عرفت مصر الإسلامية وفرة في المؤرخين الذين كتبوا عن تاريخها في العصور الوسطى، لكن من بين الجميع يظل تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، على قمة هرم التأريخ لمصر في العصور الوسطى، فهو مؤرخ بدرجة مفكر، ذاب عشقًا في القاهرة، فعاش أكثر من نصف حياته يكتب تاريخ مصر منذ الفتح العربي في منتصف القرن السابع الميلادي حتى وفاته قرب منتصف القرن الخامس عشر، فأصبحت كتبه المصدر الأول لتاريخ مصر الإسلامية.

أحمد بن علي المقريزي، مصري ولد في القاهرة في حدود سنة 766 هجريا/ 1366 ميلاديا، وعاش الرجل الذي تعود أصول والده إلى بلاد الشام، في حارة برجوان المطلة على شارع القصبة العظمى المعروف في يومنا هذا باسم شارع المعز، ولم تكن فكرة المواطنة الحالية معروفة وقتذاك، لذا لم ير المقريزي في القاهرة إلا موطنه، ونمت لديه ما يمكن وصفه بالنزعة المصرية التي حولته لمدافع شرس عن تاريخ مصر، لكن هذا لم يجعله بأي حال من الأحوال يخرج عن التأريخ الواعي لمصر الإسلامية، بل أنه وجه الانتقاد المرير إلى السلطة الحاكمة في عصره بعدما رأى علامات الانهيار وهي تتفاعل على الأرض، فالمقريزي وضع برنامجه الإصلاحي الذي لم يتم تبنيه من قبل السلطة المملوكية التي واصلت رحلة انهيارها ثم سقوطها أمام العثمانيين بعد وفاة المقريزي بخمسة وسبعين عامًا.

الشعور المبكر بالهوية المصرية نجد أوضح صوره فيما كتبه المقريزي في مقدمة كتابه الأساس “المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار” إذ يقول: “وكانت مصر هي مسقط رأسي، وملعب أترابي، ومجمع ناسي، ومغنى عشيرتي وحامَّتي، وموطن خاصَّتي وعامَّتي، وجوِّي الذي ربِّى جناحي في وكره، وعش مأربي فلا تهوى الأنفس غير ذكره”. ومن المعروف أنه ألف الكتاب ولم يهده إلى أيّ من حكام عصره، فهدفه هو إشباع رغبة علمية نفسية في المقام الأول.

ونلاحظ الإحساس بالخصوصية المصرية –حتى لا نقول التعصب للمصرية- عند المقريزي في كتاب “اتعاظ الحنفا في أخبار الأئمة الخلفا” إذ يدافع عن الفاطميين في مواجهة اتهامات المؤرخين العراقيين والشاميين قائلًا: “ومما يدلك على كثرة الحمل عليهم [أي الفاطميين] أن الأخبار الشنيعة، لا سيما التي فيها إخراجهم من ملة الإسلام، لا تكاد تجدها إلا في كتب المارقة من البغداديين والشاميين، كالمنتظم لابن الجوزي، والكامل لابن الأثير، وتاريخ حلب لابن أبي طي، وتاريخ العماد ابن كثير، وكتاب ابن واصل الحموي، وكتاب ابن شداد، وكتاب العماد الأصفهاني، ونحو هؤلاء. أما كتب المصريين الذين اعتنوا بتدوين أخبارها [أي أخبار الفاطميين] فلا تكاد تجد في شيء منها ذلك البتة”.

