حين تمر أمامك أو تتطرق إلى مسامعك عبارة “إفريقيا”، بالطبع سيتوارد إلى أذهان الغالبية، أشخاص ذو بشرة سمراء يظهرون عرايا بمنتصف أجسادهم، وتنتاب أطفالهم أمراض جسدية كفقر الدم وما شابه، ومحاطين بمجاعات وأمراض، ومع هذه النظرة المتعالية للأمور والتي تنم عن تكوين صورة نمطية عن القارة السمراء، نجد أن هناك دول إفريقية تأتي من الخلف، باحثة عن التقدم والتميز في مختلف المجالات، وتسعى إلى إثبات ذاتها وسط الدول الكبرى وليست وسط قارتها فقط.
ومن المجالات التي سعت دول إفريقيا إليها، وحققت بها خطوات ثابتة هي “السينما”، قد يكون من الصعب استيعاب هذه المفاجأة ولكنها حقيقة ثابتة بالأرقام وبالمشاركة في المهرجانات الدولية والعالمية، فقد أصبحنا أمام دول تنافس أفلامًا أمريكية وعالمية في أكثر من مهرجان.
دول تألقت
مع هذه الحداثة التي أصبحت عليها السينما في أفريقيا بشكل عام، من شمالها لجنوبها، نجد أن دول الشمال مثل تونس والمغرب وهوليوود الشرق مصر، دبت بهم الروح الفنية بها منذ سنوات عديدة، وثبتّت خطاها بالمشاركة في العديد من المهرجانات العالمية والدولية، أما دول الجنوب منها والتي تعتبر خطواتها في عالم السينما ليست كبيرة مقارنة بما قدمته الأولى من نجاحات.
لكننا نجد أن هناك عدة دول تميزت في ذلك وهي نيجيريا وجنوب أفريقيا والسنغال وكينيا، التي قدمت أفلامًا هامة للسينما.
بداية التجربة
بدأت السينما الأفريقية بالظهور مع انتهاء الاحتلال لأغلب دول القارة السمراء، لتخطو إلى جانب السينما البيضاء التي كانت تسيطر على العالم بشكل كبير، لتخرج أولى الأفلام الأفريقية إلى الظهور، عام 1955، بفيلم “افريقيا على نهر السين”، الذي تم خروجه للنور بأبطال أفارقة، ولكن تم تصويره بالكامل بباريس في فرنسا، وبعدها بثماني سنوات تم إنتاج فيلم آخر يحمل الجنسية السنغالية، وهو ” بوروم ساريت” أو “سائق العربة الخشبية”، ويعد هذا هو الفيلم الذي يحمل سمات دول الجنوب الأفريقي الأول الذي تم تصويره بالكامل في القارة السمراء.
مصدر الإلهام الفني
إن كانت السينما الأفريقية قد استطاعت أن تحجز لذاتها مكانة بين السينمات العالمية، فنبع هذا من وفرة المادة التي يمكن تقديمها على الشاشات والموضوعات الحياتية الملهمة لهم التي وضعتهم أمام قصص حقيقية، يتم تناقلها على الشاشات، فقد عانت البلدان الجنوب أفريقية من ظلم وفقر ومرض وسياسيات تجويع ونهب ثروات لمواردها؛ جعلها زاخرة بالأفكار والأعمال الفنية.
نوليود.. من الفيديو للرقمية
بدأ الأمر في دولة نيجيريا بمحاولات الدول الاستعمارية عام 1949، بجلب طبقة المثقفين والفنانين إلى صفوفها، وذلك بإنشاء وحدة السينما النيجيرية لإنتاج الأفلام، ولكن بعد حصول الدولة على الاستقلال عام 1960، حاول المبدعون هناك، تغيير الصور النمطية الفنية التي تركها الاستعمار عنهم، وخاصة بعد أن نشأت سلسلة من الصراعات داخل تليفزيون الدولة، التي أدت إلى هروب كل من له علاقة بالفن منه، ليتحول الاتجاه في نهاية الثمانينات إلى ولاية “لاجوس”، والتي أنشأ بها “نوليود” الفنية.
اقرا أيضا:
كانت هناك عدد من المحاولات لصناعة الأفلام المستقلة بميزانيات بسيطة، وتم ذلك وبدأت أفلام شرائط الفيديو في الظهور، وتم التوسع في انتشارها بالتعاون مع تجار شوارع “لاجوس”، ثم جاء انتشار محطات البث، وأصبحت لكل ولاية بنيجيريا، محطة بث خاصة بها، وتطور الأمر إلى تجارة مربحة مع عملية إنتاجية مبسطة، لا تستغرق وقتًا كثيرًا لصنع أفلام عبر شريط سينمائي يتم عرضه في دور السينما في أنحاء نيجيريا، ثم المحطات التليفزيونية بشكل تلقائي، حيث يوجد حاليًا ما لا يقل عن 139 محطة تليفزيون، و56 دار سينما في نيجيريا، وكانت هذه الأرقام حتى عام 2017.
