في كتابه “حرب المئة عام على فلسطين: تاريخ استعمار المستوطنين ومقاومتهم، 1917-2017″، الصادر مؤخرًا بالإنجليزية في الولايات المتحدة وبريطانيا، يؤكد الأكاديمي الفلسطيني الأمريكي الدكتور رشيد الخالدي، مستشار الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن ومدريد في تسعينيات القرن الماضي، أنه على مدار أكثر من قرن سعى الصهاينة مدعومين بحلفائهم البريطانيين أولًا، ثم الأمريكيين، إلى “اجتثاث الفلسطينيين” من أرضهم، وإحلال المستوطنين اليهود مكانهم بطرق عديدة، وأنتجوا روايات سياسية مغلوطة في الغرب لتحصيل الدعم.
يأتي الكتاب في ظل الدعم الأمريكي الكبير لمخططات إسرائيل القاضية بضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية،رغم الرفض الدولي لهذه المخططات، التي أعلنت “الأمم المتحدة” عن رفضها التام لها، حيث أكد أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، أن تلويح إسرائيل بضم أجزاء من الضفة الغربية أثار مخاوف الفلسطينيين والعديد من الإسرائيليين والمجتمع الدولي بأسره. وقال: “إذا تم تنفيذ ذلك، فإن الضمّ يشكل انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي، ويضرّ بشدة باحتمال حل الدولتين ويقوّض إمكانات تجديد المفاوضات”.
ويكشف الكتاب عن حجم “التواطؤ الأمريكي” مع إسرائيل خلال غزو لبنان عام 1982، عندما تعهد مسئولون أمريكيون أمام المجتمع الدولي بضمان سلامة اللاجئين الفلسطينيين، عقب انسحاب “منظمة التحرير الفلسطينية” من بيروت، وانتقال مقرها إلى تونس، ثم نكث هؤلاء المسئولون أنفسهم عهدهم، عندما أشرف حليفهم الغازي على المذابح التي ارتكبها “حزب الكتائب” اللبناني الماروني ضد اللاجئين في مخيمات “صبرا وشاتيلا”، تحت سمع وبصر العالم أجمع.
ويؤكد الدكتور رشيد الخالدي أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تواطأت مع إسرائيل منذ حرب 1967، التي منحت واشنطن “الضوء الأخضر” إلى تل أبيب، لشن الحرب ضد مصر، كما استمرت الولايات المتحدة في تقديم المساعدات العسكرية والغطاء الدبلوماسي اللازمين لحماية إسرائيل ككيان “عنصري استعماري استيطاني”، كان من المفترض أن تقف منه المؤسسات الغربية “الأخلاقية” موقفًا معاديًا، لا أن تدعمه.
“التخلص من اليهود”
يوضح الخالدي أنه بدءًا من الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، بدأ العمل على “تفكيك” المجتمع الفلسطيني الأصلي من خلال الهجرة واسعة النطاق للمستوطنين اليهود الأوروبيين المدعومين من قبل سلطات الانتداب البريطاني. إضافة إلى ذلك، تم إنشاء قطاع اقتصادي منفصل يسيطر عليه اليهود من خلال استبعاد العمالة العربية من الشركات المملوكة لليهود تحت شعار «أفودا إيفريت» (العمل العبري)، وضخ كميات هائلة من رؤوس الأموال الأوروبية والأمريكية.
اقرأ أيضًا:
ومن المفارقات أن آرثر جيمس بلفور، السياسي البريطاني صاحب “وعد بلفور”، الذي نص على دعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، كان شخصًا عنصريًا “معاديًا للسامية”، وكان يرى أنه بذلك سوف يخلّص أوروبا من اليهود إلى غير رجعة!.
ويشير الكاتب إلى أنه في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، ورغم أن اليهود كانوا لا يزالون أقلية من السكان، فإن الأراضي التي استولى عليها هذا القطاع الزراعي اليهودي كانت أكبر من الجزء المملوك للعرب، أصحاب البلاد الأصليين. كما انخفض عدد السكان العرب، بسبب القمع الساحق للثورة الكبرى 1936-1939 ضد الحكم البريطاني، حيث قُتل أو جرح أو سجن أو نفي 10 في المئة من الذكور البالغين.
من جهة أخرى، أدت موجة كبيرة من الهجرة اليهودية نتيجة للاضطهاد من قبل “النظام النازي” في ألمانيا إلى رفع عدد السكان اليهود في فلسطين من 18٪ فقط من الإجمالي عام 1932 إلى أكثر من 31٪ عام 1939. وقد وفر ذلك الكتلة الديموغرافية الحرجة والقوة العسكرية التي كانت ضرورية لممارسة سياسة “التطهير العرقي” في فلسطين، حيث تم طرد أكثر من نصف السكان العرب في البلاد.
