“الدم اللي في إيديا اللي ينده عليا ويقولي قتلت مين.. وازاي يا إنسان نفرق السجان من السجين.. يا قبضتي دقي على الجدار لحد ليلنا ما يتولد له نهار.. يا قبضتي دقي على الحجر لحد ما تصحي جميع البشر”، بهذه الأبيات حاول الموسيقار عمار الشريعي أن يسرد حكاية تألمت منها مصر في عدة مراحل من تاريخها على مدار ثلاثة عهود متعاقبة شهدت أنماط حكم مختلفة، ولكنها ظلت على سطح حكم كل من الرؤساء ناصر والسادات ومبارك.
ويحيي العالم اليوم الجمعة، اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب 2020 تحت شعار “التعذيب: جريمة ضد الإنسانية”، حيث يهدف التعذيب إلى إفناء شخصية الضحية وإنكار الكرامة لدى الكائن البشري، ويستهدف التعذيب تدمير الفرد على المستويين الجسدي والنفسي، وفي كثرا من الأحيان لايترك هذا الفعل أثارا جسدية، إلا أن الفرد يصبح بروح منكسرة تحمل ندبات عميقة وعديدة صعب علاجها والشفاء منها رغم مرور الوقت.
بعد أن تخلصت مصر من الحكم الملكي، وحكمت ثورة يوليو البلاد عام 1952، ومع حدوث تغيرات جذرية في طريقة الحكم، وتصدير الثورة على أنها ستأتي بالحريات للجميع، مع الوقت اكتشف المصريون أن هذا الأمر غير حقيقي، حيث تم ملاحقة العديد من أصحاب الرأي والمفكرين والشعراء والأدباء، وتم الإلقاء بهم في السجون، بالإضافة إلى حالات التعذيب التي نشرتها بعد ذلك الصحف في العصور المتعاقبة.
مع هذا كان على “السينما” التي آمن صانعوها بمبادئ الثورة وتطلعاتها، أن ينتقدوا حلمهم ويصححوا مساره، فما كان منهم إلا انتقاد الرئيس جمال عبد الناصر ونظامه الذي رسم لهم أحلامًا كثيرة هُدمت فوق رؤوس الجميع، وخاصة بعد نكسة 1967، التي تغيرت بعدها البلاد تمامًا.
أفلام عن التعذيب في عهد عبد الناصر
كان عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر صاحب النصيب الأكبر من الانتقاد السينمائي سواء على المستوى السياسي أو في عرض قضايا التعذيب، وذلك لما واجهته مصر إبان فترة حكمه، من نكسة عام 1967، ووجود الكثير من الشعراء وكتاب الرأي المهاجمين له.
الكرنك.. هكذا بدأت الحكاية
بدأ ظهور الأفلام التي تنتقد التعذيب في عهد “ناصر” بعد تولي الرئيس أنور السادات الحكم بعدة سنوات، وكان أول وأقوى هذه الأفلام هو “الكرنك”، الذي تم إنتاجه عام 1975، وتناول بشكل صريح قضايا تلفيق التهم السياسية والتعذيب بالسجون، كان العمل حالة منفردة في حد ذاتها، حاول المخرج علي بدر خان “اليساري” أن ينتقد بها كل ما آمن به هو وجيله من أفكار ثورة يوليو، وكأن التعذيب يسقط على جلد جيل كامل وليس موجهًا لشخص بعينه.
اقرأ أيضًا:
شهد “الكرنك” الذي رواه نجيب محفوظ على صفحات الأهرام في بداية السبعينيات، وكتب حواره السيناريست ممدوح الليثي، عددًا من مشاهد التعذيب التي اتهم البعض القائمين على العمل بأنهم بالغوا في تقديمها، ليرد “بدرخان”، في أحد اللقاءات له، بأن ما شاهده الجمهور في العمل بما فيه المشهد الأشهر “اغتصاب سعاد حسني”، هو ما استطاع أن يظهره على الشاشة، وأن ما لديه من معلومات وتم تداولها في صحف “السادات” أيضًا أكثر مما تم عرضه بكثير.
شارك في بطولة “الكرنك” سعاد حسني ونور الشريف ومحمد صبحي وفريد شوقي وتحية كاريوكا ويونس شلبي وكمال الشناوي.
احنا بتوع الأتوبيس.. الأقوى على الإطلاق
وفي مشهد آخر من التعذيب في السجون، بل وهو الأشد وحشية، شاهد الجمهور على الشاشة طرق تعذيب مختلفة من جلد وربط إنسان آخر على أنه كلب وإجباره على وصف نفسه بذلك، وتحقير الإنسان لذاته، وصورة شنيعة من صور الذل ظهرت بها سجون عبد الناصر بعد النكسة، كان للجميع وقفة مع فيلم “احنا بتوع الأتوبيس”، الذي تم إلقاء القبض على الأبطال به بسبب مشاجرة في الأتوبيس وتم بعدها تلفيق تهم سياسية لهم.
لم يكن التصريح بمشاهدة هذا الفيلم من السهل على الأجهزة الرقابية أن تخرج به، ولكن بعد عناء 10 سنوات، استطاع حسين كمال الذي اعتاد على انتقاد “ناصر” في حياته وبعد مماته من خلال عدة أفلام كان أهمها” شيء من الخوف” و”ثرثرة فوق النيل”، أن ينتصر على الأجهزة الرقابية، ويخرج ليفضح ما كان يحدث في مصر في أحد المراحل الزمنية، والذي استكمل به المخرج نظرته بسوء حكم جمال عبد الناصر.