ومع بداية التسعينيات بدأت الانطلاقة الحقيقية للسينما النيجيرية بإنتاج أول فيلم خاص بهم، من فصيلة الأفلام الرعب. واستمرت نيجيريا في انطلاقتها السينمائية التي علمت طريقتها للنجاح، لتستمر في إنتاج الأفلام ما بين تليفزيونية ودي في دي وسينما، وتطور على الاتجاه الآخر الملابس والديكور وأحدث تطور في مجال القصص المقدمة، وأصبحت صناعة مزدهرة بخطوات متقدمة.
لم تقف نيجيريا عند هذا الحد فمع توافر الموارد الفنية وازدهارها، وبعد أن أصبحت السينما في نيجيريا المصدر الثاني للاقتصاد هنا، أن تفاجئ العالم بأن تنطلق إلى العالمية من خلال الفيلم الكوميدي “أوسوفيا”، والذي دارت أحداثه حول الشاب القروي أوسوفيا، الذي يسافر من نيجيريا إلى لندن ليأخذ نصيبه من الميراث الذي تركه له أحد أقاربه بعد وفاته، ليتعرف العالم بعدها عن السينما النيجيرية.
ومع التألق المستمر للسينما النيجيرية، استطاعت السينما المُستعمرة لعدد من السنوات، أن تُصبح بالمركز الثالث من حيث الإيرادات السينمائية في العالم بـمقدار 250 مليون دولار أمريكي في السنة، وفي المركز الثالث إنتاجًا بعد بولييود الهندية، وهذا وفقًا لمنظمة اليونيسكو عام 2014، بحصيلة أفلام تصل إلى 2500 فيلم سنويًا، بأحدث المعدات الرقيمة الخاصة بالتصوير.
موريتانيا والسنغال
خطت كل من موريتانيا والسينغال، خطواتهم الثابتة نحو السينما بعد انتهاء الاحتلال في الستينات، فقد كان أول فيلم تم إنتاجه في أفريقيا سنغالي، ليكون الفاتحة بعد ذلك لكل الدول الجنوب أفريقية.
ومع ذات الخطوات ولكنها ليست بذات النجاح والحماس، استطاعت السينغال أن تحصد عدد من الجوائز خلال عصرها الذهبي في السينما، وهو سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ففيها حصد مخرجوها جوائز عالمية، وبرزت أسماء جبريل ديوب مامبيتي الذى ترشح فيلمه “Hyènes” أو “الضباع” لنيل سعفة كان الذهبية عام 1992، وصافي فاى وفيلمها “Kaddu Beykat” عام 1976 حصد جائزة الفيبريسى فى مهرجان برلين، وتعد بهذا الفيلم أول مخرجة أفريقية فى الوسط والجنوب.
ولكن على عكس نيجيريا تمامًا الذي ساعتها دور العرض في الانتشار وتحقيق أرباح، تعاني السنغال من عدم وجود دور عرض هناك، مما أدى إلى أنها أصبحت دولة تحصد جوائز لأفلام لا تجد أماكن لعرضها.
أما موريتانيا التي حاولت أن تحقق صحوة فنية بعد الاحتلال في الستينيات، لم تدم طويلًا قدرتها على البقاء وسط السينما الأفريقية وذلك بسبب ما أصابها من تغيرات سياسية واجتماعية، أربكت المشهد العام وجعلتها غير قادرة على الصمود كثيرًا.
جنوب إفريقيا.. السعي حتى الوصول
حاولت دولة جنوب أفريقيا أن تقتحم عالم الإنتاج السينمائي الإفريقي، ليتم استخدامها أحد النقاط المضيئة في الاقتصاد الجنوب أفريقي الكئيب، ليعمل بها أكثر من 35 ألف وظيفة.
اقرأ أيضًا:
وحاولت جنوب إفريقيا أن تحافظ على إنتاج أفلام يمكنها من خلالها الحصول على عائد مادي يساعد في إنعاش اقتصادها المتأزم، الذي قررت فيه الحكومة أن تقتحم عالم الإنتاج وتكون محفزة للقطاع الخاص هناك، بعد أن كان مصدر الدخل السينمائي الخاص بها من التصوير داخل أراضيها التي تتمتع بجمال ساحر.
ومع حلول عام 2008، كان يخرج من جنوب إفريقيا 397 فيلما من بينها 257 فيلمًا محليًا، ولكن مع كون هذه الأفلام المحلية ذات قصص جيدة إلا أن جنوب إفريقيا لا توجد بها دور عرض كافية لعرض ما يتم إنتاجه، لتصبح أمام أزمة إنتاج دون عرض، فلدى جنوب إفريقيا 780 دار سينما فقط ــ وهو ما يعادل 1.47 صالة عرض لكل 100 ألف شخص.
ومع حلول الألفية الجديدة استطاعت سينما جنوب أفريقيا أن تأخذ مجرى مختلفًا وأن تستمع بها دول العالم وخاصة بعد أن شاركت في عدد من المهرجانات الدولية بل وحصدت جوائز وهي الدب الذهبي في مهرجان برلين عام 2011 عن فيلم “يو-كارمن إيخايليتشا”، كما حصدت في ذات العام جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عن “بالامس”.
ومع هذا السرد نكتشف أن هناك سينما في الجوار الإفريقي تستحق المشاهدة والاستمتاع بها، بل ودعهما كما تحاول مصر من خلال مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، الذي يُنظم سنويًا على أرضها، في محاولة للتقرب من أبناء القارة التي نعيش بها.