عالجت السينما الطبيعة النفسية للشخص القائم على التعذيب وقدمته سلطويًا وديكتاتورًأ، بل و”حيواني” في تلذذه بإشرافه على ممارسة العنف ساعيًا وراء مصلحته الشخصية متمسكًا بالسلطات التي أعطيت له لما يقوم به من دور إجرامي كما هو واضح في فيلم “الكرنك”، وقدمته مرة أخرى في ثوبين، أحدهما “جاهل” يؤمن أنه يخدم وطنه “منفذا للأوامر ولو كانت خطأ” والآخر مضطربًا نفسيًا يمارس عليه القهر من رؤساؤه كما هو واضح في فيلم “البريء”، وقدمته يحافظ على القانون ويؤمن به بل ومستعد لتنفيذه وإن تعرض هو نفسه للمحاكمة كما اتضح في فيلم “البؤساء”، وعالجت السينما اضطرابات الشخص القائم على التعذيب وتأثره بالسلطة، وإن كانت افتراضية ليصبح مطورًا ومبدعًا في أدوات التعذيب كما ظهر في فيلم “التجربة”، وشرحت أيضًا نفسية الشخص الذي يمارس العنف وأسباب نمو الوحش بداخله كأحد شخصياته الكامنة تحت رماد الكبت كما حدث في فيلم “انفصام”.

ويحيي العالم اليوم الجمعة، اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب 2020 تحت شعار “التعذيب: جريمة ضد الإنسانية”، حيث يهدف التعذيب إلى إفناء شخصية الضحية وإنكار الكرامة لدى الكائن البشري، ويستهدف التعذيب  تدمير الفرد على المستويين الجسدي والنفسي، وفي كثير من الأحيان لايترك هذا الفعل آثارًا جسدية، إلا أن الفرد يصبح بروح منكسرة تحمل ندبات عميقة وعديدة يصعب علاجها والشفاء منها رغم مرور الوقت.

“يا فندم المهم اني أستني زي ما أنا”، كان هذا هو الهدف الأسمى لكمال صفوان القائم على التعذيب في فيلم الكرنك، والذي يقوم بدوره كمال الشناوي، والذي في سبيله خالف جميع مبادئ الانسانية بل وتجسد أمامه أحد أكبر وأعنف وقائع التعذيب “الاغتصاب” لبطلة الفيلم “زينب” والتي تجسد دورها سعاد حسني، كان هدف القائم على التعذيب في هذا الفيلم الاحتفاظ بسلطته التي كان يرى أنها أكبر بكثير من الكرسي الوزاري بل اعتبر وجوده كوزير عقاب له.

وحين ينتهي الحال بخالد داخل المعتقل يبدأ التبرير، فالجاني هنا يقف على أعتاب المكاشفة مع من ظلمهم ليصرخ “كلنا مجرمين وكلنا ضحايا”، وكأنه يحدث نفسه ويحاول اقناعها أنه لم يذنب، وانه فقط وفقًا لتبريراته يحمي الثورة، وتم اختياره لأنه مخلص لبلاده في انكار كامل منه لسعيه وراء مصلحته الخاصة فهو وفقًا لما يسعى هو نفسه لإثباته بداخله دون جدوى.

 

“عسكري مش فاهم”

“الدم اللي في ايديا اللي بينده عليا ويقولي قتلت مين.. يقولي يا انسان تفرق السجان ازاي من السجين”، كان هذا شعور أحمد سبع الليل في فيلم البريء حينما صدمه الواقع بأنه لا يحارب أعداء الوطن كما “حَفظوه” دون فهم، وإنما هو يُستخدم في إيذاء أبناء وطنه والمدافعين عنه.

