القضية التي يناقشها هذا المقال ربما بدت صادمة للبعض، لكنني لا أستهدف صداما على الإطلاق، أو حض على الحريات غير المسؤولة، كما لا يدعو المقال لعشوائية العلاقات والغرائز، أو خلخلة المنظومة الأخلاقية وتفكيكها. فقط أتساءل متعجبة لماذا تستسهل مجتمعاتنا قتل المرأة، ووصمها بالعار وعدم التسامح معها ولا الرحمة، بل الاستخفاف بها وبأهمية وجودها وحياتها على أصعدة مختلفة في كل البلاد العربية والإسلامية، وخاصة فيما يسمى بقضايا الشرف؟، يتعاملون معها بعنف إلى حد إنهاء حياتها، أو صبغ وجودها كله وربطه بحادث عارض ربما لا يشكل إلا دقائق في حياتها، لماذا لا نحتكم إلى العقل والمعرفة وحقوق الإنسان، إلى قيم العدل والرحمة وتفهم الطبائع البشرية، ونعيد غربلة ثقافتنا التي هي مزيج من الموروثات: الاجتماعية من عادات وتقاليد قديمة، والدينية من حلال وحرام، ورؤى اقتصادية ــ سياسية تجاوزتها حركة التاريخ؟.
يحمّل المجتمع الذكوري المرأة وحدها وزر لحظات ضعفها وضعف الرجل، لحظات اشتعال الغرائز والرغبات، كما يحمّلها ــ ضمنا ــ بشكل آخر جريمة اغتصابها عنوة رغم إرادتها، ويحاسبها قهرا حين يُلقي عليها اللوم الأكبر بحسبانها المثير الذي دفع الرجل لجريمته، فيقضي عليها بطرق مادية ومعنوية مهينة وظالمة.
يُريق أبوها أو أخوها أو القيم عليها دمها بأعصاب باردة، ويَلقَ الاستحسان ممن حوله، بل يعدون هذا من شيم الرجولة. لماذا علينا أن نصمت تجاه هذا الظلم البين، وألا نبحث كمجتمع على قدر من الوعي والتفهم حول إعادة النظر في كل ما يتعلق بالمرأة، منظومة كاملة من القضايا، وإيجاد طرق أخرى لمعالجة هذه الوقائع والحالات التي تجاوزتها معظم الحضارات الأخرى، وتفهمتها وقننت أوضاعها؟، حيث تقع هذه العلاقات في النظر الإنساني العقلاني تحت توصيف لحظات الاندفاعات الطبيعية للغرائز والرغبات، دون أن يستدعي الأمر قتلا ماديا أو معنويا للمرأة في الغالب، علينا دوما أن نتوقف في منطقة أن المرأة فقط هي التي يُراق دمها، لماذا رغم أن الفعل ثنائي؟ أو تظل توصم بالعار طيلة حياتها. فالمجتمع بموروثه الأسطوري وعاداته وتقاليده لا يحاسب الرجل المشترك في الواقعة ذاتها، فيعفون عنه في العقل الجمعي، أو يتركونه بلا حساب كأنه لا يمتلك إرادة، ولم يقترف ذنبا، أو ذنبا مخففا حيث وقع تحت سلطة الغواية فقط، ومن أجل المرأة يسنون سيوفهم البتارة. الأمر الأكثر خطورة وقوع هذه الظلال من الثقافة الاجتماعية بأسطوريتها على الرسالات الدينية، ثم على بعض البنود في القانون الوضعي.
لو أن قتل النساء، أو وصمهن بالعار، وإهانتهن طيلة القرون الماضية كان نتيجته انتهاء ظواهر الاغتصاب، أو انتفاء وجود العلاقات الجنسية غير المقننة، أو الحد منها، ربما كان للبعض مسوغ للاستمرار في تلك الظواهر الدموية غير الإنسانية، بالرغم من أن القتل لا مبرر له على الإطلاق.
