“ان كل شيء يستمر حتى وإن كان غير أخلاقي طالما نحن من نقوم به”، عبارة قد تبدو بسيطة ولكنها بالفعل التعبير الأدق والأكثر عمقًا في تفسير التعذيب خاصة الممنهج منه الذي يلقى دعمًا دوليًا بشكل ضمني، فإذا نظرنا إلى الدول في انتهاجها للتعذيب والتدخل للإطاحة بحكومات دول أخرى، نجد أننا أمام مشاهد قد لا نستطيع فيها التمييز بين الجاني والضحية.

ويحيي العالم، اليوم الجمعة، اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب 2020 تحت شعار “التعذيب: جريمة ضد الإنسانية”، حيث يهدف التعذيب إلى إفناء شخصية الضحية وإنكار الكرامة لدى الكائن البشري، ويستهدف التعذيب  تدمير الفرد على المستويين الجسدي والنفسي، وفي كثرا من الأحيان لايترك هذا الفعل أثارا جسدية، إلا أن الفرد  يصبح بروح منكسرة تحمل ندبات عميقة وعديدة صعب علاجها والشفاء منها رغم مرور الوقت.

لقد استهل بيرناردت ج. هروود مقدمة كتابه “تاريخ التعذيب” بمثال معبر عن مشاهد التعذيب الدولي بنفيه التمييز بين الجلادين والضحايا، مؤكدًا أن إرهابيي الفيتكونج في فيتنام كانوا يقطعون الرؤوس وينتزعون الأحشاء ويقومون بعمليات الإخصاء وتقطيع أوصال ضحاياهم من الأمريكيين، بل كانوا يحذرون الفلاحين الفيتناميين من سلخ البنات أحياء في حال ثبوت وجود إحداهن مع أمريكي، ومع ذلك فالأمريكيين ليسوا أبرياء، فهم أنفسهم أبادوا قرى كاملة عن بكرة أبيها، بل كانوا يصفون الفيتناميين ويقتلونهم على الجدران لمجرد الاشتباه في التستر على هارب، هؤلاء الجنود الأمريكيون هم أنفسهم من كرهوا ونددوا بالجنود الألمان قبل 20 عامًا من هذه الأحداث، لأنهم ارتكبوا أعمالًا شبيهة، وتلا ذلك ما تم رصده من ممارسة الفيتناميين للتعذيب داخل سجونهم، لتتأكد المقولة نفسها “إنه ما دمت تمارس الفعل وإن كان جريمة فليستمر طالما نحن من نقوم به، ونستنكره عندما يقوم به الآخرون”.

 

اقرأ أيضًا:

اليوم الدولى لمساندة ضحايا التعذيب.. عشرات المقترحات بمصر في مهب الريح

 

مما لا شك فيه أن نفسية الشخص الذي تعرض للتعذيب على يد غيره تتشوه بل البعض ينهي حياته للتخلص من الأزمة النفسية المكبوتة التي تتركها آثار أعمال العنف والتعذيب عليه، والكثير من القصص والحالات متوفرة بالفعل، إلا أن نفسية الشخص القائم على التعذيب تستحق أيضًا مزيد من البحث والتدقيق، فما هوية ذلك الشخص، وكيف يشعر أثناء قيامه بهذه الممارسات، وما هي دوافعه، وهل أيضًا هناك مُعذبون بين القائمين على التعذيب، وما هو حجم التشوه الذي يحدث لهم نتيجة هذه الممارسات، وما إن كانت هذه السمات غير الأخلاقية مكتسبة جراء أفعال شبيهة تعرض لها القائم على التعذيب أم أن هناك بالفعل جانب فطري داخل الشخصية يميل إلى العنف وفرض السيطرة؟.

هل المعذُب شخصية طبيعية؟

“بسمة عبد العزيز” في دراستها حول منظومة التعذيب، “ذاكرة القهر”، أكدت أن ممارس التعذيب قد يكون شخصًا سلطويًا أو لديه ذات متضخمة، إلا أن السمة التي أكدها الضحايا أنفسهم في رواياتهم، أن الجلادين يبدون كأشخاص طبيعيين تمامًا، بلا انحرافات واضحة ولا سمات نفسية بارزة تلفت الأنظار، بل إن المفاهيم الأساسية المتداولة التي يقوم عليها علم النفس المرضي، تُظهر فشلًا ذريعًا في تعريفهم أو تمييزهم أو حتى فهمهم بوضوح، وهذا الأمر يتضح جليًا في شخصية أدولف إيخمان وهو جلاد قديم تم توجيه العديد من التهم له لارتكابه أفعالًا بشعة ضد الإنسانية، منها التعذيب، إلا أن المفاجأة أنه قد تم تقييمه من قبل ستة أطباء نفسيين متخصصين فأجمعوا أنه “شخص طبيعي تمامًا” لا يعاني من خلل نفسي أو اضطراب في الشخصية، أي أن القائمين على التعذيب وفقًا لهذا التقرير أشخاص طبيعيون لدرجة تثير الخوف والرعب.

فيمار راح جون استيوارت مل في كتابه “الحرية” في حديثه عن راجمي شهداء المسيحية ليؤكد أن واحدًا منهم هو القديس بولس، بينما رسم صورة مثالية عن الإمبراطور ماركوس أوريليوس الذي اضطهد المسيحيين الأوائل وقام بتعذيبهم واصفا إياه بـ”أنه كان أرق الناس قلبًا وطباعًا وميالا إلى التسامح و مهتم بتحقيق العدل بين الناس”، مفسرا انتهاكاته بأنها محاولات صادقة لحماية المجتمع من أصحاب الديانة الجديدة.

