يعرف البعض العنصرية بأنها الاعتقاد بأن هناك فروقًا وعناصر موروثة بطبائع الناس و/أو قدراتهم، وعزوها لانتمائهم لجماعة أو لعرق ما – بغض النظر عن كيفية تعريف مفهوم العرق – وبالتالي تبرير معاملة الأفراد المنتمين لهذه الجماعة بشكل مختلف اجتماعيا وقانونيا. كما يستخدم المصطلح للإشارة إلى الممارسات التي يتم من خلالها معاملة مجموعة معينة من البشر بشكل مختلف ويتم تبرير هذا التمييز بالمعاملة باللجوء إلى التعميمات المبنية على الصور النمطية وباللجوء إلى تلفيقات علمية.

العنصرية إذن مرض من الأمراض الاجتماعية تصيب الأغنياء والفقراء على حد سواء، على الرغم من تباين الأسباب، إلا أن أعراضها تبدو قريبة الشبه في الحالتين، فقد تصاب بعض المجتمعات الغنية أو بعض من أفرادها بداء العنصرية، ربما نتيجة تهميش فئة من الفئات داخل هذه المجتمعات، وربما نتيجة نجاحات المجتمع في إحداث تقدم نوعي في مستوى رفاهية أفراده فيشعر بعض منهم بشعور مفرط بالتفوق على المجتمعات الأخرى، وهو شعور قد يبدو (عاديا) في حالة ما ظل حبيس أفئدة هذه الفئة من المجتمع، ولكن بعض من هؤلاء يتعدى الأمر دواخله ومكنوناته إلى ممارسات اجتماعية في مواجهة بعض المختلفين عنهم، تنم عن إحساس بالتعالي في مواجهة تدني درجة الآخر (المختلف). وفي هذه المجتمعات (الغنية) قد يمكن تفسير مثل هذه الأمراض والوعي بأسبابها (ليس تبريرها قطعا) والعمل على علاجها أو تحجيمها والحد من انتشارها بطرق مختلفة، في بعض الأحيان من خلال التشريعات التي تمنع أية ممارسة بالقول أو الفعل من شأنها أن تدخل في أي من عناصرها الحض على الكراهية أو أي شكل من أشكال التمييز، وربما بالتوعية بطرق مختلفة لتعديل مفاهيم أو تبيان تهافت مثل هذه الدعاوى، ومن ثم تشكيل رأي عام في مواجهة هذه الفئة تجعل من الذين يدعون إليها منبوذين على المستوى الاجتماعي.

أما في المجتمعات الفقيرة – في البلدان الفقيرة – والتي عادة ما تكون قد تعرضت في الماضي القريب أو مازالت تتعرض لممارسات عنصرية -على المستوى الجمعي أو على المستوى الفردي– والتي تتضاءل فيها مستويات الرفاهية، بل تتضاءل فيها مستويات الحدود الدنيا للحياة، يصبح اكتشاف أن بعض فئات هذا المجتمع تمارس مثل هذا الفعل أمرا محيرا ومدهشا حقا للوهلة الأولى، ولكن بالاقتراب من عمق المشهد الاجتماعي رويدا رويدا يصبح من الممكن تفسير هذه الممارسات العنصرية ومعرفة مكمن الداء وهو أمر يمثل أهمية كبيرة في محاولة العلاج.

فللعنصرية أشكالها المتعددة في المجتمعات… ممارسة بعض أشكال القهر على فئة أخرى عادة ما تكون أضعف ليثبت لنفسه أنه (قوي)، ومن ثم يفتخر بنفسه، ويتباهى بقوته في مواجهة الفئات الأضعف. عادة ما يكون النساء والأطفال. أو عرقا يعتبره البعض عرقا أنقى في مواجهة آخر لا ينتمي لهذا العرق. وفي بعض الأحيان المختلفون عقائديا وعادة ما يمثلون أقلية. المختلفون في اللون وخاصة من أصحاب البشرة (السوداء) – إذ تمكن الاستعمار من تزييف وعي هذه المجتمعات للدرجة التي جعل لون البشرة البيضاء مبعثا للفخر ومصدرا للتباهي.

التشبث بعقيدة بوصفها مصدر الخلاص من كل الشرور في العالم، وتصبح العقائد الأخرى إحدى هذه الشرور ومن ثم يصبح معتنقيها من الأشرار، بل قد تمثل طقوس معتنقي مثل هذه العقائد وشعائرها مصدرا لانزعاج معتنقي عقيدة الخير والخلاص، وهو الأمر الذي يدعو الفئة المتميزة إلى هداية مثل هذه الفئات (الضالة) وقتالهم إن دعت الضرورة.

التشبث برباط مجموعة عرقية/ثقافية تحمل تاريخا (تشبثا مرضيا) لتصبح مبعثا للتباهي الوهمي، للحد الذي يجعل من هذه المجموعة العرقية أصل العالم، ومبدأ الحضارة، ومنبع الخير، ومن عداها أقل وأدنى مرتبة، ومن ثم البحث عن امتيازات.

