق في عام 2016 بنك المعرفة المصري، بوصفه أكبر مكتبة رقمية ومركزاً إلكترونياً للمعرفة، ويهدف برنامج الإصلاح إلى إتاحة موارد التعلم الرقمي في جميع المواد الرئيسية لجميع الطلاب والمعلمين، من رياض الأطفال والصفوف الدراسية من الأول إلى الثاني عشر.

ولإحداث تغيير مجدِ في النظام بأكمله، سيتم تعميم نظام جديد للاختبار بواسطة الكمبيوتر، على المستوى الوطني، يهدف إلى تحويل تركيز الطلاب بعيداً عن الحفظ، وسيطبق نظام الاختبارات الجديد للمرحلة الثانوية، وعن ذلك يقول الدكتور طارق، ”نريد اختبار فهم الطلاب وليس حفظهم“، ويتيح النظام الجديد للطلاب اجتياز الاختبار حيثما كانوا، مع إمكانية وصولهم إلى جميع الموارد، الأمر الذي يمثل تحولاً كبيراً عن النظام السابق، الذي كانت تحفظ فيه الإجابات، وتتسرب فيه الأسئلة قبل إجراء الامتحانات.

هكذا يطرح الدكتور “طارق شوقي” بوضوح مدخلات ومخرجات المشروع الطموح الذي شرع في تنفيذه على الفور، رغم المقاومة الشديدة التي ووجه بها على المستوى المجتمعي والأكاديمي والإعلامي، من أطراف منظومة التعليم، بدءا من الطلاب، ومرورا بالمعلمين وأولياء الأمور وغيرهم، وانتهاء بخبراء التعليم في مصر، نظرا للإخفاقات التي حدثت عند تطبيق التجربة في الواقع الفعلي.

نعلم جميعا حجم منظومة التعليم الضخمة في مصر، والتي تمثل ما يقرب من 22 مليون طالب في المراحل التعليمية المختلفة، وما يقترب من 1,4 مليون معلم، يمارسون العملية التعليمية في 48 ألف مدرسة على وجه التقريب، وفقا لإحصاءات الوزارة، وهو ما يعني طبيعة خاصة لهذه المنظومة التعليمية ينبغي مراعاتها عند محاولة التدخل في مساراتها المعتادة منذ عقود خلت.

ونعلم جميعا أن هذه المنظومة قد تعرضت لعدد كبير _سابقا_ من محاولات التطوير وخاصة في العقود الأربعة الاخيرة. والتي أفرز معظمها إحباطات جسيمة عند أطراف العملية التعليمة برمتها وهو ميراث لا يمكن لنا تجاهله، وكان على متخذي القرار مراعاته وهم بصدد البدء في تنفيذ عملية مشروع التطوير الذي طرحه السيد وزير التعليم ومستشاريه، خاصة في ظل ردود أفعال متشككة حول محتوى وإجراءات التطوير المتوقعة.

من ناحية أخرى فقد شاب عملية التنفيذ قدرا من التسرع والتسارع (غير المبرر) من وجهة نظر كثير من الخبراء، في مثل هذه الحالات التي ترغب الوزارة فيها القيام بإصلاحات في منظومة التعليم، وما أكثرها، إذ وفقا لطرح الدكتور طارق شوقي على البنك الدولي فإن عملية التطبيق تستلزم تأهيل وتدريب القائمين على العملية التعليمية من المعلمين والإداريين والمسئولين وخاصة القيادات الدنيا والوسيطة، لتمكينهم من المعارف والمهارات والقيم التي تتعلق بالرؤية الجديدة، والتي تمثل نقلة نوعية، بل تكاد تكون قفزة نوعية، في منهجية التفكير، لا يمكن لها أن تتم عبر أوامر أو قرارات فوقية، مهما كانت رغبة هؤلاء الصادقة في تنفيذها، فنحن نتحدث هنا عن إعادة (فرمطة) – إن صح التعبير- لعقول، ومنهجية تفكير، ومنظومة قيم ظلت مسيطرة لفترات طويلة، وممارسات تأصلت عبر سنوات. وهو ما اتضح عند التطبيق العملي للمشروع في صورة مقاومة خفية من الداخل، فسره البعض من المناصرين للمشروع بمؤامرة على شخص الدكتور طارق شوقي، وعلى المشروع الذي كان مقدرا له أن ينقل المجتمع المصري إلى عصر المعرفة وتكنولوجيا المعلومات من خلال تحول شامل في منظومة التعليم في مصر، حيث انتهت صلاحية النظام التعليمي التقليدي، وآن الأوان لتجربة شيء آخر على حد قول الدكتور طارق شوقي.

