من المدهش، بل ودعني أقول لك من المحزن أن هناك قطاعات واسعة من اليسار تدافع بشراسة عن من يحكمون الصين، بل وهناك من زار هذا البلد، وعاد ليرسم صورة وردية لها، وهناك من كتب يتمنى أن تحكم الصين عالم ما بعد فيروس الكورونا، وتنهي إلى الأبد ما يسمونه ب”الإمبريالية الأمريكية” التي تسيطر على العالم، بعد انهيار الإتحاد السوفيتي.  

 تنويعات اليسار التي أقصدها في الشرق الأوسط تضم قوميين (ناصريين وبعثيين) وشيوعيين، أما سبب دهشتي هي أن خطاب أغلبهم يختلف تماماً، بل ويتناقض إلى حد الفجيعة مع دعمهم للديكتاتورية المتوحشة في الصين، وإليك بعض الأمثلة:  

 يقولون أنهم مدافعون أشداء عن الحرية، في حين يؤيدون من يحكمون الصين، وهو دون أدنى شك نظام قمعي خارج التاريخ، ما زال يعتمد نظام الحزب الواحد ويرفض بشكل قطعي وجود أي أحزاب سياسية أخرى، أي لا توجد أي حريات عامة، وهي كما يعلمون حق أساسي من حقوق الإنسان، الحق في حرية التعبير، وفي حرية التنظيم، بمعنى من حق المواطنين أن ينظموا أنفسهم في أحزاب ونقابات وجمعيات للدفاع عن مصالحهم. 

 يقول المدير التنفيذي لـ “هيومن رايتس ووتش” كينيث روث، بمناسبة إطلاق “التقرير العالمي 2020″،  في الداخل، أنشأت الحكومة الصينية دولة رقابة واسعة، أغلقت الجماعات المدنية، وأسكتت الصحافة المستقلة، وقلّصت بشدة من المحادثات عبر الإنترنت. تنتهك أيضا بشكل خطير الحريات المحدودة لهونغ كونغ في ظل “دولة واحدة ونظامان”. في شينجيانغ، أنشأت السلطات نظاما مرعبا للمراقبة للسيطرة على ملايين الأويغور وغيرهم من المسلمين الترك، واحتجزت تعسفيا مليون شخص لغرض التلقين السياسي القسري.

 ويضيف روث إن بكين جعلت التكنولوجيا محورية في قمعها، للتدخل والسيطرة على خصوصيات الناس والهدف هو هندسة مجتمع خالٍ من المعارضة.

 ليس هذا فقط ولكن الصين تشن هجوما مكثفا على النظام العالمي للدفاع عن حقوق الإنسان. أي أنها تحاول هدم ما وصلت إليه الإنسانية من حقوق بديهية للبشر،  وتستخدم الآن نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي بشكل متزايد لعرقلة الجهود العالمية لمحاسبتها على قمعها. 

 فهل هذه هي الجنة التي يدافع عنها اغلب اهل اليسار ويريدون نسخها في الشرق الأوسط؟ 

 يقول اغلب اهل اليسار في خطابهم انهم يدافعون عن الفقراء عموماً وعن الطبقة العاملة بشكل خاص. في حين انهم يؤيدون الصين التي تستغل شعبها اسوء استغلال، يعملون بأجور منحطة، سواء لدى الشركات الصينية أو الشركات عابرة القارات، وتحصل الحكومة على الفرق، أي هي هنا سمسار عمال، يحصلون على أجور مرتفعة من هذه الشركات ويعطون العمال أجور متدنية.  

  شاهدت بعيني في أواخر الثمانينيات القرن الماضي عمال وعاملات أرسلتهم الحكومة الصينية إلى العراق للعمل في احد الشركات الكبرى لصناعة النسيج في مدينة الديوانية، يعملون في ظروف غاية في القسوة ويحصلون على أجور متدنية من حكومتهم، والتي تحصل هي على الأجور العالية من الحكومة العراقية. أي أنها سمسار يمتص عرق العمال.  

  داخل الصين لا يوجد حرية تأسيس النقابات ، لكن لكل مهنة نقابة واحدة تحت سيطرة الحكومة. ولذلك تضيع حقوق العمال وستجد اجور متدنية  ايضاً وعمل اضافي بدون اجر مثل احدى الشركات التي تنتج أجزاء من منتجات آبل العالمية. أو يتم اجبار العمال علي التعرض غير السليم للمواد السامة والعمل على الآلات دون تدريب مناسب. 

