منذ أيام شاهدت على شبكة “نتفيلكس” الفيلم الإسباني” المنصة” للمخرج (جالدير أوروتيا)، العمل الفائز بجائزتي “خيار الشعب”، و”جنون منتصف الليل”، لكاتب السيناريو (ديفيد ديسولا)، إنتاج 2019.

وأحسب أن هذا العمل يُقدم للمشاهد أحد أهم أدوار الفن، ذلك حين تجرد السنيما الصراع البشري وتخلصه من كل ما يزاحمه من ادعاءات ومعانٍ تتوالد حوله؛ لتجميل حقيقة الصراعات البشرية حتى تحجب الأصل، كما تُغرقه بالتفاصيل التي تشوش علينا جوهره، فنضع أيدينا على عناصر تكوّنه بدون تجميل أو تزييف.

يوظف الفيلم تقنية الرمز فيصنع ما يشبه مصفاة للحياة، من خلال نص ينهض على دراما الأفكار، حيث يجردها تماما ليصل إلى هيكلها العظمي كي نراها في مستواها الصفر.

ففي مكان يشبه السجن أو “الحفرة الرأسية” ــ بملاحظة شكل الملابس وديكورات المكان ــ، ويتكون من طوابق متعددة، لا أحد يعرف عددها، تدور صراعات ساكني طوابق “المركز العمودي للإدارة الذاتية” على الطعام الذي على المنصة، تلك التي تتحرك عبر فراغ ممتد من الرأس إلى نهاية الطوابق، ثم العودة إلى الأعلى لتُملأ من جديد، ثم تعاد تلك الدورة كل يوم. تتوقف المنصة في كل طابق لحظات لحين يأكل الفردان القاطنان فيه لمدة شهر، ثم تتغير الطوابق التي يتنقلان بينها بطريقة عشوائية، ومن المفترض أن يكفي الطعام الذي على المنصة جميع من في الطوابق، لكن ما يحدث في الواقع أن ساكني الطوابق العليا يأكلون أكثر من حصتهم، فلا يتبقى طعام لساكني الأدوار السفلى، للدرجة التي تجعل أحدهم يقتل زميله ليأكل من لحمه، ويصبح القانون إما أن تَأكل أو تُؤكل.

يستيقظ (جورينج) بطل الفيلم ليجد نفسه في الطابق “48” فيسأله رفيقه (تريماجاسي):” ماذا سنأكل؟ لابد أننا سنأكل بواقي الــ (47) طابق الأعلى من طابقنا”.

تبدو تلك الحفرة بطوابقها مثل الحياة، عندما يُقذف فيها الإنسان عند ولادته وليس له أية إرادة في اختيار طبقته أو دينه أو جنسه وعرقه. كما تشير عملية تغيير الطوابق العشوائية تلك للكيفية التي بها تتبدل الأيام علينا في الحياة، فنحن دوما رهن التغيرات التي تمر في حركة الزمن، حيث لا يد لنا في التحكم فيها.

ويطرح الفيلم بطريقته الفنية أزمة البشرية في عدم القدرة على التواصل، ويؤكد على أن اللاتواصل يعد السبب في كثير من المشكلات المصيرية التي تواجه البشر، كما يناقش كيف يمكن أن نُوجد تواصلا، وكيف نحميه ونفرضه؟

كما يحاول أن يجيب عن مجموعة من الأسئلة المؤرقة للإنسان من قبيل:

ــ كيف نحول هذا العالم الهمجي إلى عالم إنساني، ولماذا تختلف طبيعة البشر كل هذا الاختلاف؟ فتتفاوت الأطماع بينهم بين الأنانية المفرطة، أو القدرة على التخلي والرغبة في العطاء وتنظيم حركة الوجود. فمن خلال تغيير (جورينج) للطوابق يلتقي بالمرأة التي شنقت نفسها في الطابق”202″ ليأكلها، حيث لا طعام ليعيش، في حين قيده رفيقه السابق في الطابق 171 ليقطع من جسده ويأكل كي يستطيع أن يعيش، هذا الرفيق الذي عاش معه في “48” وتحاورا وقرءا سويا.

ــ هل يمكن أن يتحاور البشر دون أن يضطرهم شيء لإجراء هذا التحاور، ففي الطابق”33″ فرض (جورينج) التزام الساكنين من تحته بحصة الطعام التي حددتها لهم المرأة رفيقته بالطابق بتهديدهم بتغوطه على الطعام كله، بعد أن حاولت هي معهم كثيرا بالحوار ولم يلتزما، وهل الإقناع طريقة البشر للتواصل فيما بينهم والتخلص من الأنانية والأثرة، أم لابد أن يفرض الإقناع بالقوة التي يمكن أن تكون القانون، والخوف من العقاب الذي يفرضه؟ وهو السؤال الذي يمكن استخلاصه من حوار “المعلم الحكيم” مع تلميذه (بهارات) الذي قابله (جورينج) في الطابق “6” واتفق معه على التعاون؛ لفرض حصص معينه لكل من في الطوابق، مستعينين بالأسلحة.

