أن ترسم سيرة ذاتية لأشخاص، فمن السهل أن تلعب دور الحكّاء بسهولة، وأن تقدم مقتطفات من الحياة تعبر عما دار بها من أحداث في تفاصيل الحالة التي تقوم بعرضها، ولكن حين تقرر أن تسرد حياة وطن، من وجهة نظر الطبقة الأهم لتكوين المجتمع، وهي الطبقة المتوسطة، فعليك لكي تتعرف على تاريخ مصر في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي اللجوء لأفلام المخرج الراحل عاطف الطيب، والذي لُقب بـ”فارس السينما الواقعية” أو “جبرتي السينما المصرية”.

فمع كل جيل لابد أن يكون هناك مدير للكاميرا يستطيع أن يوثق تاريخ هذا الوطن بشيء من السلاسة والقرب الاجتماعي من الجمهور العربي ككل، فبعد أن قاد صلاح أبو سيف مسيرة الإخراج الواقعي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تسلم منه الراية مباشرة المخرج عاطف الطيب، ليكون لسان حال الشعب الذي خرج منه معبرًا عن كل همومه وآلامه السياسية والاجتماعية على مدار عشرات السنين، لنكون أمام مخرج تصدرت 3 من أفلامه قائمة أفضل 100 فيلم في السينما المصرية وهي “سواق الأتوبيس” و”البريء” و”الحب فوق هضبة الهرم”.

البداية المحفزة

حاول “الطيب” أن يكون خلف الكاميرا معبرًا بشكل صريح عن آراء الطبقة الاجتماعية التي خرج منها، غير عابئ بما يجب أن يُرسم في خيالات المشاهد من جماليات الحياة كما لعب غيره من المخرجين، بل إنه قرر أن يحمل هموم جيل على عاتقه، ويوثقها حتى تصبح هي المرجع الأساسي لحقبته الإخراجية الزمنية.

 

فبعد أن عمل “الطيب”، كمساعد مخرج لعدد من الأعمال مثل “أنياب” و”إسكندرية ليه” و”خدعتني امرأة”، قرر أن يقود تجربة الإخراج بأول فيلم “سواق الأتوبيس” ذات القصة بنت الشعب والتي قام بكتابتها المخرج محمد خان والسيناريست بشير الديك.

اقرأ أيضًا:

عمليات التجميل والفنانات.. نهايات مأساوية واحتجاب عن الأضواء

 

ولم تكن تلك البداية هي العادية، ليدخل الفيلم في قائمة أفضل 100 فيلم مصري على مدار التاريخ السينمائي.

تأثير الأوضاع السياسية

كان عاطف الطيب من أبناء جيل “ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد”، والحلم الناصري بالقومية العربية، لنجد أن تأثير النكسة وانهيار هذا الحلم كان له تأثير كبير على إقحام السياسة في أفلامه.

وبدأت الحكاية مع أول أفلامه “سواق الأتوبيس” ولكنه أغفل قضية النكسة وعهد عبد الناصر كأنه الحلم المُحزن الذي لم يرد أن يتذكره، وهناك رغبة منه في الخلاص منه، ليكون تجنيده في فترة حرب 1973 هي المؤثر الأكبر على أعماله لتبدأ حكايته من حرب 1973، ونصر أكتوبر المجيد، والذي نوه عنه في أكثر من عمل فني منها “أبناء وقتلة”.

ابن عصر السادات ومهاجمه الأول

يعد عاطف الطيب ابن عصر الرئيس الأسبق محمد أنور السادات مهنيًا، ولكنه صاحب الفيلم الأهم مهاجمة له، فهو الأب الشرعي لفيلم “البريء”، والذي قلب موازين السينما في مصر، ليشاهده وزير الحربية ووزير الثقافة ووزير الإعلام كي يرى النور.

وهذا بعد أن ضرب “الطيب” بهذا العمل سياسات “السادات” في صميمها بالإعلان عن اتباعها سياسية التعذيب في المعتقلات والاضطهاد ضد طبقة المثقفين وأصحاب الرأي والمدافعين عن حقوق المواطن بشكل عام، وشاركه في هذا الكاتب وحيد حامد وبطل العمل أحمد زكي.