يعد فيلم البريء الذي أخرجه عاطف الطيب وقام ببطولته قطبي السينما المصرية أحمد زكي ومحمود عبد العزيز، من علامات السينما المصرية والذي عبر بشكل واضح عن معاناة داخل أحد المعتقلات وخلط المفاهيم، بداية من الشروط التي يجب توافرها في مثل هؤلاء الجنود القائمين على التعذيب على حد تعبير حسن حسني في الفيلم “مبيعرفش يقرأ، ولم يعش في البندر”، وفي تعبير الكاتب رشاد عويس الذي يجسد دوره صلاح قابيل، وهو أول ضحية بين السجناء “حمار ومش فاهم” تم تلقينهم أنهم يحاربون أعداء الوطن، وهو الأمر الذي ساهم في تحقق هؤلاء الجنود النفسي لدرجة أن بطل الفيلم أحمد سبع الليل “البريء” قتل أحدهم وحصل على المكافأة ، بل ظل يتفاخر بمحاربته أعداء وطنه رغم أنه أحد أدوات التعذيب، ومن جهة أخرى العقيد توفيق شركس، والذي يجسد دوره محمود عبد العزيز، والذي يظهر جليا وللوهلة الأولى فيه صفات المواطن الطبيعي الذي يذهب لشراء هدية لصديقة طفلته ويبحث لها عن آلة موسيقية وهي الجيتار وينطلق لعيد ميلاد الطفلة ليجسد دور الحاوي في محاولة منه لإعادة البهجة للأطفال في عيد الميلاد.

 

اقرأ أيضًا:

اليوم الدولي لدعم ضحايا التعذيب.. تشريح نفسي وسلوكي لشخصية الجلاد

 

العقيد توفيق شركس أو محمود عبد العزيز هو الوجه الأعنف للقائم على التعذيب، فهو شخص واعي ويدرك جيدًا حقيقة ما يقوم به، ويظهر في فيلم “البريء جليًا الاضطرابات النفسية التي يعاني منها توفيق، فهو أب يتشكك تجاه زوجته الذي يعانى من ضعف شديد أمامها، بل ومضطرب عصبيا فلا يقوى على ضرب النار أو التركيز على الهدف، وأحيانا لم يستطع الامساك بقلمه بشكل متوازن أثناء كتابة الأوامر، اضافة الى لغة الأمر وما يشعره دائما من إهانة من رؤسائه عندما يغلق الهاتف في وجهه قبل النطق بكلماته الأخيرة، ومع كل هذا الوصف لا يشعر العقيد توفيق بذاته ولا يتلذذ إلا أثناء ممارساته الاجرامية تجاه المعتقلين كما فعل مع دكتور الجيولوجيا الذي يجسد دوره الفنان جميل راتب ومحاولة اهانته المتكررة بل وجره بالحبال في الصحراء.

ويظهر في الفيلم بشكل واضح استمرار عجلة الجهل، فعندما أدرك أحمد سبع الليل الحقيقة أثناء “تشريفة” معتقلين جدد ولقاءه بالطالب الجامعي حسين وهدان الذي جسد دوره الفنان ممدوح عبد العليم يقف فجأة على أعتاب وعيه المحدود ليتذكر كلمات ضحيته “انت حمار ومش فاهم”، ثم يموت بلدياته ضحية للتعذيب أمام عينيه ويبدأ صراعه الداخلي “أنا قتلت مين”، وحينما يدرك أن الأمر لن يتوقف ينتابه الشعور باليأس، ففي أجواء رغبته والتي تدفعه الى العزف على الناي يخرج سلاحه ليقتل الجميع قبل “التشريفة” للنزلاء الجدد.

فيلم البريء انتهى بموت الجميع على يد “عسكري مش فاهم برضه”، وأظهر ملامح الجميع، فالقائم على التعذيب المضطرب معرض دائما للإهانة من رؤساءه بل ومن زوجته، ويجد لذته في فرض سيطرته على من هم دونه سلطة، والجندي الجاهل يحارب أعداء الوطن، وأخيراً المُعذبين “السجناء في المعتقل”، الذين فقدوا الرغبة حتى في الهرب بل أن بعضهم تعاون مع سجانه توفيق شركس أثناء مرور تفتيش أحد اللجان الحقوقية ليُظهر أنه يتمتع بالحرية داخل المعتقل، وآخرون فقدو هويتهم والكثيرون كانوا أكثر صلابة ومقاومة لكل هذه التشوهات.

 

العقاب ضرورة ملحة

التجربة، هو أحد علامات السينما وخضع أبطاله البالغ عددهم 26 فرد لتجربة السجن من قبل أحد الشركات الغير حكومية مقابل 14 ألف دولار للأسبوعين لكل فرد. تدور أحداث فيلم التجربة داخل سجن اصطناعي يدخله مواطنين طبيعيين لا يحملون لبعض أية ضغائن، بل يتودد بعضهم للآخر أثناء الطريق ويتبادلون الابتسامات الي أن يدخلوا السجن ويتم تقسيمهم الى مساجين وسجانين، وتعطي السلطة للبعض بينما تُنتزع من الأخرين ويتم وضع مجموعة من الضوابط أبرزها عقاب من يقوم بالاعتداء الجسدي خلال 30 دقيقة.