وما زاد أيضًا من صعوبة هذا الفيلم هو أنه تم الإعلان عن كونه قصة حقيقية عن رواية الكاتب جلال الدين الحمامصي التي تحمل اسم “خلف الأسوار”.
شارك في بطولة هذا العمل عادل إمام وعبد المنعم مدبولي ويونس شلبي.
البريء.. الثلاثي الشعبي
لم يكن نظام الرئيس الراحل أنور السادات، والذي حاول فضح مساوئ سابقه، أفضل حالًا مع أصحاب الرأي والمثقفين فسجونه أيضًا ضجت بعمليات التعذيب لطالبي الخبز والحرية.
هاجم فيلم “البريء” الذي جمع الثلاثي الشعبي أحمد زكي والمؤلف وحيد حامد والمخرج عاطف الطيب، التعذيب في سجون السادات بعد انتفاضة عام 1977، وقد بدأت حكايته بموقف واقعي حدث في تظاهرات 77، مع الكاتب وحيد حامد بتعرضه للضرب ليجد من ضربه هو أحد أبناء قريته قائلًا: “أستاذ وحيد هو أنت من أعداء الوطن، وهذه هي الجملة الحوارية التي تمت إعادتها نصًا على لسان أحمد زكي المجند الذي لا يملك من الثقافة شيئًا، إلى ابن قريته المتظاهر ممدوح عبد العليم.
وكعادة وحيد حامد وعاطف الطيب من رسمهما صورًا للواقعية الصريحة، قدما عدة مشاهد للتعذيب في الفيلم لعدد من المثقفين وأصحاب الرأي الذين تم إلقاء القبض عليهم في الانتفاضة ضد “السادات”، ولكن كانت رسالة الثنائي هنا في صرخة الغضب الذي قام بها العسكري في النهاية والذي أدى دوره أحمد زكي بإطلاق الرصاص العشوائي على كل المُعذبين، ليتم حذف هذا المشهد من العمل، ويعرض للمرة الأولى كاملًا عام 2005، إرضاءً لصناع العمل، بعد أن تم إنتاجه في الأصل عام 1986.
لم يمكن الفصل في هذا الفيلم بين مشاهد التعذيب التي تعرض لها السجناء السياسيون أو الملفقة التهم لهم وبين حالة الجهل وإغلاق العقول والآذان التي حاول الفيلم إيصالها إلى الجمهور، واعتبار أن الأمور كلها تدور في دائرة مفرغة واحدة، وكان هذا على حد تعبير الكاتب ومؤلف العمل وحيد حامد.
شارك في هذا الفيلم إلى جوار أحمد زكي وممدوح عبد العليم، محمود عبد العزيز وحسن حسني وأحمد راتب وجميل راتب.
في عهد مبارك.. تعذيب وإرهاب
“هتكوا عرضي يا مولانا” استطاع محمد إمام الممثل الشاب حينها أن يلخص التعذيب في سجون “مبارك”، بهذه الجملة التي لخصت أوضاعًا كثيرة تجاه السياسيين الذين كانت حقوقهم منتهكة في هذا التوقيت.
كان هذا بفيلم “عمارة يعقوبيان” الذي قام الدكتور علاء الأسواني بكتابته في البداية كرواية، ومن ثم تحويله إلى سيناريو وحوار سينمائي، من أولى الصرخات في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، والذي أشار بشكل واضح وصريح إلى أن الإرهاب ناتج عن استغلال عقول الشباب الفقراء وحاجتهم المادية من قِبل التنظيمات المتطرفة، وأن تبنيهم حالة التطرف ناتج إلى استخدام العنف ضدهم أيضًا في السجون دون محاولة لتهذيب عقولهم.
وانتهى الأمر في هذه الحالة إلى خروج “ذو الفكر المتطرف”، من السجن وانتقامه من معذبه بقتله، وفي مشهد درامي أقل ما يوصف بأنه رائع، قدم مروان حامد مشهد مقتل الإرهابي والضابط في أحضان بعضهما البعض رغم ما بينهما من كره، ليؤكد أن نهاية الطريق للطرفين هي الهلاك.
كان من المستحيل أن يقدم مشهد كهذا دون أن يحمل الفيلم اسم الزعيم عادل إمام، المعارض المحايد لنظام مبارك، وشاركه في العمل هند صبري وإسعاد يونس وخالد الصاوي وعباس أبو الحسن، وتم إنتاج الفيلم عام 2006.
هي فوضى.. العمل الأخير
قرر يوسف شاهين قبل وفاته أن يترك علامة لجيل لم يعرفه جيدًا ولم يختلط به كثيرًا، مُقدمًا لهم واحدًا من أهم الأفلام خلال الـ20 سنة الأخيرة، وهو “هي فوضى”.
اقرأ أيضًا:
لو كان يوسف شاهين وخالد يوسف يقرآن الغيب لما تحققت تنبؤاتهما بهذا الشكل، فعرض الفيلم قصصًا من التعذيب داخل أقسام الشرطة في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، وما يقوم به أمناء الشرطة حينها من حصول على رشاوي واتباع نظم المحسوبيات وما شابه، فكان “حاتم” والذي أدى دوره خالد صالح على أفضل ما يكون مثالًا حيًا وصريحًا للظلم، بما صنعه من سجن خفي يقوم فيه بتعذيب من يعاديه أو يكن له بغضًا حتى وإن لم يكن صاحب ذنب، ولكن التلفيق متواجد.
شارك في هذا الفيلم خالد صالح وعمرو عبد الجليل ومنة شلبي وهالة فاخر ويوسف الشريف ومن تأليف ناصر عبد الرحمن ويوسف شاهين.