ونرى المقريزي ينتصر لمؤرخي مصر الإسلامية على غيرهم فنراه يقول في رده لرواية المؤرخ الموصلي ابن الأثير (ت630هـ/1233م) عن الخليفة الإمام الفاطمي المعز لدين الله (حكم 341-365هـ/931-975م): “ليس الأمر كما قال ابن الأثير، فقد حكى الفقيه الفاضل المؤرخ أبو الحسن بن إبراهيم بن زولاق المصري في كتاب سيرة المعز -وقد وقفت عليها بخطه رحمه الله- أخبار المعز منذ دخل مصر إلى أن مات يومًا يومًا… وأن ابن زولاق أعرف بأحوال مصر من ابن الأثير خصوصاً المعز، فإنه كان حاضراً ذلك ومشاهداً له، وممن يدخل إليه ويسلم مع الفقهاء عليه، ويروى في هذه السيرة أشياء بالمشاهدة، وأشياء مدَّته بها ثقات الدولة وأكابرها، كما هو مذكور فيها؛ إلا أن ابن الأثير تبع مؤرخي العراق والشام فيما نقلوه، وغير خاف على من تبحر في علم الأخبار كثرة تحاملهم على الخلفاء الفاطميين وشنيع قولهم فيهم، ومع ذلك فمعرفتهم بأحوال مصر قاصرة عن الرتبة العليَّة، فكثيراً ما رأيتهم يحكون في تواريخهم من أخبار مصر ما لا يرتضيه جهابذة العلماء، ويرده الحذاق العالمون بأخبار مصر؛ وأهل كل قطر أعرف بأخباره، ومؤرخو مصر أدرى بماجرياته”.

وضع المقريزي قاعدة مهمة في كتابة التاريخ بالاعتماد على كتابات كل إقليم أو دولة، باعتبارهم الأقرب إلى الأحداث والأقدر على فهمها وتحليلها، والأهم أنه في حقيقة الأمر رد على حملة تشويه تعرض لها التاريخ المصري على يد مؤرخين السلطة العباسية والدول التي تدور في فلكها، فخلال الصراع بين بغداد العباسية والقاهرة الفاطمية، عندما ناطحت خلافة الفاطميين خلافة العباسيين، أطلق الأخرين ما يمكن وصفه بحملة تشويه ضد الفاطميين، ظلت حية بعد انتهاء الصراع بينهما، فأخذ مؤرخو الشام والعراق موقفا سلبيا من تاريخ مصر الفاطمية، لذا كشف المقريزي بوعي نافذ هذه الحملة وكتب تاريخ الفاطميين بناء على مصادر مصرية أصلية.

خص المقريزي تاريخ مصر الإسلامية بسلسلة من التواريخ بداية بكتاب “عقد جواهر الأسفاط في أخبار مدينة الفسطاط”، وهو عن تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي حتى سقوط دولة الإخشيديين، ثم كتاب “اتعاظ الحنفا في أخبار الأئمة الخلفا”، في تاريخ الفاطميين، ثم كتاب “السلوك لمعرفة دول الملوك”، والذي خصصه لتاريخ الأيوبيين ثم المماليك حتى قريب وفاته العام 845هـ/1441م، وهناك “المقفى الكبير”، و”درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة”، وكلاهما في فن التراجم، إذ خصص المقريزي الكتاب الأول لتراجم للبارزين من أبناء مصر أو ممن وفدوا عليها أو أقاموا بها على مدار التاريخ المعروف حينذاك، وجاء الثاني في تراجم معاصري المقريزي.

أما كتاب المقريزي الأساس فهو “المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار”، المعروف اختصارًا باسم “الخطط المقريزية”، وهو واحد من أهم كتب “الطبوغرافيا”؛ وهو نوع من الجغرافية التاريخية الإقليمية، والذي تميز فيه المؤرخون المصريون على جميع مؤرخي العصور الوسطى سواء في العالم الإسلامي أو أوروبا. في كتاب المواعظ يربط المقريزي بين الحجر والبشر، تتحول شوارع القاهرة إلى أنهار تجري فيها الأحداث والوقائع التاريخية، يعيد تركيب تاريخ العاصمة المصرية في العصور الوسطى سياسيا واقتصاديا واجتماعيا على أرضية التاريخ، وهو كتاب كنز لأي قارئ لتاريخ مصر في العصور الوسطى، لا يفقد قيمته ويعد جوهرة التاج في كتب تاريخ مصر في العصور الوسطى.

