يعاني “أحمد صلاح” من غياب الخصوصية في منزل أسرته الذي يعيش فيه رفقة أبويه وشقيقتيه بحي دار السلام، الواقع جنوب القاهرة، حيث لا يمتلك غرفة خاصة به في ظل صغر مساحة شقتهم، لكن في الأيام الأخيرة حُرم الجميع من خصوصيتهم بعدما تحولت الشقة التي لا تتجاوز مساحتها 80 مترًا إلى مستشفى ميداني بعد إصابة الزوج والزوجة والبنتين بفيروس كورونا المستجد.
بقي “صلاح” كما هو على الأريكة في ركن الاستقبال، بينما تقاسم والداه مساحة لا تتجاوز 20 مترًا، حيث خصصوا الغرفتين للفتاتين، لتجنب الاختلاط فيما كانت نقطة اجتماع خماسيتهم الحمام الوحيد في الشقة.
عاشت أسرة “صلاح” أيامًا صعبة في فترة العزل المنزلي بعد إصابتهم واحدا تلو الآخر، حيث كانت محادثات الجميع عبر الكمامات ومن خلف الأبواب، وكان الشاب الذي يعمل في مجال المبيعات هو الطاهي والمنظف والمٌعالج.
إصابة الأب
“أبي أول من أصيب بالفيروس بحكم عمله ونزوله المستمر، ثم انتقلت العدوى تباعا إلى أمي وإخوتي، لكن الحمدلله أنا طلعت سليم عشان أقدر أساعدهم في محنتهم” يقول “صلاح” بعد مرور 3 أسابيع على إصابة الوالد.
يحكي “صلاح” صاحب الـ25 ربيعًا، أن الكمامة والقفازات والمنظفات كانت سلاحه لتفادي الإصابة، حيث كان يعد الطعام بتوجيهات والدته ويقدمها لكل شخص عبر أطباق من الألومنيوم “الفويل”، وخلال هذه الفترة سارت الأسرة على البروتوكول الذي حددته وزارة الصحة لمصابي كورونا في العزل المنزلي.
لم تكن أعراض الأسرة بنفس الحدة، فالأم التي تعاني من ارتفاع دائم في مستوى ضغط الدم كانت تعاني من هبوط مستمر، أما الأب فكان يعاني من التهاب رئوي شديد، والفتاتان داهمهما الفيروس كدور إنفلونزا شديد، هذا بجانب الارتفاع الشديد في درجة الحرارة حتى شعر الجميع بتحسن في منتصف الأسبوع الثاني.
8 آلاف مصاب
يخضع حوالي 8 آلاف مصاب بكوفيد 19 لعزل منزلي من أصل 53 ألف مصاب بالفيروس العالمي منذ بداية الجائحة في مصر أواخر فبراير الماضي، بحسب تصريحات للدكتور شريف وديع، مستشار وزير الصحة لشئون الرعاية العاجلة.
وسبق أن حددت وزارة الصحة مواصفات العزل المنزلي كالآتي “حمام منفصل للمصاب، أو تنظيف الحمام بعد كل استخدام، وتستمر مدة العزل 14 يوما، بعد انتهاء الأعراض، وفى حالة عدم وجود أعراض يستمر العزل 14 يوما من تاريخ تأكيد إصابته”.
اقرأ أيضًا:
المعادلة الصعبة.. “كورونا” ينتشر والتعايش مسار إجباري
وذكرت أنه يلتزم المصاب بالعزل المنزلى وعدم الخروج من غرفته إلا لدخول الحمام، وارتداء كمامة عند الخروج من الغرفة، مع الحفاظ على تهوية الغرفة وعدم استخدام مروحة للسقف، مع الاستمرار فى غسل الأيدى جيدا، مع تحديد شخص واحد ليس من كبار السن ولا يعانى أمراضا مزمنة للتعامل مع المصاب، فى تقديم الأكل وبعض المستلزمات مثل الكمامات والمطهرات، ويضعها على الباب ويطرق وينصرف، ولا يلامس المصاب.
هذه التعليمات لا تشكل أية صعوبة لأسر ذات مستوى عال تمتلك أكثر من حمام في شقتها أو فيلتها، ويحظى كل فرد منها بالوقاية الطبية الكاملة في غرفته، ويباشره من خلالها الطبيب المعالج، لكنها تبدو كالأحلام لقاطني العشوائيات والأحواش في المقابر الذين يتقاسمون الحمام الواحد، أو على الأقل يتكدس أبناؤهم في مساحات صغيرة.
