التعذيب صناعة بشرية، لم تعرفها بقية الكائنات إلا في أضيق الحدود، فأحياناً تتقاتل الحيوانات وتعذب بعضها البعض من أجل الحفاظ على الذرية أو الحصول على الطعام، أما البشر فسمة فئة منهم تهوى التعذيب، تمارسه بإرادتها أو رغمًا عنها بمنتهى الهدوء والتناغم، كما لو كانت تعزف سيمفونية دموية هادئة.
ويحيي العالم اليوم الجمعة، اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب 2020 تحت شعار “التعذيب: جريمة ضد الإنسانية”، حيث يهدف التعذيب إلى إفناء شخصية الضحية وإنكار الكرامة لدى الكائن البشري، ويستهدف التعذيب تدمير الفرد على المستويين الجسدي والنفسي، وفي كثير من الأحيان لايترك هذا الفعل آثارًا جسدية، إلا أن الفرد يصبح بروح منكسرة تحمل ندبات عميقة وعديدة يصعب علاجها والشفاء منها رغم مرور الوقت.
“المُعّذِب” أو الشخص الذي يقوم بعملية التعذيب نفسها يستحق التأمل كثيرًا، كيف يتصرف بل ويسعد وهو يذل كائنًا حيًا آخر بدم بارد؟، لم يكن الفعل نفسه سهلًا على البشر ذوي التكوين الطبيعي، حتى فسره علماء النفس بأنه سلوك شاذ أو منحرف يرجع لعدة عوامل نفسية، فيقول الدكتور “سالم البحراوي” استشاري الطب النفسي بجامعة القاهرة، إن المُعَذِبين لهم خصائص نفسية تدفعهم للتصرف على هذا النحو، في مقدمتها الجمع بين (السادية والمسايرة)، وبالرغم من أن المصطلحين يخالفان بعضهما البعض تمامًا إلا أنهما يشيران إلى صفتين رئيسيتين في الشخص الذي يقوم بتعذيب غيره، فالسادية تعني استمتاع الشخص برؤية الآخرين وهم يتألمون خاصة وأنه من يقوم بإيلامهم ، ليس هذا فحسب، بل الحصول على نشوة نفسية وأحيانًا جنسية من القيام بفعل التعذيب نفسه للآخرين، والاستمتاع بإذلالهم والتنكيل بهم.
أما الطاعة أو المسايرة وهي عكس السادية تمامًا، ومع ذلك تقترن بالشخص المُعَذِب أيضا وتعني أن الأشخاص الذين يقومون بالتعذيب دائماً ما يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابة تتسم بالخضوع التام ، فغير مسموح لهم بالتفكير أو المناقشة لرؤسائهم، يخرجون من كل اجتماع أو مقابلة تجمعهم برؤسائهم وهم محتقنين بنسبة كبيرة، فهم يطيعون أولي الأمر طاعة عمياء، وجبت عليهم الأوامر، ينفذوها دون تفكير أو إبداء رأي، وذلك ليس بفعل عامل سحري، بل بشكل تلقائي تمامًا فهؤلاء يتم اختبارهم بشكل يؤهلهم لعدم التفكير.
اقرأ أيضًا:
أما السمة الثالثة التي يتسم بها المُعَذِبون فهي ضعف القدرات العقلية أو ضعف الذكاء، وهو ما يبرر لهم المسايرة، ويتم اختيارهم بعناية لهذه الأمور، من خلال إجراء اختبارات ذكاء وسمات شخصية لهم، فيفضل في هذه الوظيفة الأشخاص الذين يحصلون على درجات منخفضة في معدلات الذكاء، كذلك الذين يحصلون على درجات منخفضة في اختبارات الشخصية، ويتسمون بقدر من الإنطوائية، والتذبذب الوجداني، فيفضل أيضًا أصحاب الشخصيات الهشة التي تقبل القمع وليس لها آراء في القضايا العامة.
العداء للمجتمع
يقول “البحراوي” إن الشخصية التي تعذب غيرها كثيرا ما تتسم بالـ “السيكوباتية” أي المعادية للمجتمع، فلديها ميول عدوانية كبيرة، ولا يؤرقها الإحساس بالذنب كثيرًا، هي لا تعرف من الأساس ماهية الشعور بالذنب تجاه الأشياء، وبالتدريب تفقد مفاهيم الشفقة والرحمة والعدل والكرامة، فيصل الإنسان في النهاية إلى أنه يتصرف بمنتهى الثبات فيحصل على لذة كبيرة بتعذيبه لغيره.
يضيف “البحراوي” أن الإنسان الذي يستمتع بتعذيب غيره وقع في خيبات أمل كثيرة في صغره، غالبًا ما يكون وثق بدرجة كبيرة في بعض الأشخاص وخانته ثقته، فينشئ على عدم الثقة في الآخرين، وتُوقع النوايا السيئة دائمًا الاحتقار لغيرها من البشر، ولو أتيحت لهذا الفرد الفرصة لسحق غيره ما تردد لحظة واحدة عن فعل ذلك، يحدث كل ذلك تحت مظلة “التبرير” فيقدم لنفسه حججًا دفاعية لها مفعول السحر في تحقيق معادلة مفقودة لدى الشخص المُعَذِب، فهو دائمًا يبرر لنفسه أفعاله بأنه يقوم بذلك من أجل تحقيق العدالة أو انتزاع الاعترافات من أجل خدمة الجميع والمصلحة العامة.
وسائل أخرى
يرى “البحراوي” من واقع خبرته أن جميع السمات النفسية والسيكولوجية للمُعَذِب ليست بالضرورة أن يكون شخصًا “نصابًا” أو “متدنيًا” في المناصب، بل على العكس، فمن الممكن أن يكون شخصًا مرموقًا صاحب شركة أو مديرًا أو ما إلى ذلك، ومع ذلك يقوم بتعذيب موظفيه من أجل الحصول على إنتاجية أفضل من وجهة نظره، ويبرر لنفسه فعل ذلك أن هم سيستفيدون من تقدم الشركة، وهو ما يندرج تحت بند المصلحة العامة، ومن هنا يُسقط الأفراد السقف الزمني خلال تعذيبهم للآخرين.
ويرى أنه يجب وضع بنود قانونية على أساسها يتم إرساء مبادئ اختيار الأفراد المسؤولين بحيث يكونون مرتفعي الذكاء، لا يعانون من السيكوباتية أو العدوانية، ويتم إجراء اختبارات نفسية دورية لهم، للتأكد من أنهم قادرون على التعامل بآدمية مع من يعملون تحت إمرتهم.
اقرأ أيضًا:
ويضيف أنه من الممكن الاستفادة من التكنولوجيا كحلول بديلة للتعذيب من خلال استخدام برامج كشف الكذب، أو اللجوء للحلول الدبلوماسية وتنمية لغة الحوار، مؤكدًا أن العنف والتعذيب يخلقان جيلًا جديدًا من المُعَذِبين الذين سيقومون بنفس الانحرافات في المستقبل، ويطبقونها على أفراد آخرين يصغرونهم سنًا أو مكانة.