نحن إذن أمام تجربة هامة كما هو مطروح في رسائل الدكتور طارق شوقي وخطابه الإعلامي: حيث يؤكد أن الهدف من هذا المشروع هو أن نزود الطلاب بالمهارات التي يحتاجون إليها لإقامة مجتمع يتعلم ويفكر ويبتكر، وهو هدف سام لا شك في ذلك، ولكن لا يؤمن منفذو التجربة (من المعلمين والإداريين) بجدواها، ليس هذا فحسب، بل يقاومها سرا أو علنا عدد كبير منهم، وهو الأمر الذي أثر بلا شك على عملية التطبيق ووضع القيادات العليا في مأزق حرج أمام الفئات المستفيدة من الطلاب وأولياء الأمور، وقدرتهم على إقناعهم بحتمية الإجراءات المتبعة، وجدوى تنفيذها، ومن ثم باتت هذه الإجراءات وكأنها قرارات فوقية، غير عابئة بأصحاب المصلحة من الطلاب، ينبغي على الجميع الانصياع لها كرها أو طوعا، وهذا النوع من القرارات غالبا ما يلقى تحايلات جمعية تفرغه من مضمونه، وتلفظه خارج بنية الثقافة المؤسسية (للمدرسة) التي يتبناها العاملون والمشاركون في هذه المؤسسة التي اتخذت طابعها الخاص عبر سنوات، وتأصلت جذورها في صميم عقل ووجدان أطرافها.

وهنا يطرح السؤال نفسه، هل كان على الدكتور طارق شوقي ومستشاريه اتخاذ مسارا آخر؟! وهل كان في الإمكان تعبيد الطرق الموصلة لهذا التغيير الجذري الذي ينشده المشروع بطريقة مغايرة؟!

في ظني أن قدرة أية تجربة جديدة على النجاح تستمد قوتها من قوة وتماسك عناصرها الداخلية في المقام الأول، وهو ما افتقرته تجربة الدكتور طارق شوقي – (o.2)- حيث غاب عنها عنصرا رئيسا وهو المعلمون، ومن ثم تعثرت خطواتها الأولى وكان الخذلان الأول للتجربة، وربما كان أمرا يمكن تجنبه إذا ما تدارسه القائمون على المشروع بتأن وأعدوا له بطريقة مختلفة تمكنهم من إعداد المعلمين لهذه القفزة النوعية الهائلة، من خلال تأهيلهم فكريا، وثقافيا، ومهنيا، للتعامل مع المتغيرات الطارئة، وتوفير البيئة المهنية المناسبة لهم داخل المدرسة وخارجها.

أما الأمر الثاني الذي كان عليهم التعامل معه بجدية تفوق ما تم بالفعل، فكان التعامل بفوقية –وتعال- غير متوقعة من مشروع يطرح رؤية تعليمية تتسم بالتفاعلية مع الطلاب، ولكنها تتجاهلهم منذ اللحظة الأولى لتنفيذ المشروع، وهو الأمر الذي وضع المشروع بعناصره المختلفة في مشهد يتسم بالتشكك والريبة، وأخرج الطلاب وبالتالي أولياء أمورهم من خانة الحلفاء والمناصرين إلى خانة الخصوم، وربما تتجلى هنا لحظة الخذلان ببراعة، فهؤلاء الطلاب بقدراتهم الذاتية على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة – كان من المفترض- أنهم يمثلون حائط صد في مواجهة عمليات المقاومة المتوقعة للرؤية الجديدة، وهو ما لم يحدث.

وهذه التحديات التي واجهت التنفيذ، يتعين معالجتها سريعاً، لضمان نجاح برنامج الإصلاح، وكما يرى الدكتور شوقي كان على الأطراف المعنية جميعها أن تتحمل مسؤوليتها لإتمام ذلك، ولكن ما حدث كان أمرا مغايرا لما توقعه القائمون على المشروع، ربما كنتيجة متوقعة لعدم قدرتهم على استقراء واقع منظومة التعليم في مصر من ناحية، ولتسرعهم وتسارعهم في إتمام عملية التنفيذ من ناحية أخرى. فبدا المشروع وكأنه عنصرا دخيلا على جسد المنظومة غير قادر على التفاعل بالدينامية المطلوبة لتحقيق المستهدف منه.