“كورونا في البدروم”
احتجبت “عزة” عن الظهور في حارتها، وهي التي اعتادت الجلوس أمام منزلها صبيحة كل يوم، لمدة 4 أيام متتالية، ليكتشف جيرانها إصابتها بفيروس كورونا، لم تجر السيدة الخمسينية مسحة لكن طبيب الاستقبال أخبرها بإصابتها ووجوب عزلها منزليا بعد ارتفاع شديد في درجة حرارتها.
ممر ضيق في مدخل العقار يفصل الغرفتين التي تمتلكهما عزة في حي البساتين، جنوب القاهرة، هما بالنسبة لها ولنجلها الحياة، وبداخلهما قضت السيدة فترة العزل بحمام خارجي لا يستخدمه آخرون لكنه ليس خاصا بها.
“جسمي كان سخن ومهمد وصدري كان ملبش وكحة طول الوقت” تحكي عن أعراضها التي أجبرتها على الذهاب لأقرب مستشفى لها حتى إبلاغها بأنها أعراض الإصابة بكورونا.
“عزة” فقدت وظيفتها في الفترة الأخيرة بعدما كانت تعمل كخادمة في منزل أحد الأطباء، بعدما أبلغها صعوبة استمرارها بسبب مخاوفه من نقلها الإصابة لزوجته وأبنائه.
“الغلابة ليهم ربنا، من غير شغل ولا سرير ولا علاج كويس، لكن بنقول يارب اشفينا” تقول عزة بعد استرداد جزءا من صحتها في الأيام الأخيرة.
“كورونا تزور المقابر”
عاد محسن جمعة، موظف على المعاش، وجسمه يرتعش فجأة وسعاله لا يتوقف طوال الليل، وفي الصباح رافقته زوجته إلى مستشفى الحميات ليخطر هناك بضرورة التزام المنزل 14 يوما.
لم يشخص “جمعة” بـ”كورونا” لكنها نفس الأعراض: حرارة تتجاوز الـ40، وسعال جاف لا يتوقف، التهاب رئوي حاد، لكنهم قالوا له “ليس كورونا ده التهاب رئوي حاد”.
في طريقه من الحميات، فكر محسن كيف سيعزل نفسه في حوشه الذي يسكنه بمقابر المجاورين، القريبة من منشأة ناصر العشوائية.
وبحسب إحصائية سابقة للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، فيوجد 52 ألف مواطن يعيشون فى عشش، منهم 2362 بالمقابر، لكن يوجد تقارير أخرى تفيد بأن 2 مليون مصري يسكنون العشش والمقابر.
يسكن الحوش منذ 40 عاما، يقيم بداخله بصحبة أسرته المكونة من زوجته وبنتين.
يقسم الحوش إلى غرفة كبيرة وحمام وصالة لاستقبال الضيوف، وهنا كانت المعضلة حيث تكدست الأم والأبناء في صالة الاستقبال بينما استقر مقام الأب بالغرفة.
استمرت حرارة “محسن” في الارتفاع عدة أيام، حتى بدأ يتعافى بعد اعتماده على الأدوية التي منحوه إياها في الحميات، وخلال هذه الرحلة القاسية تعرض للوصم الاجتماعي بين أهالي منطقته، فحاول جيرانه تجنب الحديث معه أو الاقتراب منه خشية انتقال العدوى، ما جعله يجخل في نوبة بكاء.
اقرأ أيضًا:
“بكيت من هروب جيراني اللي اتربينا سوا بعد ما عرفوا اني تعبان، مكنتش كورونا والله أعلم” يقول “جمعة”.
اللافت بين الحالات التي حاورها “مصر 360” أن مصابي العزل المنزلي لا يعتمدون على المسحات في تشخيص إصابتهم بكورونا، فكل من يتعرض لنزلة برد عنيفة وارتفاع في درجة الحرارة يعتبر نفسه مصابًا، كما أن اللافت أيضًا هو خروجهم من منازلهم بعد انقضاء الأسبوعين وأحيانا أقل بمجرد إحساسهم بتحسن حالتهم دون الاهتمام بإجراء مسحة لمعرفة سلبيتها أم إيجابيتها.