فتحت واقعة مقتل جورج فلويد، المواطن الأمريكي، من أصول إفريقية، “خنقًا” على يد أحد رجال الشرطة الأمريكية، الباب مجددًا لعودة مطالب حقوقية وجماهيرية للحد من ممارسات رجال الشرطة العنيفة والمتبعة في العديد من دول العالم، ومن أبرزها اللجوء إلى الخنق “في معظم الحالات” أثناء تأدية مهامهم، وهو الإجراء المتبع في كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا.

ما هو الخنق

الخنق هو الضغط على الرقبة بشكلٍ قوي ليتسبب في فقدان الوعي أو الوفاة بسبب حالة نقص الأوكسجين بشكلٍ متزايد في الدماغ.

ويحدث الخنق في حالات العنف والحوادث، كما تستخدم بعض الحيوانات المفترسة هذا الفعل، فتقوم بخنق فرائسها عن طريق العض قبل افتراسها، ويكون الخنق بعدة صور؛ منها الشنق بالحبل أو الأسلاك، أو الخنق باليدين والأصابع، أو التمكن من الرقبة بأي وسيلة أخرى، ويُعد الخنق أحد الأساليب التي تعمل على وقف تدفق الأوكسجين إلى الدماغ.

يحدد الأطباء الشرعيون 3 طرق لكيفية الموت خنقًا، وهي، عن طريق الضغط على الشرايين السباتية، أو الأوردة مما يتسبب في نقص التروية الدماغية، أو الضغط على الجيب السباتي فيتسبب في بطء حركة القلب، أو انخفاض في ضغط الدم، أو بالضغط على البلعوم أو الحنجرة فيتسبب في انسداد القصبة الهوائية، ما يمنع التنفس، وبالتالي يحدث الاختناق، كما حدث في حالة واقعة مقتل فلويد.

مظاهرات واسعة

بعد مقتل فلويد، ومثل عقب كل حادثة عنف تتجدد الأسئلة، لماذا يستخدم رجال الشرطة هذا الإجراء، وهل هناك ضرورة لاستخدامه ضد رجل رضي طواعية أن يجثو على ركبتيه أو يستلقي على الأرض نومًا ويديه مكبلتين من الخلف! وفي حال حدوث ذلك ما الضرورة أن يستمر أحد رجال الشرطة، بالضغط بأي وسيلة على رقبة شخص، وهو في وضع لا يسمح له بالمقاومة؟

هذه تساؤلات وشعارات رفعها المتظاهرون في مدن أمريكية وأوروبية شهدت مظاهرات واحتجاجات واسعة اعتراضًا على مقتل فلويد وقبله آخرين، من بين تلك البلدان كانت فرنسا.

تجدد قضية تراوري

ولكن ما علاقة باريس بواقعة مقتل فلويد، والمظاهرات التي شهددها المدن الأمريكية خلال الأسابيع الماضية؟ قبل نحو 4 سنوات مات مواطن فرنسي، من أصول إفريقية، يدعى أداما تراوري، كان يبلغ من العمر 24 سنة، توفى فى حجز الشرطة بعد فراره من فحص الهوية خارج باريس.

ووفقًا لما أفادت به شقيقته، آسا تراوري: فإن الشرطة أخبرتها أن كلماته الأخيرة كانت “لا أستطيع التنفس”، مرددًا كلمات فلويد نفسها.

اقرأ أيضًا:

بالفيديو.. وحشية الشرطة الأمريكية خلال احتجاجات “فلويد”

 

جددت واقعة مقتل فلويد، قضية تراوري وأبرزتها من جديد كقضة رأي عام، حيث رفع متظاهرون خلال الأيام الماضية، صور تراوري في شوارع فرنسا، ولافتات مدون عليها “حياة السود مهمة” للتنديد بالعنصرية ومقتل فلويد فى مينيابوليس.

إلغاء حركات الخنق

“استخدام أماكن الاختناق ــ التي وصفها بالضغط على عنق الشخص أو حلقه ــ طريقة خطيرة” ولن يتم تدريسها بعد الآن في تدريب الشرطة”، هكذا أعلنها صريحة وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستنر.

وقال كاستنر: “أسمع الانتقاد، والصرخة القوية ضد الكراهية”، فى إشارة إلى احتجاجات ومظاهرات تحت شعار “حياة كبيرة سوداء” جرت فى عدة مدن فرنسية رئيسية الأسبوع الماضي.

