لا تستطيع دولة فقيرة كإثيوبيا بناء سد ضخم تصل تكلفته إلى 5 مليارات دولار تعادل 1.2 تريليون بير (عملة إثيوبيا)، ولا تمتلك الكفاءات الفنية للبناء والإدارة لمنشأة ضخمة تحتجز ورائها مليارات المكعبات من المياه، ما يفتح المجال للتساؤل حول الممول والمنفذ والمدير وإمكانية تغيير الولاء.

يصعب كثيرًا تتبع جميع المشاركين في تمويل سد النهضة، فالكثير من الجوانب الخفية تحيط بالملف، خاصة في ظل دخول ملايين الدولارات عبر أدوات الدين الحكومية التي تطرحها أديس أبابا عبر سفاراتها في الخارج، وتشتريها مؤسسات مالية بتوجيهات خاص من حكوماتها.

تأتي الصين كأول داعم مباشر في بناء سد النهضة، وتواصل شركاتها العمل في الإنشاءات منذ ست سنوات بتمويل يناهز 1.5 مليار دولار، بجانب توفير الخبرات الفنية في الإنشاءات والإدارة، وتولت الصين بناء 6 سدود من أصل 12 تمتلكها أثيوبيا، وهي الشريك التجاري والمستثمر الأول بها بقيمة 15 مليار دولار، كما أن أديس بابا حصلت على نصف التمويل الذي خصصته بكين لـمنطقة القرن الإفريقي بوجه كامل.

ينقسم التمويل الصيني السخي بين مليار دولار قدمتها شركة المعدات والتكنولوجية الصينية لشركة الطاقة الكهربائية الإثيوبية لنقل الطاقة الكهربائية لمشروع السد، بجانب نصف مليار دولار من بنك الصين الصناعي، تم توجيهها قبل عقد لإعداد دراسات إنشاء السد.

اقرأ أيضًا:

“فوضى وتخريب ورموز شيوعية”.. ليلة دامية في ألمانيا

 

تتولى شركة “فويز هايدور شنجهاي”، الصينية التي تتخذ من ألمانيا، مقرًا لها تركيب وتشغيل 6 مولدات توربينية في السد بقيمة 78 مليون دولار، كما انضمت شركة “سينوهيدرو” الصينية للهندسة والإنشاءات الكهربائية للشركات العاملة في السد أخيرًا لتسريع الأعمال المدنية لإنجازه في الموعد المحدد في 2022.

 

 الصين.. منفعة وحياد

تتعامل الصين حاليًا مع إثيوبيا كما لو كانت حديقتها الخلفية، حتى أن وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية تبدو كما لو كانت نسخة من وكالة الأنباء الصينية “شينخوا” في ظل الأخبار المكثفة عن بكين وأنشطتها التنموية، وتحاول دائمًا الدفع بالأخيرة كطرف دولي في الوساطة بمفاوضات سد النهضة.  

تعول إثيوبيا كثيرًا على الصين في دعمها بصورة مطلقة، لكن الأخيرة معروفة على الصعيد الدولي بانتهاجها مبدأ النفعية الاقتصادية في المقام الأول، ولن تخسر علاقاتها بمصر تحت أي ظرف فالتبادل التجاري بينهما، ارتفع بنسبة 3.2% على أساس سنوي في الفترة من يناير إلى إبريل من العام الحالي رغم كورونا ليصل إلى 4.31 مليار دولار.

وطالبت السفارة الصينية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بحل الخلافات بين مصر وإثيوبيا عبر الحوار والمفاوضات السلمية، ووقفت على الحياد في الأزمة، لتتفق مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة على الفكرة ذاتها.

وقال السفير إبراهيم الشويمي، مستشار الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء، مساعد وزير الخارجية سابقًا، إن مصر لا تمانع التنمية ولكنها ترفض الإضرار بمصالحها، ولم تمتعض من مشاركة الصين في بناء سد النهضة بل على العكس اعتبرته عنصر أمان يحول دون انهياره حال بنائه بخبرات إثيوبية فقط وتعرضه للسقوط ما يعرض مصر والسودان لفيضان مدمر.

ويقول “الشويمي”، إن ما استجد هو الخلاف على زمن ملء السد وكمية المياه وكيفية إدارته والتي يجب الاتفاق عليها والتزام اثيوبيا بها، وهي التي دفعت مصر لإبلاغ شركات ألمانيا وإيطاليا والصين، باستيائها من استمرار عملها في السد رغم تعثر المفاوضات.

يؤكد خبراء أن الصين لن تنصر طرفًا على آخر في قضية سد النهضة، فما يهمها هو المنفعة الاقتصادية البحتة والاستثمار ذو العائد الاقتصادي، فعلاقاتها بأديس أبابا قوية، وفي الوقت ذاته تمتلك علاقات قوية بمصر، حتى أن الرئيسين المصري والصيني التقيا 9 مرات في 6 سنوات، ويشتركان معًا في مبادرة “الحزام والطريق” ومشروعات تنمية محور قناة السويس وتعزيز بناء منطقة “تيدا السويس” للتعاون الاقتصادي والتجاري “الصيني – المصري”.

 

دور فرنسي ـ إيطالي

تنشط الشركات الأوروبية كثيرا في بناء سد النهضة، في مقدمتها شركة “ساليني كونستروتوري” الإيطالية المتخصصة في إنشاء السدود، بأعمال الإنشاءات، بدعم رسمي من سفارة روما في أديس بابا، والتي زعمت أخيرًا، في بيان رسمي بأن سد النهضة سيقدّم فوائد اقتصادية كبرى تعزز التنمية بإثيوبيا، وتراهن على أن يكون المشروع فاتحة خير لمشروعات أخرى في دول حوض النيل.