 كل هذا وغيره يعكس رغبة في البحث عن ميزة يتشبث بها الشخص في مواجهة الآخر، السعي لإثبات أن هناك من هو أدنى درجة ليحتفظ لنفسه ببعض أسباب التفاخر، شعور زائف بالتفوق ربما يرضي ذاته (غير السوية) في مواجهة إحساسه بالذل نتيجة اضطهاد تعرض له، أو تحقير من شأنه مورس عليه فيسعى إلى تفريغ شحناته السلبية فيمن يظنه الأضعف. يستمتع الإنسان بإعلانه (المغرور) والمتكبر، بأنه أعلى شأنا من (الآخر)، وأسمى قيمة من كافة مفردات (الطبيعة) بتنويعاتها المختلفة، وربما تمثلت بداية هذا الزعم في قطيعة الإنسان مع الطبيعة، و(إزالة) أكثر خواص الإنسان صراحة، والكامنة في كونه (موجود حي) قبل كل شيء، ومنحه مملكة (الإنسان) كل ما سلخه عن مملكة (الحيوان)، وهو بذلك كان يفتح دورة لعينة منذ ولادتها، لأنها اقتبست مبدأها ومفهومها من (الأنانية).

في مراحل تاريخ تطور الإنسان عندما كان الانسان جامعا للثمار وصيادا، حيث كان ظهور صياد اخر في نفس البقعة يؤدي الى انخفاض عدد الحيوانات والنباتات، ربما لو كانوا اقرباء قد يتشاركون الغذاء… لكنه شخص تبدو عليه علامات ثقافة مختلفة، ومن المرجح أن يكون منافساً… هل حقا أن غرائزنا تدفعنا لأن نكون حذرين عند التواصل مع الغرباء أو المختلفين، لأننا نعتقد بأن في ذلك حماية لنا … هل الخوف المفرط من الغرباء منذ الصغر والخوف من الناس الذين يختلفون عنا يزيد العنصرية والكراهية… ربما الشعور بحاجتنا إلى مزيد من الحماية والأمان.. لعله الخوف من تقاسم السلطة أو الوظيفة أو الموارد مع مجموعات أخرى من الناس هل هذا ما يدفعنا إلى العنصرية ورفض الآخر.

يوجد الإنسان في هذه اللحظة التي تتسم بـ (الموات/الجمود) وفي هذا العالم الذي تسوده الحاجة والندرة والعنف والاستلاب ويصير فيه (هو) نتاج لإنتاجه، بما يعني أن العمل الذي يقوم به، أي عمله الخاص وقد انقلب عليه، يصبح انتماءه (هو) لمجموعة عاجزة تحكمها قساوة المادة، حيث يشعر البشر جميعهم بالخضوع لما هو أقوى منهم، ولا سيطرة لهم عليه، محكومين بالهموم المعيشية اليومية، مقتولين بالوحدة، غير مبالين بالشأن العام، وفي ظنهم أن هذا هو العادي/الطبيعي، في نظام (طبيعي) بل وضروري، لا يد لهم فيه ولا مفر لهم منه، حيث لا يعرفون حياة أخرى.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، هل يمكن لنا أن نحيا سويا في ظل وضع كهذا، هل يمكن لـ (قائد السفينة) أن يحل معضلة التعايش هذه، وفي واقع الأمر فإن الإجابة مخيفة، إذ لا سبيل لحلحلة وضع كهذا إلا عبر ممارسة عنف ما تجاه بعضنا البعض ليفرض أحدهم رأيه (الحق) على آرائنا (الباطلة) في معركة تبدو لكل منا (معركة مقدسة) ولكن المؤكد فيها أنها معارك خاسرة للجميع حيث لا يوجد منتصر في حرب تنتصر فيها الهزيمة.

والآن وقد تقاربت الإنسانية بفعل إعمار أشد كثافة جعل العالم أكثر صغرا، ولم يترك أي جزء من الإنسانية في مأمن من عنف كريه، يستبد بنا حصر العيش، في هذا العالم الذي يتصف على الأرجح بأنه الأشد قسوة على الإنسان من أي وقت مضى، حيث توجد جميع وسائل الإبادة والمذابح والتنكيل دون أن تلقى أي استنكار على الإطلاق. واجب الإنسان في وجوده الاجتماعي أيضا أن يتعرف على نفسه بوصفه (هو) قبل أن يتجرأ على الادعاء بأنه (أنا)، وأن يدرك أن احترام الغير لا يعرف سوى أساس طبيعي واحد، في مأمن من (المنطق) ومغالطاته – بالنظر إلى أنه سابق عليه – يكتشفه الإنسان في نفوره من رؤية (مثيله) يتألم.

هل يدفعنا هذا إلى أن نعيد النظر في هذا النمط من العيش، وأن نتذكر أن أسوأ جريمة للإنسان (الجريمة التي لا تغتفر) تتمثل في اعتقاده بتفوقه، وفي معاملة الناس على أنهم أشياء وإن يكن ذلك باسم العرق أو النوع أو اللون أو الثقافة أو الرسالة…الخ، وأن ندرك أن الأمل الوحيد في ألا يلقى “أحدنا” من “أمثاله” معاملة مجحفة، يكمن في إحساس الجميع إحساسا مباشرا ( وهو في مقدمتهم) بأنهم موجودات “متألمة” ومن ثم في قدرتهم على “العطف” الذي يمكن أن يمنح القوانين والعادات والتقاليد والأعراف معنى أعمق وأكثر إنسانية، والتماثل مع جميع أشكال الحياة، بدءا بأشدها تواضعا، من أجل أن يتيح للناس (في عالم تزيد زحمته من الاعتبارات المتبادلة) العيش معا، وأن يعيد( بديهته الأولى) بوصفه (موجودا حيا ومتألما) شبيها بجميع الموجودات الأخرى، قبيل الانفصال/ التمايز عنها باعتبارات ومعايير تابعة وهامشية تؤكد على البنية العميقة للامساواة وتبررها.