بينما كان العشرات الذين قصدوا الخط الأول لمترو الأنفاق فترة الظهيرة، يختبئون خلف كمامتهم القماشية السوداء، وسط قلة ترتدي الكمامة الطبية بألوانها المختلفة، جذب انتباههم ذلك الموظف المهندم الذي لحق برحلتهم في محطة سعد زغلول مرتديا قناع الوجه الشفاف فوق كمامة طبية اعتيادية، حاملا في يده زجاجة كحول.

بدا الرجل شديد الاحتراز كأحد رواد الفضاء الذي هبط في زيارة مفاجئة إلى كوكب الأرض، فالعامة لا يحتاطون بهذه الدرجة حتى في ذروة انتشار فيروس كورونا المستجد في مصر، كما أن مترو الأنفاق ليس الوسيلة المفضلة لأولئك الذين يخصصون ميزانية للإجراءات الوقائية لتجنب الإصابة بـكوفيد 19.

استغرق مشهد الاندهاش بضعة ثوان حتى عاد كل إلى مكانه، مشغولا بكمامته، لكنه ترك انطباعا ملحوظا بأن لكل فئة من الشعب كمامتها.

وكما كان لجائحة كورونا مظاهر إيجابية كثيرة تجلت في حملات التكافل ودعم العمالة غير المنتظمة ودعم المعزولين منزليا، كشفت أيضا عن وجه طبقي تجلى في فرز الفقراء والأغنياء من شكل كمامتهم اليومية، التي تختلف من شخص لآخر حسب ثقافته الصحية ومستواه المعيشي، وفي الطريقة التي يعالج بها من يمتلك أجر ليلة العزل في مستشفى خاص ومن يرابط منزله حتى أنفاسه الأخيرة.

كما تجلت أيضا في تباين تعايش الطبقات الاجتماعية مع فترة الحجر الصحي، بين هؤلاء الذين يقصدون شاليهاتهم الخاصة في الساحل الشمالي، ومن لا يبرحون منازلهم وأحواش بناياتهم حتى انقضاء الليل واستئناف حركة العمل صباحا.

كمامة واحدة تكفي”

لا يزال عبده محروس، سائق تاكسي، لديه 3 أبناء، محتفظا بالكمامة القماشية التي جلبها لها نجله قبل شهر من الآن مع اشتداد الوباء في القاهرة، إذ يستخدمها فقط كلما صعد إليه زبون أو في اللجان المرورية التي تواجهه في طريقه.

“محروس” الذي يقطن بمنطقة السيدة عائشة الشعبية، لم يكن مكترثا في البداية بحجم انتشار الفيروس، فكان يخرج إلى عمله بدون كمامة، ولا يضع في اعتباره قواعد التباعد الاجتماعي التي تنبه إليها وزارة الصحة، حتى بدأ استشعار الخطر مع تخطي الـ 500 إصابة يوميا، ليجد نفسه مجبرا على ارتداء الكمامة خارج منزله.

“استخدم كمامتي السوداء لأكثر من شهر، أعمل بها وأعود لأنقعها في الميه وفي الصباح ارتديها” يقول السائق الستيني عن طريقة استجابته للإجراءات الوقائية، مشيرا إلى أنه لا يستطيع شراء كمامة طبية كل يوم، خصوصا مع تراجع حجم دخله اليوم في ظل الجائحة.

وتتراوح أسعار الكمامات القماشية بين 5 جنيهات إلى 15 جنيها، حسب جودتها، بينما تتراوح أسعار الكمامة الطبية بين 3 جنيهات وتصل إلى 25جنيها للكمامة الـ n95 المدعمة بفلتر لتنقية الهواء.

إنتاج الكمامات القماشية

ودخلت الحكومة مؤخرا على خط إنتاج الكمامات القماشية، وطرحت 8 ملايين كمامة قماشية، بسعر 5 جنيهات، صالحة للاستخدام لمدة شهر كامل، في الوقت الذي اقتربت وزارة التموين من طرح 40 مليون كمامة على بطاقات التموين للمساهمة في توفيرها لمحدودي الدخل بأقل تكلفة.

يمثل “محروس”، الذي ينتمي لفئة العمالة غير المنتظمة، شريحة كبيرة من قطاعات الشعب التي تتعاطى مع أزمة كورونا وفقا لأوضاعها الاقتصادية وثقافتها الصحية، إذ وجدوا أنفسهم في ظل ظروف طاحنة يضيفون بندا ماليا جديدا ثابتا لتجنب الإصابة بالفيروس.

ويعيش 32.5% من المصريين تحت خط الفقر، وفقا لبحث الدخل والإنفاق والاستهلاك للعام المالي 2017 – 2018، وتحدد خط الفقر للأشخاص الذين لا يتجاوز دخلهم السنوي 8827 جنيه مصري.

