توجه العلم في الآونة الأخيرة إلى دراسة قضايا الصحة والمرض، وربطها بالنسق الثقافي للمجتمعات المختلفة، باعتبار تأثير الثقافة الكبير على وعي وتفاعل الإنسان مع المرض، وتحولت إلى مجال بحث، خاصة بعد جائحة كورونا وما تبعها من حتمية زيادة الوعي، والحرص على تعميم الإجراءات الاحترازية في جميع دول العالم.

في مصر ثقافة المرض تكاد تكون منعدمة ولها جذور تاريخية، بعضها مرتبط باعتبار المرض أحد الأفعال المعيبة وماله من تأثير على العمل وتحصيل الرزق، والبعض الآخر مرتبط بالتواكل “الأعمار بيد الله” و”الأقدار” وغيرها من المقولات الشهيرة، فضلًا عن الجانب الاقتصادي المرتبط بالقدرة المالية وتكلفة العلاج بالطرق السليمة.

كتمان المرض

يقول “محمود فؤاد” مدير المركز المصري للحق في الدواء، إن مصر على قائمة الدول المتأخرة في الاعتراف بالمرض، فلا توجد ثقافة التعامل المباشر الصحيح مع المرض، موضحًا أن للأمر جذور تاريخية وموروث شعبي لا يمكن أن يتم التغاضي عنها، على رأسها تعامل السلطة مع المرض بين عامي 1780 و1840 أثناء انتشار الكوليرا والطاعون، فالمصابين كان يتم إيداعهم المعسكرات حتى الموت ولا يعلم ذووهم عنهم شيئًا، ومن هنا نشأت فكرة الخوف من المرض وتداعياته، وتم توارث الأمر باعتبار المرض ضعف، وفق رأيه.

ويضيف: “في الفترة ما قبل عام 1950 انتشرت فكرة عمال التراحيل والمرض باعتباره أحد المعوقات وهو ما رصده يوسف إدريس في رواية الحرام، فالصحة في الرواية كانت تتجسد في القدرة على صعود سيارة التراحيل، وهو ما لم يستطع البطل فعله رغم محاولته المتكررة لشعوره بالمرض”.

 

 

يؤكد “فؤاد” “أن هناك فترات أخرى انتشرت فيها الأمراض الجلدية، وظلت المداراة مستمرة إلى أن ظهر الايدز، والذي أصبح الفاجعة الكبرى والعار الذي يطارد حامله باعتباره منحل أخلاقيًا، فيظل حامل المرض موجود دون أن يعترف بالأمر، واستمر الأمر حتى ظهر كورونا، ففي الريف المصري مئات الحالات يتوفاها الله بكورونا دون الإعلان عن الأمر خوفًا من المجتمع وتقبل الآخرين، فالسجل المرضي بشكل عام يحول دون القدرة على العمل بل والقدرة على الاندماج في المجتمع مرة أخرى”.

الصيدلي الطبيب

الدكتور علي عبد الله ، مدير المركز المصري للدراسات الدوائية والإحصاء ومكافحة الإدمان، اعتبر أن هناك تأخر كبير في مفاهيم التعامل مع المرض والدواء وهو أحد أعباء الصحة في مصر، مشيرًا إلى أنه لا توجد أي مفاهيم ترتبط بالوقاية في وعي المواطن المصري.

اقرأ أيضًا:

البرلمان وانتخاباته.. انتهاء جدل القائمة المغلقة وبدء البحث عن التحالفات 

 

وفيما يخص اللجوء للصيدلي في أغلب الأحيان في تجاهل تام لدور الطبيب واعتبار الصيدلي هو القادر على المداواة ووصف الدواء، يؤكد “عبد الله” أن التعامل مع الصيدلي منظم عالميًا، وهناك قانون يقسم التعامل مع الدواء إلى ثلاثة قطاعات على رأسها أدوية الجدول التي تحتاج الى إجراءات بعينها ليتم صرفها بالإضافة الى ضرورة وجود روشتة طبيب مختص لبعض الأدوية والتي يعد المضاد الحيوي أحدها.