ووفق الكتاب، دعمت كل من بريطانيا والولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى، المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية التي أسسها الصهاينة الأوائل، والتي كانت أساسية لإنجاح المشروع الصهيوني. وأهم هذه المؤسسات كانت “جمعية الاستعمار اليهودي” المؤسسة عام 1924. وتم إنشاء هذه الهيئة في الأصل من قبل المحسن اليهودي الألماني البارون موريس دي هيرش، ودمجها بعد ذلك مع منظمة مماثلة، أسسها الثري البريطاني اللورد إدموند دي روتشيلد، والذي قدم دعما ماليا جعل من الممكن شراء الأراضي على نطاق واسع، وتوزيع الإعانات التي مكنت معظم المستعمرات الصهيونية المبكرة في فلسطين من البقاء والازدهار قبل وأثناء فترة “الانتداب”.
وكان استخدام القوة ضد الأغلبية العربية ضروريا لتنفيذ البرنامج الصهيوني، وعزل اليهود في “جيتو” كبير خاص بهم، أو ما أسموه بـ «الجدار الحديدي». وكما قال الصهيوني الروسي زئيف جابوتنسكي: «إن الاستعمار الصهيوني لا يمكن أن يتطور ويتطور إلا تحت حماية قوة مستقلة عن السكان الأصليين، خلف جدار حديدي لا يستطيع السكان الأصليون اختراقه”!.
وزعمت الأدبيات السياسية والثقافية الغربية، آنذاك، أن فلسطين بلد يسكنه عدد قليل من “البدو الرحل” الذين لا جذور لهم، ولا يملكون هوية ثابتة ولا يرتبطون بالأرض التي يمرون بها، كمسافرين عابرين. والنتيجة الطبيعية لهذا الزعم هي أن عمل وقيادة المهاجرين اليهود الجدد فقط هي التي حولت البلاد إلى “حديقة ديمقراطية مزدهرة” كما يُفترض كذبا أنها اليوم، وهي – في حقيقة الأمر- مجتمعا عنصريا من الطراز الأول.
كل هذه المزاعم الغربية، بحسب الخالدي، لخصها شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وهو الشعار الذي استخدمه مؤيدون مسيحيون لقيام دولة يهودية في فلسطين، وكذلك الصهاينة الأوائل مثل إسرائيل زانجويل. لقد كانت فلسطين “أرضًا فارغة” بالنسبة لأولئك الذين جاؤوا لتسويتها، مع أولئك الذين يعيشون هناك بدون اسم أو هوية.
اقرأ أيضًا:
صفقة القرن .. ضم الضفة الغربية ينذر بموجة عنف جديدة
إن الفكرة القائلة بأن الفلسطينيين ببساطة غير موجودين، أو حتى أسوأ من ذلك، هي اختراع خبيث لأولئك الذين يرغبون في انتشار مرض خبيث يدعى «إسرائيل»، تدعمها كتب لمحتالين، والتي يعتبرها بعض العلماء الآن مرجعًا بدون أي أساس.. تعتمد هذه الأدبيات، على حد سواء العلمية الزائفة والشعبوية، إلى حد كبير على روايات المسافرين الأوروبيين.
سماسرة الخداع
في كتابه “سماسرة الخداع: كيف قوضت الولايات المتحدة السلام في الشرق الأوسط”، الصادر عام 2013، يوثق الخالدي الدور الذي لعبته الإدارات الأمريكية المتعاقبة في “عملية السلام” الإسرائيلية- الفلسطينية، وكيف كانت الولايات المتحدة طوال الوقت “وسيطًا غير نزيه” في هذه المفاوضات، وأنها كانت منحازة بشكل سافر للجانب الصهيوني، أو بتعبير أدق “محامي إسرائيل” من وراء الكواليس، باعتبارها “واحة الديمقراطية” في صحراء الديكتاتوريات العربية!
وإلى ذلك، يقترح المؤلف تقديم سرديات عربية مضادة لتقويض الاعتقاد السائد بين أغلب المواطنين الأمريكيين بأن إسرائيل “دولة ديمقراطية” لا تختلف في كثير عن أي دولة أخرى تعتنق القيم الغربية.
ويؤكد الكاتب أن التركيز على مسألة “عدم المساواة” داخل المجتمع الإسرائيلي، وعلى قضية التمييز العنصري بين السكان البيض ويهود “الفلاشا” الإثيوبيين، سيكون أمرًا حاسمًا لتغيير نظرة الغرب لهذا الكيان الصهيوني، لأنها تتعارض تماما مع القيم المركزية في المجتمعات الديمقراطية الغربية التي تعتمد عليها إسرائيل في الحصول على ما تحتاج إليه من دعم، لن تستطيع العيش لحظة واحدة من دونه!.
ويخلص المؤلف إلى أن “الصهيونية الحديثة” التي تقوم في جوهرها على التمايز واللامساواة، وتناقض قيم الديمقراطية والليبرالية، تتعارض تماما مع المثل والأفكار التي تقوم عليها الديمقراطيات الغربية، الأمر الذي علينا استغلاله لمحاولة تغيير موازين القوى، لصالح القضايا العربية العادلة.