 

اقرأ أيضًا:

اليوم الدولى لمساندة ضحايا التعذيب.. عشرات المقترحات بمصر في مهب الريح

 

تبدأ أحداث التجربة وكأنها مزحة إلى أن يتم خرق التعليمات ويصبح العقاب ضرورة ملحة ليبدأ الصراع بين Travis ويجسد دوره Adrian Brody، وBarris ويجسد دوره Forest Whitaker، وهنا باريس القائم على التعذيب كان مواطن طبيعي متدين نسبيًا يحاول جني المال من أجل والدته المريضة ويعاني من بعض المشاكل المرتبطة بالثقة بالنفس وداخل جدران السجن الاصطناعي تتحول الشخصيات، فقد بدأ باريس يتلذذ بالتعذيب ويشعر بثقته في نفسه وفي قدراته ونمى بداخله الإحساس بضرورة فرض السيطرة رغم إدراكه أنه داخل التجربة إلا أن هناك تحول كبير حدث لهذه الشخصية تأثرًا بالسلطة التي منحت لها في هذا العالم الافتراضي وراح يحقق ملذاته بل أنه خرق الكثير من التعليمات والقوانين المرتبطة بالتجربة في سعيه لمزيد من الإشباع للحرمان الداخلي.

ويعبر فيلم التجربة بوضوح عن مشاعر القائمين على التعذيب المضطربة ورغبتهم في التحقق، فباريس هو القائد الذي حاول فرض هيمنته على الجميع ورفاقه الآخرين القائمين على التعذيب، أحدهم ظهر اضطرابه الجنسي وحاول التحقق ممارسا هذا النوع من القهر على أحد السجناء، ومجموعة تحولت الى توابع للقائد لدرجة أنهم شاركوه تصرفاته غير الأخلاقية، والشخص الوحيد الذي رفض الانخراط داخل المجموعة تحول بعد تعذيبه إلى سجين، وأخيرا تنتهى التجربة ليعود السجان “القائم على التعذيب الى حياته التي كان عليها بنفس الانفعالات السابقة على دخوله التجربة”.

 

صراع مرير

رواية وفيلم البؤساء علامة فارقة في التاريخ الأدبي والسينمائي أيضًا للكاتب الفرنسي الكبير فيكتور هوجو، وتجسد الرواية صراعًا مريرًا بين Javert  ويجسد دوره Russell Crowe و Jean Valjean ويجسد دوره Hugh Jackmen  ويُظهر لنا دور الضابط في الفيلم معاني اضافية سبق وتم الاشارة لها من الأطباء النفسيين، فالضابط جافير لا يجد راحته أثناء هرب جان فالجان من يديه، وظل طوال الفيلم يتتبعه باحثًا عنه ويطارده بكل ما أوتى من قوة.

جافير في فيلم البؤساء هو شخص متزمت في تنفيذ التعليمات ويمنع أي خرق للقانون لديه مجموعة من المبادئ، يأتي على رأسها ضرورة أن يحصل كل مخالف للقانون على عقابه مهما كلفه الأمر من عناء، ورغم أن السجين جان فالجان حصل على افراج بعد 19 عاما سجن لسرقته رغيف خبز، إلا أن نفسية الضابط جافيير أبت اخراجه قبل اهانته وجعله يسحب العلم ،وهو أمر يصعب على أي شخص تحمله إلا أن جان فالجان تحمل، وخرج موصومًا بالعار والأوراق التي تجعل منه “خطير جدا” طوال حياته، فهرب من أعين الضابط جافير وظل الضابط طوال الفيلم يبحث عنه الى أن وجده بعدما أصبح “عمدة المدينة”، وهنا تظهر شخصية جافير المصمم على تنفيذ القانون في موقف يؤكد صدق ما يقوله حينما شك في أمر “عمدة المدينة” وأرسل في التحري عنه، وحينما علم انه خطأ كتب اعترافه بالجريمة ، وطلب من “عمدة المدينة” أن يقدمه للمحاكمة لقيامه بخرق للقانون إلا أنه عفى عنه ، وحينما اعترف “عمدة المدينة” أنه الهارب من العدالة جان، فالجان ظل جافير يطارده ساعيًا لتحقيق العدالة.