عدة أوجه داخل الشخصية

الدكتور هاشم بحرية أستاذ الطب النفسي في جامعة الأزهر، يقول في تحليله لشخصية القائم على التعذيب بأنه استنادًا لمدرسة إريك بيرن التبادلية فإن لكل إنسان عدة أوجه داخل شخصيته، منها وجه الطفل الذي قد يتم كبته وتحويله إلى شخص تابع وهو في هذه الحالة يمتلك غضبًا شديدًا ويخرج غضبه بالفعل، إما في ممارسات لها علاقة بالآخرين ومنها التعذيب والارهاب وممارسة العنف بشكل عام، أو تظهر في ممارسات هذا الشخص تجاه نفسه فيتجه نحو الإدمان أو ممارسة العنف مع النفس بالإيذاء الجسدي وقد يصل الأمر إلى الانتحار.

 

وعن التعذيب الوظيفي داخل السجون أو المعتقلات، يؤكد “بحرية” “أن هذا السلوك يسمى باضطراب الشخصية وهو محاولات للتملق والصعود على أكتاف الغير فلا يوجد ما يعرف بوظيفة التعذيب، ولكن هناك ممارسات خاطئة للحصول على مكاسب بالمخالفة للقانون والإنسانية”.

سلوك قهري متكرر

الدكتورة نهى النجار، معالجة نفسية إكلينيكية، أكدت أن الفترة الأخيرة قد شهدت تغيرًا نسبيًا في طبيعة طالبي الدعم النفسي والعلاج، موضحة: “حيث لجأ مؤخرًا إلينا عدد من الحالات المُعتدية أو التي مارست العنف تجاه الآخرين بعد الشعور بالخطأ المرتكب وتشوه الحياة والتعاملات تأثرًا بما قام به من اعتداء على الغير”.

وأضافت “النجار” أن الأبحاث قد أكدت أن القائمين على سلوك الاعتداء أو إيذاء الغير من بينهم نحو 61% سبق وتعرضوا لأعمال مشابهة، فالاعتداء هو سلوك قهري متكرر ليصبح الضحية فيه مجرمًا مع الوقت”، موضحة أن للاعتداء أوجه متعددة منها “الإيذاء الجسدي، والإيذاء الوجداني، والإهمال، والإيذاء الجنسي”.

شعور المعتدي من واقع التجربة روتها لنا الدكتورة نهى النجار لتصف هذه الحالة بقولها:”لجأ إلينا شاب عشريني يطلب العلاج وبعد سلسلة من اللقاءات والثقة المتبادلة روى قصته مع الاعتداء المتكرر على أطفال صغار السن، هذا الشاب كان يعاني من أعراض اكتئاب واضحة ويعاني من الوحدة والإنطواء، ومع بعض الوقت أكد أن هناك جانب مظلم أخفاه فقد قام باغتصاب أكثر من طفل وبشكل متكرر، وبالنظر إلى هذه الحالة على وجه التحديد فهذا الطفل كان يعاني من الإهمال الشديد في صغره فلم يتم تلبية احتياجاته النفسية ولم يكن يحظى بقبول من مجتمعه الصغير وربما انسحب الأمر على مجتمعه الكبير، فسعى للانتقام بشكل مرضي من خلال اغتصاب الأطفال إلى أن صادف في سلسلة جرائمه طفلًا قريب الشبه منه، فشعر فجأة أن هناك من يوقظه من كابوس مظلم، وقرر أن ينجو بنفسه ويمتنع عن ارتكاب هذه الجرائم بل تطور الأمر وطلب العلاج النفسي وإعادة التأهيل”.

 

وتضيف أن الشخص القائم بالتعذيب والاعتداء يبدأ لحظة “الاستفاقة” بنكران الفعل الإجرامي ويبدأ صراعه على النحو التالي: “مش أنا، مش ممكن أعمل كدة”، وتتوالى التبريرات إلى أن تنفجر هذه البالونة في وجهه ويكتشف الواقع.

 

اقرأ أيضًا:

الأحزاب والانتخابات.. “القائمة المغلقة” تُمهد إلى إحياء “تحالف الأمل”

 

وتقول “يعانى المعتدي أو القائم على التعذيب من وقوعه تحت تأثير مثلث البارانويا الشك والغيرة والشعور بالعظمة، فهو يغير من الآخرين وعليهم بشكل مرضي ويتوجس خيفة تجاه الجميع بتفكير مضطرب به الكثير من التشوهات وأجواء المؤامرة”.

وتؤكد “النجار” أن القائم على التعذيب يكتسب أفعاله مع الوقت ليصل إلى مرحلة الشعور بأن بقاءه على الحياة مرهون بالتخلص من ضحيته ليتيقن داخله أن الشمس لا يمكنها الشروق على كليهما فيصبح متلذذا بتعذيبه وإهانته ماضيًا نحو تحقيق تبريراته التي يصدرها له عقله الباطن ويعاود ترديدها مرارًا لتصبح منهجًا وإيمانًا واقعيًا، ومبررًا قويًأ لأفعاله الإجرامية التي يتحمل مسؤوليتها كاملة.