فمنذ أن كتب (طه حسين) رائعته “دعاء الكروان” 1934 انعكاسا للواقع الذي تكررت فيه قضايا قتل النساء في المجتمع المصري والمجتمعات العربية، وفيها قتلت (هنادي) التي عشقت المهندس بيد خالها، الرجل الذي غسل عاره وشرفه، وربما تلتها أختها (آمنة) في نهاية مفتوحه للرواية، كان من الطبيعي طرح القضية مجتمعيا للنقاش، وللنظر في رؤية تربوية، وصيغة ثقافية وقانونية تحفظ للمرأة حياتها، وتجعلها تتحمل مسئولية أفعالها في الحياة دون ذبحها كالحيوانات مع شريكها في الفعل، وأن تُحفظ لها حقوقها لو أثمرت العلاقة عن طفل، وحقوق هذا الطفل أيضا.
إن استمرار انتهاك حياة المرأة وقتلها ليس لشيء إلا لأنها لم تزل في ثقافة شرائح واسعة من المجتمعات العربية الكائن الأضعف، هامشي الوجود، خاضع للتبعية وتقع عليه قوامة، إن لم تصل في بعض الأذهان للملكية، هامشي العائد الاقتصادي، هامشي القوة والاحتياج إليه، هذا بالرغم من تغيير كل تلك المعطيات في الواقع المجتمعي الملموس منذ منتصف القرن العشرين في مجتمعاتنا، وما استجد فيه من تغيير مفهوم القوة من العضلية إلى العقلية والعلمية، وما استحدث أيضا من اعتماد قطاعات واسعة من الأعمال والحرف على عمل النساء وما يمثله دخلهن في قوام دخول الأسر، ويسبق هذا نضج شخصية المرأة نتيجة لتعلمها ولعملها، وتراكم خبراتها بالحياة، إلا أن النسق الثقافي العام لم يغير نظرته للمرأة عند الأغلبية.
يحدث هذا مع ملاحظة أن كل ما يتعلق بالمرأة أكثر ما يشغل الخطاب الذكوري في الحياة، وبالطبع أقصد وجودها الجسدي المادي، وليس العقلي أو الوجداني أو العملي، وتلك في ظني رؤى مجتمعات لا تعرف كيف تفارق طور بدائيتها؛ لتصوغ قوانين تنظم مستويات التعامل مع كل الحالات الإنسانية، في لحظات ضعفها كما في قوتها.
علينا عوضا عن هذا الإجرام والتعدي على حق المرأة في الحياة أن نشتغل على تربية شخصها بعناية، وزرع مسئوليتها عن اختياراتها منذ مراحل التربية الأولى، وكيف أنها ستتحمل نتيجتها، والتأكيد على أهمية المنظومة الأخلاقية التي تحافظ على كيانها حرا ومسئولا، وقتها فقط أتصور أنها في حالة خضوعها لموقف قد يتحكم فيه الضعف البشري ستحسب كل الحسابات، وتعيد التقييم مرات؛ ليأتي فعلها يعبر عن إرادتها أولا، وتتحمل نتائجه ثانيا، ولن تترك شعورا عرضيا يكبلها طيلة عمرها، سواء تمثل في تربية طفل وحدها دون شريك، مع كامل مسئوليتها المادية والتربوية تجاهه، أو عيشها مع رجل فرضته على نفسها وحياتها جراء لحظة ضعف.
علينا أن نعيد مناقشة تلك القضايا إعلاميا بطرق هادئة، وخلخلة تلك التابوهات المتكلسة التي أحاطت قضايا المرأة، ولطرح بدائل للتصرف وقت وقوع هذه الحالات، هذه البدائل التي تحفظ للمرأة حياتها دون أن يراق دمها أو سمعتها، وأن يتحمل الجميع مسئولياته لتصريف وتهيئة حياة كريمة، ضمن منظومة ثقافة عامة تستند على صيغ قانونية تفارق التعصب القبلي، ومنظومة العيب وغسل العار، والثأر للشرف.