جوانب أهمية المقريزي لا تتوقف على تأريخه لمصر معتمدًا في ذلك على أهم المصادر، بل هناك جانب آخر من جوانب أهمية هذا المؤرخ المصري، إذ ربما يكون المقريزي هو الذي فهم نظرية العمران لابن خلدون وعمل على تطبيقها دون غيره من أهل عصره، وقبل فهم العصر الحديث عموما له والالتفات لأهمية صاحب المقدمة، وعمل المقريزي على تطبيق نظرية أستاذه في كتبه، وهو رأيه ردده أكثر من باحث، إذ قدم المقريزي دراسة في عوامل خراب الإقليم المصري في عصر سلاطين المماليك الشراكسة في كتاب “إغاثة الأمة بكشف الغمة”؛ وهو محاولة لرصد أسباب تراجع مصر الاقتصادي على أرضية سياسية بردها إلى ظلم الحاكم وجشعه وسوء تدبيره، وتقديم لمحة مهمة ترتب الفوضى السياسية كمسبب أساسي لموجات الغلاء التي تنتج بدورها (بسبب سوء التغذية) حالات الوباء والطاعون ما يؤدي في المحصلة إلى شيوع الموتان، في أقوى إدانة لفشل النظام السياسي لدولة المماليك. فضلا عن الإشارات الواعية والفكرية والنقدية في كتابه التاريخية الأخرى، ويبدو ذلك لاستيعابه نظرية أستاذه ابن خلدون، التي أودعها مقدمة كتابه الشهير “العبر وديوان المبتدأ والخبر”، فابن خلدون التونسي زار مصر في حدود سنة 784هـ/ 1382م، وظل بها حتى وفاته سنة 808هـ/1406م.

يشيد المقريزي بأستاذه في كتبه الذي يصفه دوما بـ “شيخنا”، ويقول عنه في كتابه “درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة”: “هو النخبة التي قل أن يأتي بمثلها الدهر، والتاج الذي علا قمم رؤساء العصر، بما انطوى عليه من غزير المعارف والعلوم، وتحلى به من بديع المدارك والفهوم… أو تكلم في العلوم جاء البحر الذي لا يتوسط ثبجه، ولا تخاض لعظمه لججه، إلى غير ذلك من عظيم الحشمة والوقار، وجليل الهيبة والفخار. يجمع إلى حسن الوجه والملاحة رصانة العقل والرجاحة، مع الغاية في فصاحة المنطق وبداعة المحاضرة، وعذوبة المحادثة والمسامرة، وكثرة الأدب وحسن المعاشرة، وتفجر ينابيع العلوم والمعارف عند المذاكرة”.

ويصف المقريزي كتاب ابن خلدون ومقدمته الشهيرة قائلا: “هو لعمري نادرة عجيبة، ودرة بديعة غريبة، سيما مقدمته التي لم يُعمل عليها مثالها، وأنه لعزيز أن ينال مجتهد منالها، إذ هي زبدة المعارف والعلوم، ونتيجة العقول السليمة والفهوم، توقفك على كنه الأشياء وتعرفك حقيقة الحوادث والأنباء، كأنما تُعبر عن حال الوجود، وتنبئ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر النظيم، وأعذب من الماء مرّ به النسيم”.

كانت الصدفة أن دفن المقريزي إلى جوار أستاذه في مقابر الصوفية خارج باب النصر، أحد أبواب القاهرة، لكن الحاضر لم يحفظ ذكرى مؤرخ القاهرة الأشهر، إذ تم هدم مقابر الصوفية في عام 2001، ومعها طبعا مقابر ابن خلدون والمقريزي لشق طريق شمال سور القاهرة، هكذا لم نستطع الحفاظ على قبر أهم من كتب عن القاهرة وتاريخها، لم نحفظ ذكرى المؤرخ المصري حتى النخاع.