يسود عرف بين السياسيين بأن المناصب كثيرًا ما تغير أصحابها فتدفع بهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فالسلطة لديها رونق، لا يمكن فقدانه بسهولة، وقد يدفع البعض لتبنى أي موقف أو سلوك للحفاظ عليها حتى لو تتنافى الأمر مع قناعاته السابقة.

ينتمي رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لتلك النوعية من السياسيين، فالشاب الذي يعد أول رئيس وزراء من عرقية أورومو، أكبر مجموعة عرقية في البلاد، والتي كانت تقود الاحتجاجات المناهضة للحكومة السابقة على مدار ثلاث سنوات، نكص سياساته السابقة التي أوصلته إلى نوبل للسلام وتحول إلى رجل آخر يمارس التمييز العرقي ويتلاعب بالدستور.

 يمثل سد النهضة لـ” آبي” طوق النجاة لمستقبله السياسي، فهو يعرف أن التوقف عن بنائه سيثير أزمة سياسية ضخمة وغضبًا جماهيريًا، حيث تقتطع الحكومة 15% من رواتب شعبها منذ 9 سنوات، من أجل وعود بتحسينها بعد تحقيق “النهضة”، كما أن انهيار السد لن يهدد إثيوبيا في شيء، بل بالعكس فالسد مبني على أرض سودانية تسكنها قبائل “الأورمو” التي ينتمي إليها “آبي أحمد” وتعارض بناء السد بكل ما أوتيت من قوة خوفًا من انهياره وبسبب مصادرة أراضيهم بمساحات واسعة لإنشاء بحيرة “السد” أيضًا دون تعويضات تذكر.

 

وفقد “آبي أحمد” منذ حصوله على “نوبل” الكثير من مؤيديه مع انتهاجه سياسات لملاحقة المعارضة والزج بها في السجون وتهميش قطاعات واسعة من السكان على أسس عرقية، وآخر سياساته كانت تأجيل الانتخابات البرلمانية التي يفترض عقدها في أغسطس إلى أجل غير مسمى بحجة فيروس كورونا.

 

اقرأ أيضًا:

مجلس الأمن ليس الخيار الأخير.. بدائل مصر بعد انتهاء ماراثون مفاوضات السد

 

 تمتعض المعارضة في إثيوبيا جراء قرار “آبي” تأجيل الانتخابات ومحاولاته المستمرة لمنح نفسه إدارة طويلة للبلاد بالالتفاف على الدستور، فالبلاد لم تسجل حالات تذكر بـ “كورونا” منذ شهر مايو الماضي ما يجعل التذرع بالفيروس حجة واهية، خاصة أن أعمال سد النهضة مستمرة بآلاف العمال دون أي إجراءات احترازية.

نوبل للسلام

فاز رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، بجائزة نوبل للسلام لجهوده في “تحقيق السلام والتعاون الدولي” بعد انتخابه في مارس 2018، وحينها أفسح المجال للحريات السياسية واتجه لتهدئة الصراع الدائر مع إريتريا، وساهم في اتفاق انتقال السلطة في السودان.

بدأ “آبي” منصبه كأكاديمي متخصص في إدارة الأعمال لم تلوثه السياسة، بقرارات إصلاحية، فقرر إلغاء حالة الطوارئ، والإفراج عن المعتقلين السياسيين والصحفيين، والإقرار بوقائع التعذيب وإدانتها، وعقد حوارًا مع قوى المعارضة لبحث سبل الإصلاح السياسي ودعوة المعارضين المقيمين في الخارج إلى العودة للبلاد.

وتبنى “آبي” سياسة توزيع المناصب الوزارية بالتساوي بين الجنسين واختار سيدة لتولي وزارة الدفاع للمرة الأولى في تاريخها واتخذ قرارًا بإنهاء الصراع مع إريتريا الذي استمر لقرابة العقدين، ولاقت تلك السياسات صدى كبيرًا عند دول العالم وأصبح “آبي” الشاب نموذجًا تحلم الدول الأوروبية بتكراره كثيرا في إفريقيا.

 

لكن “آبي أحمد” لم ينسى نضاله القديم المسلح مع “الجبهة الديمقراطية لشعب الأورومو”، ضد نظام الرئيس الأسبق مانجستو هايلا، كما التحق رسميا بقوات الدفاع الوطني الإثيوبية عام 1991، في وحدة المخابرات والاتصالات العسكرية قبل أن يترك السلك العسكري بعدما وصل لرتبة عقيد، ويحاول بكل قوة تأسيس “حكم مركزي” وتمكين قومية الأورومو الموالية له من المناصب القيادية ومفاصل الدولة.

 بعد عامين فقط من تولى “آبي أحمد” السلطة، أصبحت إثيوبيا حاليًا مهددة بالتحول إلى دولة فاشلة، مع دعوة 12 مجموعة عرقية إلى الحكم الذاتي الإقليمي وشعور قوميات كبرى مثل الأوروما وتيجاري والأمهريين بالتمييز.