استكمل عاطف الطيب هجومه على نظام “السادات” وما بعده، والنتائج السلبية للمجتمع بعد الانفتاح، واستغلال تجار الحرب لمصر وبعض الجنود أثناء حرب أكتوبر، وجاء هذا من خلال فيلم “كتيبة إعدام”.

 ما بين كشف المستور والانتقاد

ما بين 21 عملًا أخرجها عاطف الطيب واستطاعت تخليد ذكراه أكثر من كونه أبًا لأبناء حقيقين من لحم ودم، ضرب خلالها جميع معاقل الأنظمة السياسية ومعارضيها، معًا دون رحمة، فالكل مُخطئ أمام كاميرا “الطيب”.

فكان أول هجوم له ضد نظام الرئيس الراحل محمد حسني مبارك مع فيلم “الهروب”، الذي كشف به استغلال الأمن للحوادث للتغطية على مشكلات سياسية كبرى، وكان هذا العمل أيضًا بداية لهجومه على تيار الإسلام السياسي حينها، الذي سيطر على مسارح الجامعات ومدن الطلبة.

واستكمل ضربه لحكومة “مبارك” من خلال فيلم “ضد الحكومة”، والذي ناقش من خلاله عدد من القضايا الهامة، وهي “محامين التعويضات” واستغلالهم للشعب، بالإضافة إلى مشاكل النقل في المدارس تزامنًا مع ازدياد حوادث النقل المدرسي، وأكمل له هذا الهجوم رفيقا مشواره أحمد زكي والسيناريست بشير الديك.

ليأتي عاطف الطيب في النهاية ويضرب السينما بفيلم لا يمكن أن يُغفل تقديره ودوره حتى الآن وهو “كشف المستور”، الذي قدم به قضية من ملف المخابرات العامة عن تجنيد السيدات للعمل بالسياسة بطرق غير مشروعة، وهوجم هذا العمل أشد الهجوم وليس السبب هنا هو شخصية البطلة المجندة، ولكن كانت الأزمة في من قام بتجنيد هذه السيدات، لنكون أمام هجوم عاطف الطيب السياسي ولكن هذه المرة الأشد ضراوة في الانتقاد السياسي بعد “البريء”.

اقرأ أيضًا:

الفنانون و”التنمر”.. هل يردع القانون حملات التشهير؟

 

كما أنه كون بشكل صريح عداوة مباشرة مع جماعات “الإسلام السياسي” بعد كشفه عما تتلقاه من تمويلات خارجية، واتجاه السلفية الفكرية ورغبتها في السيطرة على البلاد، واتباع الطريق الإرهابية لنشر الفكر المتشدد في البلاد.

خيانة الوطن

تعرض كل من عاطف الطيب ورفيقه في الفكر نور الشريف، لتهمة الخيانة العظمى من بعض النقاد بعد عرض فيلم “ناجي العلي”، وذلك بسبب عرضه لقضية اغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، مؤكدين انتقاد العمل لاتفاقية كامب ديفيد، وتكلف هذا الفيلم زيارة الرئيس الفلسطيني حينها ياسر عرفات، وطلبه منع عرض الفيلم، ليقرر “مبارك”، تشكيل لجنة لمشاهدته برئاسة أسامة الباز مدير مكتب رئيس الجمهورية حينها، ليتم بعدها عرض الفيلم لعدم احتوائه على ما يسئ لمصر طبقًا لما أقرته اللجنة، وبالتالي أصبحت تهمة الخيانة العظمى لا محل لا من الإعراب في حياة المخرج والبطل.

 

ومع مرور 25 عامًا على وفاة عاطف الطيب، الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم 23 يونيو عام 1995، نجد أنفسنا أمام حالة فنية لا يمكن إلا أن نقف لها إجلالًا واحترامًا، بعد ما قدمه من أعمال لم تشكل إنتاجًا كبيرًا، ولكنها مميزة وكان فيها صاحب رؤية وموحٍ لأجيال قادمة.