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، في خطوة استباقية وفي محاولة لإرضاء المتظاهرين الفرنسيين، أعلن وزير الداخلية الفرنسي، أن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون طلب من وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه تولى ملف قضية “تراورى” وإفادته بمعلومات عنها.

كما طلب ماكرون من الحكومة الفرنسية، عقب لقائه برئيس الوزراء إدوارد فيليب، تقديم مقترحات سريعة له لتحسين أخلاقيات الشرطة، فى مواجهة تزايد المظاهرات ضد العنصرية وعنف الشرطة، بحسب صحيفة “لوموند” الفرنسية.

اعتراضات رجال الشرطة

قرارات وزير الداخلية الفرنسي، لم تعجب رجاله والذين تحدوا حظرًا على التجمعات الجماهيرية احتجاجًا على ما يرون أنه نقص في الدعم الحكومي، ونظموا احتجاجًا وسط باريس لإظهار غضبهم من القيود الجديدة على أساليب الاعتقال، بما في ذلك حظر الاختناق، واتهامهم بالعنصرية، حيث نظم رجال الشرطة مظاهرة محدودة ومسيرة شهدها شارع الشانزليزيه، الجمعة، وجاءت المسيرة بعد فشل اجتماع نقابات الشرطة يومي الخميس والجمعة مع وزير الداخلية الفرنسي، لمناقشة التغييرات في تكتيكات الشرطة بعد إعلانه أن الشرطة لن تتعلم بعد الآن القبض على المشتبه بهم من العنق أو الضغط على رقابهم، في وقت نقلت فيه وسائل إعلام فرنسية، أن “كاستنر” لم يصل إلى حد حظر أسلوب آخر ـــ الضغط على صدر المشتبه فيه، (تم إلقاء اللوم عليه أيضًا لأنه يؤدي إلى الاختناق والموت المحتمل).

 

ودافع فابيان فانهيميلريك من اتحاد الحلفاء قائلًا: “الشرطة الفرنسية هي الأكثر سيطرة في العالم، لذلك عندما يكون هناك بعض الهفوات من قبل أقلية صغيرة، لا توصم كل الشرطة”، متهمًا السياسيين بالاستجابة على عجل لأزمة في الولايات المتحدة “ليس لها علاقة بنا”.

بينما قال جان بول ميجريت، قائد نقابة الشرطة: “إنه لا يعرف حتى ما يتحدث عنه”، مضيفًا: “في بعض الأحيان لا يمكنك أن تطلب من الناس أن يتبعوك ليتم القبض عليهم. كل يوم، أنت تتعامل مع أشخاص مجانين تمامًا”.

البنادق الصاعقة بديلًا

مازال الحديث دائر بين قيادات الشرطة الفرنسية، حيث طرحت الأسبوع الماضي أفكارًا جديدة بديلة لأسلوب “خنق المشتبه فيهم أثناء الاعتقال”، من أبرزها توسيع استخدام البنادق الصاعقة، والتي لا تتوفر إلا لعدد قليل من الضباط المتخصصين.

عقبة في طريق ترامب

وبينما عجلت الحكومة الفرنسية، وأعلنت موقفًا واضحًا لتغيير بعض ممارسات الشرطة وإجراءاتها المتبعة منذ سنوات، مازالت قضية فلويد تمثل عقبة أمام الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والذي بدا أنه يخفف من حدة انتقاداته للمتظاهرين في محاولة لكسب الود قبل انطلاق جولة الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل.

اقرأ أيضًا:

أخطر من “كورونا”.. العالم ينتفض ضد “العنصرية”

خرج ترامب، الجمعة، متحدثًا إلى قناة “فوكس نيوز” قائلًا: “إنه يؤيد منع رجال الشرطة من اللجوء إلى حركات الخنق [في معظم الحالات] أثناء تأدية مهامهم”.

لكنه عاد ليفسد محاولته لاحتواء الأزمة عندما اعتبر أن اللجوء إلى الخنق قد يكون أمرًا مفهومًا ويمكن تقبله في بعض الحالات التي يجد فيها شرطي واحد نفسه في مواجهة أحد مخالفي القانون، وفقًا لوكالة رويترز.