في نهاية فيلم البؤساء ويعد بطولات جان، فالجان الكبيرة يستطيع أن يخرج الضابط من قبضة الثوار ويمنحه الحياة بعد أن أوشك الثوار على سلبه اياها، وهنا تحدث المفاجأة للشخص القائم على التعذيب الضابط جافير الذي يقرر أن الحياة لا تحتمل وجوده مع جان، فالجان وأنه يشعر بالخزي لأنه لم يستطع الحصول على المتهم وتقديمه للعدالة، ويؤكد بوضوح أنه لا يمكن لكلاهما أن يحيا فيقرر الانتحار ويُنهي حياته.

 

عندما يتحول الانسان إلى وحش

فيلم انفصام يحتوي على الاجابات النفسية على الأسباب التي تجعل شخص طبيعي يتحول الى وحش، فهو يروي لنا اسطورة الوحش القابع بداخلنا وكيف ينشأ ويظهر للحياة في ثوبه المرعب الذي جسده الفيلم ببراعة وتدور أحداث الفيلم حول تعدد شخصيات البطل Kevin Wendell Crumb ويجسد شخصيته James McAvoy والذي يعانى من مرض تعدد الشخصيات بداخله والتي ظهر بعضها منها شخصية الطفل وكذلك الشرير وربة المنزل التي تجيد الطهي وأخيرا التحول الكبير في دور الوحش.

كيفين ويندل كرامب بطل الفيلم تعرض للعنف في صغره وكانت والدته تمارس تعذيبه بوسائل متعددة وظل يكبت شعوره بالغضب طوال فترة طفولته، وقام مرات عديدة بتعذيب نفسه جسديًا الى أن نضج وحدث له الانفصام لتعيش بداخله 23 شخصية تظهر كل منها بالتبادل، وتقرر أحد شخصياته الشريرة الانتقام فيقوم بخطف ثلاث فتيات ويجردهم يومًا تلو الآخر من ملابسهم، لم يكن تجريد الفتيات من الملابس قطعة تلو الاخرى بهدف التحرش بهم بل ظهر مع نهاية الفيلم الدافع الحقيقي، فكيفن كان يتأكد من أنهم منعمين وليسوا معذبين، ليسوا اشباه كيفن الطفل الذي كان يعذب نفسه ويؤلم جسده، وتصاعد الصراع الداخلي تجاه كيفن الى أن سيطرت الشخصية الشريرة تماما ليذهب ويبحث عن الوحش في نفس المكان الذي فقد فيه والده.

كيفن يقرر أن يلتقي الوحش الكامن بداخله في القطار الذي أخذ أبيه بعيدا عنه وجعله يقع ضحية في براثن تعذيب امه ويتحول بعد ذلك الى وحش حقيقي في جسد إنسان ويلتهم أحشاء اثنان من الفتيات إلى أن تعلم الأخير وهي Casey Cooke وتجسدها Anya Taylor لتناديه باسمه الحقيقي فتضطرب بداخله جميع الشخصيات لتحاول الظهور جميعا وتهرب منه الى أن يسيطر عليه الوحش مجددًا وتحاول كاسي قتله وتطلق عليه الرصاص الذي لم يعد له تأثير عليه، وكاد كيفن أن يفترسها كما حدث مع صديقتيها اللتين التهمهما الوحش الكامن داخل كيفن ولكن كاسي معذبة مثله، فهي البنت الانطوائية التي تعرضت للتحرش من عمها والوصي عليها شبيهه به تماما وآثار التعذيب تملأ جسدها فأخبرها أنها تستحق الحياة لأنها من المعذبين لتنتهي أحداث الفيلم المصور في أحد حدائق الحيوانات بهرب الوحش. كيفن ويندل كرامب ضحية كبتت مشاعرها وظلت داخل جدران جسدها شخصيات متعددة في رحلته للهروب من معاناة صغره، وأخير يظهر الوحش المنتقم القاتل والضحية في نفس الوقت.