ونأتي للنقطة الفاصلة التي كان من شأنها أن تمنح المشروع حيوية يحتاجها، ونجاحا يسعى جاهدا للتشبث بتلابيبه، وهو العنصر الحاسم -في ظني- الذي كان قادرا على إتاحة فرصا عظيمة لتخطي العقبات المتلاحقة، ألا وهو عنصر التكنولوجيا الذي يبني المشروع رؤيته الأساسية على معطياته، ويقدم القائمين على المشروع مبرراتهم له من منطق حتميته للدخول إلى العصر الجديد، واللحاق بركب التقدم الآن وإلا فلن يحدث، ولكن ما حدث كان مغايرا تماما لما توقعته أدبيات المشروع، فالتكنولوجيا التي كانت ستنقل التعليم في مصر من 0.1 إلى 0.2 لا تتناسب قدرتها مع حجم المشروع وطموحاته، وقدرتها الاستيعابية لا تستطيع أن تقدم حلولا لهذا العدد الضخم من الطلاب، والبيئة المحيطة بكل تفصيلاتها تمثل بيئة عدائية وطاردة للأفكار الأساسية للمشروع، وهو ما اتضح من خلال الإخفاقات المتلاحقة في إتمام الامتحانات بالسهولة واليسر المتوقع، فالطلاب والمعلمين غير معدين أو مؤهلين بشكل جيد للتعامل مع “التابلت” رديء الصنع الذي تسلموه، وشبكة (الانترنت) في مصر لا تستطيع ببطئها وقدرتها الاستيعابية المحدودة التعامل مع هذا الحجم من الاستخدامات المتزامنة لأسباب تقنية واجتماعية وغيرها. وهكذا تجلت التجربة عبر إخفاقاتها وكأنها معوق للتعليم بدلا من أن تكون ميسرا له.

أخيرًا، إن التغيير والتطور أمر حتمي لا محالة، وضرورة تفرض نفسها على المجتمع، فيتفاعل معها ويستوعبها في صميم ثقافته وطرائق تفكيره، ومن ثم يصبح موضوع التغيير جزءا من المجتمع وثقافته، يدعم تطوره، ويؤكد قدرته على البقاء، في ظل تحديات عالمية جسيمة تطرح على المجتمع أسئلة صعبة تتعلق بوجوده واستمراره، ولكن في هذه الحالة ينبغي على القائمين على عملية التغيير التعامل مع معطيات الواقع ومتطلباته دون إنكار للتحديات أو تغاض عنها، أو إجبار على خوض تجارب جديدة غير مأمونة العواقب قد تصبح خبرات سيئة جديدة في رحلة الإصلاح للعملية التعليمية التي بدأت منذ عقود ولم تنته، في الوقت الذي لم تنتج فيه سوى مزيد من التراجع والتردي في أوضاع التعليم في مصرفمن خذل الدكتور طارق شوقي وزير التعليم هو الدكتور طارق شوقي الباحث والاكاديمي المتخصص في شئون تكنولوجيا التعليم، حين قبل بطرح مشروعاه هو في أعظم توسعاته وأكثرها ابتكارا مشروعا للمساندة التكنولوجية لعملية إصلاح شامل يجب أن تتم بالفعل، ليصبح هو – المشروع – عملية الإصلاح الشامل المنشودة.

في منظومة التعليم المصري هناك مشكلات واضحة ومحددة ينبغي التعامل معها ومنها على سبيل المثال، كثافة الفصول، الاحتياج لمزيد من المدارس والفصول بتجهيزاتها المتنوعة، غياب الجدية في التعامل مع قضية الإعداد المهني للمعلم بمستوياتها المختلفة، بدءا من قدراته المهنية وانتهاء بقضية الأجور، ومرورا بتغطية العجز في أعداد المعلمين وغيرها من القضايا المتعلقة بالمعلم، أضف إلى ذلك المناهج الدراسية غير المواكبة للتطور والتي ينبغي إعادة النظر في محتوياتها، من ناحية والطريقة المناسبة لتدريسها من ناحية أخرى، وهو ما يحتاج إلى تغييرات جذرية في طبيعة الثقافة المؤسسية للتعليم، وكما تعلمون فإن التغييرات الثقافية تستلزم وقتا وجهدا ضروريين، وطويلي المدى، وهو ما يستلزم صبرا، إذ لا يمكن التعامل معها بطريقة التغيير بالصدمة، وإلا ستلقى مقاومة حادة تعوق إدماجها ف المجتمع، وبالتالي نخسر فرصة قد لا تتكرر للحاق بركب التظور.