 لذلك كان طبيعياً أن يصل عدد الاحتجاجات والإضرابات ما يقرب من 600 في عام 2017 وحده ، لكن التقديرات التي تشير إلى الإضرابات غير المبلغ عنها في السنوات الأخيرة أعلى بكثير.الحكومة الصينية تتخذ إجراءات صارمة ضد النشطاء – في مارس 2016 ، حُكم على ثمانية عمال بالسجن لمدة تصل إلى ثمانية أشهر لمجرد اعتراضهم على أجورهم المنخفضة في الأماكن العامة. 

 إن الازدهار الاقتصادي للصين مبني على “ظهور عمالها”، أي انه مبني على الأجور المتدنية وغياب حقوق العمال، لكي يستطيع من يحكمون الصين تصدير منتجات رخيصة يكسبون منها وحدهم. 

  من المؤكد أن اغلب اهل اليسار يعرفون ان الصين تحتجز حوالي مليون انسان من اقلية الإيغور وأبناء الأقلية الإثنية الكازاخية وغيرهم من المسلمين في مقاطعة شينجيانغ، في معسكرات اعتقال وتجبرهم على العمل بدون أجر في مصانع لإنتاج الملابس والسجاد ولوازم التنظيف وغيرها من السلع لتوزيعها محليا وربما دوليا.” 

 فكيف يمكننا ان نصدق اليسار عندما يتحدث عن حقوق العمال والفقراء؟ 

 يقولون ليل نهار أننا لا يمكن ان نصل الى الرفاهية إلا عبر الإشتراكية، لكنهم يدافعون ليل نهار عن نظام تخلي عن الإشتراكية نهائياً، واختار ما يمكن أن نسميه ب”الرأسمالية المتوحشة”، والتي تستنسخ بدايات الرأسمالية الغربية المتوحشة، والتي دون شك تأنسنت كثيراً على مر السنين.  

 فكيف نصدق اليسار عندما يقول لنا ان الاشتراكية هي الحل؟ 

 الحقيقة ان اغلب اهل اليسار يدعمون طوال الوقت انظمة الحكم الديكتاتورية مثل روسيا وفنزويلا وكوبا وغيرهم وغيرهم. وكانت جريمتهم الكبرى التي لم يتعلم اغلبهم منها للأسف، هي الدفاع الإمبراطورية الإستعمارية الروسية التي نعرفها باسم الإتحاد السوفيتي. هذه الإمبراطورية الاستعمارية التي حكمت بالقوة شعوب البلقان، وتدخلت بالسلاح لفرض نظام حكم كما حدث في بولندا. كما أن الإتحاد السوفييتي أول من ساند الصهيونية في صراعها المسلح للاستيلاء على فلسطين. دعمهم بالسلاح ودعمهم باليهود الروس الذين كانت تحملهم الطائرات إلى فلسطين. 

 ومع ذلك فهم فهم كانوا ولا زالوا يهاجمون “الإمبريالية الأمريكية”، وهذا حقهم، لكن الإمبريالية السوفيتية “جميلة ورائعة”. 

 رغم أن المقارنة بين الغرب والصين مجحفة، فالحضارة الغربية لم تقدم فقط تقدم علمي وتكنولوجي مذهل، ولكنها قدمت قيماً انسانية رفيعة، أهمها على الإطلاق حقوق الإنسان، والتي يعيش في ظلها شعوب الغرب في رفاهية وحرية. بل ودعني اقول ان اغلب اهل اليسار في بلادنا إذا قرروا الهجرة فلن يختاروا الصين ولكنهم سيختارون الغرب. 

 اكره الغرب وانتقده كما تشاء لكن لا تسوق لنا انظمة ديكتاتورية متوحشة. هذا لا يعني ابداً تأييد من يحكمون البلاد الغربية، ولا أزعم ابداً انهم  ملائكة، فلديهم اخطاء وجرائم دون شك، وعلينا التصدى لأي انتهاكات ضد حقوق الإنسان في أي مكان في العالم، سواءً في الشرق أو الغرب، سواءًمن الذين نتفق معهم ايديولوجياً أو نختلف معهم. هذه ابسط قواعد الاستقامة الأخلاقية والإنسانية. ولكن عندما يتفرغ اغلب اهل اليسار لشيطنة الغرب، وتمجيد ديكتاتوريات متوحشة مثل الصين. فهذا في الغالب الذي يحركهم ليس قيماً إنسانية، ولا تحركهم مصالح الشعوب، ولكن ايديولوجيا فاسدة، أفسدت “ضميرهم الإنساني”  وحولتهم إلى “عبيد” ايديولوجيات افسدت عقل وضمير شعوب الشرق الأوسط،انهم للأسف يجرجرون بلادنا إلى الخراب.   

* مدير المعهد الكندي للدراسات الإسلامية