ويوضح: “الأمر هنا يستلزم إجراء الفحوصات والتحاليل اللازمة قبل الصرف، وهناك نوع ثاني في التعامل مع الدواء وهو قطاع الصيدلة أو ما يعرف بإذن الصيدلي، وهي أدوية يمكن صرفها بناء على ما يراه الصيدلي، وأخيرا قطاع المواطنين وهو حق أصيل للمواطن أن يقرر الدواء لنفسه ومن ثم يمكن صرفه”.

وبقول إن الأزمة في مصر تكمن في الخلط بين القطاعات الثلاث وعدم ترتيب جداول الأدوية بمسميات واضحة، مضيفًا أن قانون الصيدلة لم يتم تغييره منذ عام 1955 رغم تغير العلم ذاته سواء كان الطب أو الصيدلة وكذلك وسائل التشخيص، لذا فإعادة صياغة القوانين عملية تنظيمية تحتاج إلى إعادة نظر بما يتماشى مع التطور العلمي الكبير الذي حدث في السنوات الأخيرة”.

عقوبات رادعة

بينما أكد محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء، أن هناك تجريم للتعامل مع الصيدلي كطبيب في بعض الأمراض وعقوبات رادعة للتعامل المسئ وغير القانوني مع الدواء.

وذكر أن “الروشتة” تعد وثيقة التعاملات الأولى الخاصة بالدواء، مشيرًا إلى “أن الأمر في مصر مختلف، فالمواطن لديه ثقافة حول وضع الصيدلي باعتباره على دراية بالدواء في مكانة تتجاوز الطبيب في وصف المرض وعلاجه”.

رب ضارة نافعة

رب ضارة نافعة، حيث قد تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن حينًا، لكنها أيضًا تغير طريقة صناعة هذه السفن وتزيد من متانتها وقدرتها على المواجهة، فأزمة انتشار فيروس كورونا كارثة إنسانية شملت جميع المستويات صحية واقتصادية بل وسياسية، ولكن من خلالها استطاع الكثيرون التعرف على عادات جديدة منها التباعد الاجتماعي واستخدام المطهرات وتعزيز ثقافة النظافة الشخصية وكذلك فهم أعراض المرض وسبل التعامل معه.

الأطباء أكدوا أن جائحة كورونا بعد انتهائها ستكون قد غيرت في الكثير من ثقافة ومفاهيم المواطنين حول المرض وطريقة التعامل معه، فقد علم المواطن معنى العزل المنزلي والعلاج عن بعد والالتزام بالبروتوكول العلاجي وغيرها من الأدوات التي ستعزز بناء وعي ثقافي بطبيعة الأمراض وسبل تفاديها من خلال الالتزام بالإجراءات الاحترازية وتقليل المساحات الاجتماعية والبعد عن مصادر العدوى المختلفة ، لذا ففيروس كورونا وفقًا لوصف المختصين سيكون بوابة العبور في تغيير ثقافة المرض في الشارع المصري.

“الطبيعة الطيبة”

أما الدكتور محمد عز العرب، أستاذ الباطنة بالمعهد القومي للكبد والأمراض المعدية، فأكد أن طبيعة الشعب المصري “الطيبة” هي أحد أسباب تخلف الثقافة الطبية والعلاجية النسبية، موضحًا أن المواطن يثق في كل ما يقال له سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الخبرات السابقة من الجيران والمعارف.

 

ولفت إلى “أن اللجوء لغير الطبيب أمر له نتائج سلبية تصل لمستوى الكارثة في بعض الأحيان، حيث إن الأعراض قد تتشابه لكن الأمراض تختلف، فمثلا الصداع له نحو 30 سببًا منها التهاب الجيوب الأنفية أو وجود ورم في المخ، وهو الأمر الذي يشكل خطورة على المريض في حال لجوئه لغير المختص وعدم إجراء الفحوصات اللازمة”.

اقرأ أيضًا:

الأعشاب علاجًا لـ”كورونا”.. الطب يصدم أحلام البسطاء

  

وأكد أن فيروس كورونا سيغير كثيرًا في وعي المواطن خاصة في المجاملات الاجتماعية كزيارة المريض والأحضان، وغير ذلك من مظاهر التقارب الاجتماعي، فضلًا عن الحرص على الغير وعدم الاختلاط في حال وجود مرض، وهو الأمر الذي ينبئ بزيادة الوعي الطبي المجتمعي.