تعتبر قومية الأورومو بوسط إثيوبيا هي الأكبر عددًا في السكان بنحو 34% وتتحدث اللغة الأورومية، ويعمل أفرادها بالزراعة والرعي، وجزء منهم يؤيد آبي أحمد باعتباره ممثلا لهم، لكن قطاعًا آخر لديه نزاع مع الحكومة حول ملكية بعض الأراضي لكن رقعة المظاهرات اتسعت لتشمل المطالبة بالحقوق السياسية وحقوق الإنسان، وتليها “الأمهرة” التي تشكل 27% من السكان وتتحدث اللغة الأمهرية.

وتأتي التيجراي، التي احتفظت بالسلطة في غالبية تاريخ إثيوبيا، في المرتبة الثالثة بنحو 6.1% وهي نفس النسبة التي يشكلها ذوي الأصل الصومالي وديانتهم الإسلام، بجانب نحو 7 قوميات أخرى تشكل النسبة الباقية من السكان.

وينص الدستور الإثيوبي على الفيدرالية والتمثيل العرقي للقوميات لكنه يفتح الباب للانفصال ما مكن قوميَّة السيداما من المطالبة بالتمتع بحكم شبه مستقل وتتجه نحو قوميات أخرى نحو المصير ذاته.

 

لم يعد “آبي” محبوبا حتى أن حليفه وصديقه جوار محمد، الإعلامي الشهير انتقل إلى معسكر المعارضة الذي يقول إن جهاز “اللاب توب” الخاص به أقوى من الدبابات، مع تزايد التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية الدولية التي تكشف عن انتهاكات حقوقية ضخمة من بينها إعدام قوات الأمن 39 من أنصار المعارضة.

كما اعتقلت الآلاف بتهمة الانتماء إلى مجموعة مسلحة في منطقة أوروميا، وفقا لتقرير منظمة العفو الدولية التي ـأجرت مقابلات مع 80 ضحية أكدوا جميعًا أن الجيش الإثيوبي تورط في عمليات قتل على أسس عرقية واعتقالات تعسفية جماعية واغتصابات في أمهرة وأوروميا.

أصبح تأييد جيش تحرير أورومو التي كانت الحكومة قد صنفتها من قبل حركة إرهابية، لكن رئيس الوزراء آبي أحمد رفع الحظر عنها، تهمة حاضرة لكل من يعارض سياسيات “آبي أحمد” الذي لا يزال يراهن على تسويق إعلامي كبير من بعض وسائل الإعلام المملوكة لقطر في الخارج في ترويج صورة له كزعيم حداثي.

وحتى مدينة أمبو، التي كانت مركزًا للاحتجاجات الطلابية التي ساهمت في صعود “آبي أحمد” للسلطة لم تسلم من سياساته، مع شكاوى مستمرة من وحشية الشرطة وتعرض شباب الجامعة الضخمة للضرب والاعتقال العشوائي خلال نشاطهم في حياتهم اليومية وإجبار البعض على الركوع أمام الأمن.

 

اقرأ أيضًا:

“المتر المكعب بالدولار”.. إثيوبيا تضغط لبيع المياه لدول المصب

 

وقررت السلطات إغلاق الإنترنت في المدينة للحد من الحملات السياسية المعارضة لآبي أحمد وتقلقل الأخبار الواردة إليهم قبل الانتخابات التي كان يفترض عقدها في أغسطس وتم تأجيلها، خاصة في ظل شعبية الناشط جوار محمد المنافس القوي لرئيس الوزراء حاليًا.

يقول حزبا “تحرير أورومو” و”مؤتمر أورومو الاتحادي” إن الإدارة الجديدة لم تتخل عن ممارسة تضييق الخناق على المعارضة باستخدام القوة، وارتكاب انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان، وتنفيذ عمليات الإعدام بلا محاكمة”.

وأكدت مؤسسة “ماعت” للسلام والتنمية وحقوق الإنسان، في أعمال الجلسة المستأنفة للدورة 43 لمجلس حقوق الإنسان بجنيف، أن حوادث العنف تكررت ضد الأقليات الدينية في إثيوبيا خصوصًا المسلمين، والتي كان آخرها في ديسمبر 2019، بعد الهجمات على مساجد بمنطقة أمهرة وتدمير ممتلكات أخرى في بلدة موتا.

وقالت المؤسسة إن الشرطة في إثيوبيا شنت هجومًا على أنصار أحزاب المعارضة في إقليم أوروميا، مما أدى إلى مقتل شخص واعتقال وإصابة العشرات، وفي مايو 2020، قامت قوات الأمن الإثيوبية في منطقة أوروميا بقتل 39 من أنصار المعارضة واعتقلت آلاف آخرين.