على العقلاء توضيح المعنى الحقيقي للشرف وبيانه، الشرف الذي لا يمكن بأية حال أن يقتصر على المحافظة على جسد المرأة فقط، أحسبُ أن معنى الشرف وقيمته أكبر من تلك الانفعالية التي تسفر عن استباحة الأرواح التي تحدث كل يوم فتصبغ وجه الحياة بالدماء. الشرف الحقيقي في التعقل، في تقديس الحياة والأرواح وليس إزهاقها، الشرف أن أربي جيدا منذ الصغر وأراقب، أن أتصرف في حدود وحجم صلاحياتي فقط، أن أدرك أنني لا أملك الأرواح وليس من حقي التحكم بها، الشرف أن أعدّل وأصوب المعوج وغير المنضبط، الشرف في الصبر على الشدائد وكبح جماح الغضب الذي يقترن بالسعي الحثيث إلى أن تنصلح أحوال من يجرح قشرة أعراف المجتمع والأديان. الشرف أن أكف يدي عما لا أملك، وأن أتركه بذاته يحدد مصيره بعد بذل كل المحاولات للحفاظ عليه ورعايته وتقويم خروجاته، سواء بالعقاب أو الحوار أو شتى الوسائل. الشرف ألا أترك أسرتي نهبا للأقاويل والإهانات وخوض الآخرون في أعراضهم، وألا أضيع مستقبل الجميع، وأن أحافظ على حياة ابنتي.
ربما لو تغلب صوت العقل لفكر رب الأسرة الذي يقتل ابنته، ماذا لو أن ابنه هو ما تعرض لنفس الحالة؟ التعقل وتحكيم الموضوعية والوعي يقتضي تصرفا على نحو آخر في تلك الحالات، السعي مثلا للزواج، أو البدء في رحلة تقويم تتعدد طرقه ومراحله، مساعدة المرأة التي تتعرض لمثل هذه الحوادث أن تنمي نواح أخرى بحياتها، وتعتاد الاعتماد اقتصاديا ونفسيا على نفسها.
كما أن للأم الواعية المتعلمة دورا كبيرا، فبعض حالات انتهاك الفتيات والقضاء على حيواتهن كان بتحريض من الأمهات خوفا من الفضائح، أو من رجال العائلة، لو أصبحت النساء أكثر وعيا لكن أكثر قربا من بناتهن، واستطعن دعم الصغيرات وتبصيرهن بطبيعة الحياة، واتخذن دور الصديقات فصارت تلك الحالات أقل في الواقع. المرأة المتعقلة تمثل الدعم والسند لابنتها، وفي حالة حدوث أي عارض قد يؤذي هذه الفتاة تصبح حائط الصد بحنكة وقدرة على إبعاد الضرر عنها، كما أنها لن تكون بوقا وحارسا لثقافة ذكورية تتصور أن النساء ملكية لهم وأن من حقهم قبض أرواحهن.
للمرة الثانية، ولمرات كثيرة مقبلة نحن بحاجة إلى تكتلات نسائية قوية ” كتلة حرجة” كما تسميها الأدبيات الثقافية؛ لتقديم خطاب عقلاني، يمثل ضغطا قويا على الرأي العام لتغيير المفاهيم التقليدية التي منشؤها ثقافة القبلية والعصبيات، وعد المرأة ملكية يمكن التصرف فيها وكأنها عبدة أو جارية. المرأة كيان بشري متعدد الجوانب، كامل الأهلية، في حالة إتيانه فعل ما عليه أن يتحمل مسؤوليته فقط بالتعايش معه، وتحمل نتائجه، لا أن يراق دمه بيد أقرب البشر إليهن.
المرأة ليست عورة، لا يجب التعتيم عليها ولا فرض الوصاية والحجاب على عقلها وجسدها، هي من تمتلك نفسها وجسدها، للمرأة الحق في ميراث كامل مثلها مثل الرجل، للمرأة عقل ناضج وشهادة كاملة عند الوقوف أمام القضاء، لا ينبغي الاستهانة بحياتها بل يجب تهيئة المجتمع والقوانين لحل ما يطرأ على حياتها من مشكلات.