كمامة احترازية”

يتعايش الكثبر مع الإجراءات الوقائية باعتبارها أمرا واقعا فرضته الحكومة مؤخرا، بعد فرضها غرامات تصل إلى 4 آلاف جنيه على كل من لا يرتديها في الأسواق والمواصلات العامة والمؤسسات الحكومية، وهو ما رصدناه في مواقف مختلفة بوسائل المواصلات، فالبعض يحتفظ بكمامته حول عنقه لتفادي الغرامة في الأكمنة المرورية.

“والنبي يا جماعة اللي منزل كمامته يرفعها في الكمين” يقولها سائق ميكروباص بسرفيس الجيزة قبل أمتار قليلة من موضع أحد عناصر المرور، خشية من تحرير المخالفات وتعطيل خط سيره.

إيمان عبدالله، فتاة جامعية، لم تكن تلتزم بارتداء الكمامة قبل تغليظ الغرامات إلى 4 آلاف جنيه بدءا من أول يونيو الجاري، حيث كانت تغطي وجهها بجزء من الإيشارب، إلا أنها اضطرت مؤخرا لاقتناء واحدة، تستخدمها كلما تنقلت في المواصلات عامة.

“البحث عن كمامة نظيفة”

على عكس محروس، يقصد عمرو محمد، موظف بإحدى شركات الاتصالات، أماكن مختلفة لانتقاء أفضل أنواع الكمامات الطبية المتاحة، فهو يرى أنها أكثر أمانا من القماشية في انتقال الفيروسات عبر الهواء.

أنفق محمد، الذي يبلغ راتبه 8 آلاف جنيه، هذا الشهر حوالي 400 جنيها لتلبية احتياجاته من كمامات ومنظفات رغم أن يمتلك سيارة يتجول بها طوال اليوم لطبيعة عمله.

وبحسب جولة سريعة في الصيدليات وأماكن بيع الكمامات، تكتشف أن أقل سعر لعبوة الكمامة 150 جنيها، بسعر 3 جنيهات للكمامة الواحدة، في حين تصل أسعار بعض العبوات حوالي 250 جنيها على مواقع التسوق الإلكتروني.

“الموضوع مش مظاهر وخلاص، أخاف على حياة أسرتي لأنني أتعامل مع أناس كثيرين في عملي، ولا أقتنع بالكمامات المضروبة في الأسواق، فالعلبة الآن للكمامة الجيدة لا تقل عن 170 جنيها وهي تكفيني 15 يوما أو أكثر قليلا بجانب حرصي على السير بزجاجة كحول يوميا تكلفني 150 جنيها في الشهر”.

ويتراوح سعر لتر الكحول الطبي بين 110 جنيهات و120 جنيها، وتطرح أماكن أخرى عبوة الـ 125 مللي بـ 30 جنيها.

أحمد مهدي، موظف بأحد المستشفيات الجامعية، هو أيضا اعتاد مهمة فرز الكمامات، نظرا لامتلاكه خبرة كافية في المجال الطبي، فهو لا يتحرك مترا خارج منزله بدون كمامة جيدة تضمن حمايته بالقدر الكافي من الإصابة بكوفيد- 19.

“أنتمي للطبقة الوسطي، لست غنيا ولست فقيرا، لكنني أتمتع بثقافة صحية بحكم عملي في القطاع الطبي منذ سنوات عديدة، لذا أتبع التعليمات وأحرص على اقتناء كمامات جيدة وترشحيها للأصدقاء سواء من التسوق الإلكتروني أو العملاء في الشركات الطبية التي تنتج الكمامات”.

 

القناع الشفاف

مستوى آخر من الاحتراز تتبعه فئات ليست كثيرة بالمجتمع، يتمثل في استخدام قناع الوجه الشفاف الذي يحمي مستخدمه من استقبال الرزاز، وهو القناع الذي أعلنت وزارة الصحة عن توافره بعدد من المكاتب بمبلغ 50 جنيها.

وتلقت الوزارة 6 آلاف طلب في الأسبوع الأول من إعلانها عن إنتاجها القناع الشفاف، ما يعكس حجم الإقبال من فئات مختلفة لرغبتها في حصانة تقلل من فرص إصابتها بالعدوى.

القناع ليس مكلفا مقارنة بأهميته، لكن إقبالك على شرائه يعكس انتمائك الطبقي أيضا، فلا تجده منتشرا في الأحياء الشعبية التي تنتشر فيها الكمامة القماشية بسيطة التكلفة ومتعددة الاستخدام، هو ما أعطى انطباعا لرواد الخط الأول بمترو الأنفاق أن القادم من محطة سعد زغلول ليس منهم ويعيش في مستوى اجتماعي أفضل نسبيا يؤهله لشراء أقنعة وكمامات ويعقم محيطه بالكحول الإثيلي أينما حل.