من وقت لآخر تتردد نغمة الدفاع عن قدرة الطقوس الدينية مسيحية كانت أو إسلامية على عدم التأثر بالوباء الحالي (كورونا)، فهنالك من طالب بفتح المساجد في ذروة ارتفاع حالات الإصابة بالفيروس وآخرين هاجموا الأطباء الذين اعتبروا طقس التناول في القداس مساعدًا على انتشار الوباء، إذ أن التناوب على استخدام نفس الملعقة بين أكثر من شخص يجعل الجميع معرضين لخطر العدوى إن كان بينهم مُصاب بالفعل، طبعًا هذا رأي الطب، أما بعض الأساقفة فكان لهم رأي آخر.

يقول أحدهم إنه لا يمكن لدم المسيح أن ينقل عدوى، فحسب الاعتقاد المسيحي أن ما يتم تناوله بالملعقة هو دم “يسوع” نفسه إنما على هيئة أخرى كالنبيذ مثلًا، وأن قطعة الخبز ما هي إلا قطعة من جسده في حقيقتها، وهكذا فإن دم المسيح كفيل بالتغلب على الفيروس أو على الأقل تحجيمه وعدم إعطاء فرصة له للانتقال بين أبناء الرب المؤمنين بضرورة إتمام الطقس بشكله الكامل.

ولكن هل سمع هؤلاء الأساقفة بقصة تمثال المسيح العجائبي إبان كارثة الطاعون؟

تقول القصة إنه كان هناك تمثال من الخشب الملون يُدعى “المسيح العجائبي”، استخدمه أساقفة روما للبدء في مسيرات طافت الشوارع لأكثر من أسبوعين، ترتفع فيها الأصوات مناجاة للرب للتغلب على هذا الوباء الفتاك، وكأنك في الإسكندرية عام 2020، على كل حال فالطاعون كما كان ينتقل بلدغات البراغيث أو عن طريق القوارض فكذلك كان لرذاذ الناس دور في انتقال العدوى، لذا فعلميًا كان تمثال المسيح العجائبي مجرد حصان طروادة الذي استخدمه الطاعون لتوسيع بؤرة انتشاره في روما وهذا ما قد حدث.

 

قبل ذلك قام بعض المسيحيين المتشددين بحضور القداديس في الشوارع إضافة إلى حفلات جلد جماعية يقوم بها الناس لأنفسهم تكفيرًا لخطاياهم، وحينها كان الطاعون الأسود يضرب بقوة مما أدى إلى انتشار الوباء أكثر فأكثر.

حتى أن بعض النظريات التاريخية تقول إنه واعتمادًا على خرافة تتهم القطط بأنها تجسد الشياطين انطلقت حملات قتل تلك الكائنات الصغيرة السوداء منها خصيصًا، الأمر الذي أدى إلى زيادة أعداد القوارض والبراغيث بشكل غير مسبوق وهكذا تم تأجيج انتشار أوبئة الطاعون.

اقرأ أيضًا:

لماذا يوافق المصريون على انتهاك الهواتف الذكية لحياتهم الشخصية؟

 

في فيلم ابن سينا The Physician وبغض النظر عن المرجعية التاريخية التي استند عليها الكاتب في سرد قصته عن الطاعون، ذكر أن تشريح الجثامين كان خطيئة لذلك وعندما انتشر الوباء في بلاد فارس لم يستطع الأطباء معرفة آلية مواجهة هذا الموت القادم إليهم والذي حصد أرواح الكثيرين، حتى خاطر أحد الأطباء الشباب وقام بتشريح جثمان أحد المتوفيين بالطاعون وبدأ في دراسته العلمية الحقيقية والتي أدت فيما بعد إلى مواجهة أكثر جدية أوقفت عداد الأموات هناك، فماذا لو وافق شيوخ فارس مبكرًا ألم يكن بوسع العديد من المرضى أن ينجو من هذا الوباء؟.. والآن هل بالفعل كل ما هو مقدس يجب ألا يخضع للعلم؟.. ما الفارق بين عالم الأوبئة الذي يحذر من التجمعات أو تبادل استخدام الأدوات دون تطهير وبين طبيب يكتب لك علاجًا يشفيك من مرض ما؟، لم تجادل الأول وتنصاع لرأي الثاني بلا نقاش؟، وأخيرًا لماذا يجب علينا أن ندفع بعدد أكبر من الضحايا قبل أن ننحاز إلى رأي أهل الاختصاص فيما يتعلق بالطب؟.

ثم إن الحديث عن امتلاك الكنيسة مناعة إضافية تقيها من الفيروسات يتعارض مع هذا التاريخ من التسبب في انتشار الأوبئة، ولم العودة حتى إلى تلك التواريخ القديمة، فربما يكفي أن نضرب مثالًا بما حدث في كوريا الجنوبية تحديدًا تسبب طقوس قداس كنيسة شينتشونجي في انتشار كورونا الأمر الذي أجبر رئيس الكنيسة لي مان-هي على الانحناء عندما جثا على ركبتيه طالبا الصفح من الشعب عبر التلفاز الوطني هناك، ومن المنطقي أنه إذا أراد الرب حماية أبنائه دون أن يهتموا بوقاية أنفسهم فسوف يفعل ذلك أثناء التناول أو أثناء الصلاة وليس في طقس على حساب آخر.

في أحد تصريحات الأساقفة الذين يرفضون منع التناول قيل إنه لا دخل للعلم بأمور الدين، حسنًا، في الإسلام هناك حديث ينسب إلى النبي محمد يقول فيه: “من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة، لم يضره في ذلك اليوم سم، ولا سحر”، وحديث آخر ذُكر فيه “إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السام”، وهكذا ومع التفسيرات الأكثر انتشارًا للحديثين فقد يقول بعض المسلمين أنهم غير موافقين على الحظر المفروض في البلاد، حيث إنهم يستطيعون يوميًا تناول سبع تمرات وحبة سوداء والنزول لمواجهة “كورونا” بلا خوف، فهل ستشعر بأن هؤلاء لديهم الحق في فعل ذلك والمخاطرة بحياة الجميع بنقل العدوى إن أصابتهم، أم أنك ترى أنه لا دخل للعلم بأمور الدين أيضًا؟، أليس العلم وحده هنا هو القادر على البت في الأمر بحياد تام؟.

 

اقرأ أيضًا:

التنمر .. سيف التمييز يغتال الجمهور والمشاهير (كروس ميديا)

أخيرًا، من الأحداث السابق ذكرها يُمكن استخلاص درس هام يحدث أمام أعيننا وهو أن الكنيسة التي سمحت بالقداس في زمن الطاعون هي نفسها التي منعت القداس في عصر كورونا، والسبب هو التجربة المريرة التي مرت بها قديمًا، وهؤلاء الذين قاموا بتحريم تشريح الجثث باعتباره عبث بأجساد لا يملكها إلا الرب، قد خضعوا الآن لبديهية أمر تشريح الجثث للوقوف على أسباب الموت أو علاج الأمراض، لذا فمن المنطقي ألا ترتفع أصوات داخل كنيسة أو مسجد منادية بالتجربة من جديد ووضع رهانات يدفع ثمنها الناس بحياتهم وحياة أحبائهم ثم انتظار عودة وباء كورونا مرة أخرى بعد عدة أعوام للموافقة على الخضوع لرأي العلم الحاسم فيما يخص أسباب الانتشار وطرق الوقاية والسلوكيات التي يجب اتباعها.