ورفضت الشركة الإيطالية التعديلات التي طلبتها مصر لتخصيص فتحتين للطوارئ في جسم السد، بزعم أنه يستحيل تنفيذها وصممت على تصميمها المسبق، القاضي بأن يكون ارتفاع السد نحو 170 مترًا، بما يستوعب أكثر من 10 ملايين متر مكعب من المياه، فيما سيستوعب خزان المياه الواقع خلف السد نحو 63 مليار متر، وتصل مساحة البحيرة إلى 1800 كيلو متر مربع.

وانضمت شركة “جي إي هيدرو فرانس” الفرنسية للعاملين في السد أيضًا لتصنيع المولدات والتوربينات الخاصة له، وقامت بتركيب توربينين تم تصميمها مسبقًا و5 وحدات لتوليد الطاقة بتكلفة مالية قدرها 62 مليون دولار، بالتعاون مع شركة “كوميليكس” التي لا يعرف جنسيتها على وجه التحديد ولا يوجد لديها بيانات واضحة على شبكة الانترنت.

وتولى مصنع “ميدروك” المملوك لرجل الأعمال السعودي محمد العمودي توريد جميع كميات الإسمنت المستخدمة في بناء السد، بعدما تبرع قبل سنوات بنحو 80 مليون دولار لاستخدامها في التشييد قبل 15 عامًا.

 تمويل سياسي

يقول خبراء إن موقف الدول الأوروبية تغير كثيرا مع تصاعد الخلاف حول أزمة سد النهضة وتوقفت عن التمويل، ما دفع إثيوبيا لتدشين حملة لحشد المواطنين على التبرع من أجل البناء، لكن المشكلة في التمويل غير المباشر.

ومنذ سقوط نظام الإخوان في مصر، اكتسب سد النهضة خط تمويل مفتوح لأسباب سياسية صرفة، من دولتي قطر وتركيا اللتين أصبحتا فاعلتين في التمويل حاليًا بصورة غير مباشرة عبر المعونات وضخ أموال تحت غطاء الاستثمار في الزراعة.

ووفقًا لجبهة “تحرير شعب الأورومو” الإثيوبية المعارضة، فإن تركيا تقوم بتمويل السد بطريق غير مباشر عبر تحويلات مالية دولارية مشفوعة بغطاء زراعة مليون فدان بمنطقة سد النهضة.

اقرأ أيضًا:

تهاوي النفوذ.. الثعلب الإيراني يواصل دفع ثمن مقتل “سليماني”

 

انخرطت أنقرة بصورة أكبر عبر توقيع اتفاقية دفاع مشترك وقعتها مع أنقرة في أديس أبابا عام 2013، وأقرها البرلمان الإثيوبي في مارس 2015، والتي تتضمن نصًا يتعلق بسد النهضة يقضي بنقل أنقرة خبرتها في بناء السدود، ومساعدتها في الدفاع عن “النهضة” ضدّ أي تهديد.

وتبلغ حجم الاستثمارات التركية بإثيوبيا حاليًا قرابة 3 مليارات دولار تعادل نصف استثماراتها في إفريقيا بوجه عام، بنحو 350 شركة تركية 120 منها دخلت في عام 2014، ويعمل حاليًا بتركيا نحو نصف مليون إثيوبي.

 تمويل قطري

وتعتبر قطر من أكبر الممولين غير المباشرين لسد النهضة عبر مشروع المليون و200 ألف فدان، بجانب ضخ 8.5 مليارات دولار استثمارات لرجال أعمال قطريين، والوعد بالمزيد في المنتدى الإثيوبي للأعمال الذي انعقد في فبراير الماضي.

خلال المنتدى، سوَّقت إثيوبيا السد كمشروع للاستثمار مثله مثل 22 مجمّعًا صناعيًا تم طرحها أمام مستثمري الدوحة، منها 12 حكومية و10 مملوكة للقطاع الخاص، كما يمثل بنك قطر الوطني للتنمية الذراع الطولى للدوحة في إثيوبيا حيث يمول الشراكات في مشروعات تتعلق بالاستيراد والتصدير في مختلف القطاعات مثل البناء والأدوية والمستلزمات الطبية والتغليف.

 تمويل ذاتي

وتعتمد إثيوبيا على قدر من التمويل الذاتي لمشروع بناء السد، ودشنت حملة أخيرة ناشدت خلالها المواطنين على تحويل أموال عبر هواتفهم المحمولة، جنبا إلى جنب مع نظام اليانصيب أو المسابقات التي تشجع المواطنين على الاتصال عبر الهواتف المحمولة مقابل إمكانية الفوز بجوائز مثل الأجهزة المنزلية.

كما تقتطع الدولة من رواتب الموظفين دون موافقتهم، بجانب استغلال البنوك المحلية التي يتم إجبارها على تمويل الحكومة بفائدة أقل من الأفراد والشركات بمقدار الثلث، وأدوات دلين طويلة الأجل بفائدة تصل إلى 6%، وتحويلات نحو 3 ملايين إثيوبي يعملون في الخارج.

إسرائيل تمويل غير مباشر

وتنفي إسرائيل كثيرًا أن يكون لها دور في تمويل سد النهضة، لكن خبراء يرون أن دورها موجود بشكل غير مباشر عبر بوابة توزيع الكهرباء التي سيتم إنتاجها من سد النهضة، فتل أبيب تمول إنشاء خط لنقل التيار من السد إلى كينيا وجنوب السودان، ما يجعلها عنصرًا فاعلًا في التمويل غير المباشر، بجانب تشجيع الشريحة الكبيرة من الإثيوبيين الذي تضمهم إسرائيل على شراء سندات سد النهضة وتمويلها.