وأضاف ترامب للقناة الأمريكية، “لا تعجبني حركات الخنق… ولكن أحيانًا إذا كنت في مواجهة شخص لوحدك، فإن الأمر صعب”، مستكملًا: “في اعتقادي سيكون من الجيد جدًا، بصفة عامة، وضع حد لها (حركات الخنق)”.

اقرأ أيضًا:

احتجاجات “فلويد” في العالم.. “سمعة أمريكا المضيئة” تنطفيء

تصريحات ترامب لم تعجب الكثيرين حيث إنه لم يقرر بشكل نهائي منع هذا الإجراء وما يتبعه من مشكلات بسبب ممارسات الشرطة الأمريكية.

الشرطة تقتل 3 مواطنيين يوميًا

ترصد دراسات مختلفة، قيام الشرطة الأمريكية بقتل 3 أشخاص يوميًا، أي أكثر من 1000 شخص سنويًا، وهو الرقم الذي يفوق ما يذكر في التقارير الرسمية الصادرة في الولايات المتحدة.

ونشرت المجلة الأمريكية الشهيرة، “Public Health” عام 2018 تقريرًا نتيجة لجهود مشتركة ومكثفة من باحثين وأخصائيين اجتماعيين، من جامعتي “كورنيل” و”واشنطن، يظهر ما تخفيه التقارير الرسمية، إذ سجل ووثق كل حالة وفاة فردية تحدث أو تذكر في وسائل الإعلام المختلفة.

وبحسب التقرير توصل الباحثون إلى أن الأرقام الرسمية المعلنة للوفيات الناجمة عن ممارسات الشرطة، تظهر نصف الأرقام الواقعية والموثقة، فقط، في حين أكد تعرض السكان من أصول إفريقية، إلى خطر القتل من قبل الشرطة، أكثر بثلاثة أضعاف مقارنة بالسكان البيض في عموم الولايات المتحدة.

اقرأ أيضًا:

جورج فلويد.. سكين “بايدن” الحادة للإجهاز على “ترامب”

مقارنة مصرية

يرى الدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، وجامعة القاهرة والمدير التنفيذي لمركز شركاء التنمية للبحوث، أن “المسألة تستحق التأمل على كل حال، والمفترض هو احترام كرامة الإنسان أيًا كان وضعه الاجتماعي أو أصوله العرقية”.

 

 

ويقول “السيد” في تدوينه له على “فيس بوك” : ” إن أسلوب التعامل مع جورج فلويد الذى لقى نحبه في عمل وحشي هو الأسلوب المعتمد رسميًا من شرطة منيابوليس مع من هم مشتبه بهم”.

اقرأ أيضًا:

من الربيع العربي إلي واشنطن.. هل يطيح مقتل “فلويد” بمستقبل ترامب السياسي؟

 

ويضيف السيد: “اندهشت أيضًا عندما عرفت من القنوات التلفزيونية الفرنسية أن الأسلوب المقابل لدى الشرطة الفرنسية هو ما يسمي حرفيا الخنق etranglement أي الإمساك بالعنق بقوة بعد طرح المشتبه به أرضًا، ولكن مع تجنب أن يؤدي ذلك إلي موته”.

وفي مقارنة بين ممارسات الشرطة المصرية وما حدث في واقعة فلويد يقول “السيد”: “أعرف طبعًا حالات إساءة معاملة من الشرطة لدينا للمواطنين وخصوصًا من الفقراء عندما يلقى القبض عليهم، وطبعًا أعرف ما جرى للمرحوم خالد سعيد على يد رجلي شرطة في الإسكندرية.. ولكن أتصور مع ذلك أن أساليب شرطة منيابوليس والشرطة الفرنسية ليست معتمدة لدينا في مصر”.

ويرى “أن الأمر قد لا يتجاوز صفعات على الوجه، وسبب ذلك في رأيه أن المواطنين المصريين يستسلمون بسهولة، ومن ثم لا حاجة لدى قوات الشرطة لاتباع مثل هذه الأساليب، فضلًا عن أن هذه الأساليب في الولايات المتحدة وفرنسا تمارس أساسًا مع أقليات عرقية مضطهدة، ولا توجد لدينا في مصر هذه التفرقة العنصرية، ولا يشعر رجال الشرطة المدنية أنهم يتعاملون مع بشر يختلفون معهم عرقيًا”.