ــ هل الفكر هو القادر على توجيه حركة الجموع، أم “النشوة”؟ النشوة التي تعد في الفيلم رمزا للنبوة والرسالات التي تتنزل من الله، ويمثلها في الفيلم شخصية (بهارات)، حيث يعد الإيمان والتسليم فيها هو المحك الرئيس؟

ــ هل من الحتمي ليتمكن الإنسان من تنظم الحياة بمنظومة القيم بين البشر أن يستند على القوة وهو ما يمثله تأمل (جورينج) للأوضاع؟ الفكر الذي تقف وراءه القوة، وهي القضية التي طالما طرحتها الأعمال الفنية، وأتذكر منها رائعة “صلاح عبد الصبور” المسرحية الشعرية “بعد أن يموت الملك”؟

يحتشد بهذا العمل العديد من الرموز والتناصات مع الموروثات المعرفية التي تجعله مميزا من حيث الرؤية والتقنيات السنيمائية.

يبدأ (جورينج) يسأل رفيقه في الطابق “48” عن أشياء كثيرة لا يعرفها لكونه مستجد في هذه الحفرة، ويرفض (تريماجاسي) الإجابة إلا إذا أخذ منه معلومات في المقابل “الإنسان وطبيعته المقايضة”، يحكي (جورينج) سبب وجوده في الحفرة فيقول إنه أراد التخلص من التدخين، وأن يحصل على دبلوم، فتقدم “للمركز العمودي للإدارة الذاتية” وقُبل، على أن يمكث به ستة أشهر، (كأن تلك الشهادة هي اجتياز الإنسان لهذا الوجود رغم طبقيته ووحشيته، ــ سواء على مستوى الظلم الواقع على الأفراد أو حتى الدول ــ، كأنها شهادة تثبت قدرته على التكيّف، وإعمال عقله، والتفاعل مع المتغيرات والظروف، والاختيار الذي قد يكون مخالفا للمعتاد والمألوف، فالبقاء ليس للأقوى كما ورثنا من مقولات، قدر ما هو للفكر الذي يتكيف ويختار، يُسلح نفسه بالقوة التي تمكنه من تطبيق رؤاه، ولذا يستحق الخلاص)، وحين يسأله (تريماجاسي) عمّا اصطحبه إلى الحفرة يقول: كتاب” العبقري النبيل دون كيشوت”، ومع ملاحظة اختيار (جورينج) للكتاب كرفيق، أي وسيلة لمخاطبة العقل وتنشيط الفكر وتجدد الروح، علينا الانتباه لشخصية (دون كيشوت) التي ترمي بظلالها على طبيعة شخصية (جورينج) وتفضيلاته الشخصية، كما أنها أول الأعمال التي تنتمي لما يمكن تسميته بالكتابة غير المشروطة، تلك التي تمكّن الكاتب من إظهار كل ماهو ملحمي وغنائي وتراجيدي وكوميدي في محاكاة ساخرة حقيقية لجميع الأنواع الأدبية، وكأنها رؤية ساخرة لسرديات البشر على مر التاريخ.

لا تفصيلة واحدة تأتي عبثا في تفاصيل المشاهد لهذا الفيلم رغم الاحتشاد. فحين سألته باحثة المركز عن طعامه المفضل يجيب بعد تردد:” الحلزون”، فتلك الرخويات ذات القشرة الصلدة، قادرة على التأقلم والتكيف في أي ظرف بيئي.

اختار (تريماجاسي) سكينا حادا لتكون معه، ويحكي أنه دخل “الحفرة” نتيجة لغرقه في التفاصيل”، فنعرف من حوارهما أنها التفاصيل التي يقف من وراءها شره التسلع، وعبودية الأشياء التي تروجها الميديا، حيث لا تكف عن إغراق الإنسان في التشيؤ وشهوة الامتلاك، فلقد باعوا له أولا سكين ساموراي ماكس، ثم بعد عام أقنعوه بمسن السكاكين ساموراي بلاس، مخطط من الإغواء وتجميل المنتجات، وهو ما يصب لصالح تضخم الرأسمالية العالمية.

يحكي (تريماجاسي) أن انفعاله بسبب الخداع هو ما جعله يلقى بالتليفزيون من النافذة، فوقع على رجل من المهاجرين فتركه ميتا.

وللحوار في الفيلم خصيصة التصويب الدقيق والمباشر، المعبر عن الأفكار والمعاني التي يريد المؤلف على لسان الأبطال الإفصاح عنها، فتتوالى الحوارات في الدرجة النقية للمعنى، دون أي تجميل أو التفاف، بل في صورتها المباشرة لنقل دلالة واضحة لا تحتمل أي اهتزاز عن المعنى المحدد الذي تريده الشخوص بلا استثناء، هناك فقط كثير من الرموز الواردة في الجمل الحوارية. كما تظهر أحيانا حالة من التردد والحيرة ليس في طرح الأفكار، لكن في تبين واختبار أيهما أصلح في الممارسة مع البشر بسلوكياتهم الطامعة، أو العنيفة، أو الفردية، أو الغرائزية، أو من يريد إحداث فتنة، فعندما تطرح  فرضية التضامن العفوي عن طريق الإقناع، يصبح بديل فشلها التضامن تحت التهديد أو بالقوة. فتظهر اختلاف معتقدات البشر، لكن يظل الحوار ينقل الأفكار واضحة دون بنية مجازية في صياغة الأساليب، حتى لو بدت صادمة وهو ما يتسق مع وضوح الأفكار التي يعالجها السيناريو.

ولقد تغلب المخرج على فقر الحوار نتيجة بقاء البطل وحيدا في بعض الطوابق بتنشيطه من خلال مشاهد حلمية بين (جورينج) ورفيقيه اللذين ماتا، وهو مايرجّح بينية تلك المشاهد في وعي البطل بين اليقظة والحلم، كما تشي بعمق الصراع داخله.

ويصور المخرج مشاهد حلمية أخرى تفصح عن مخاوف (جورينج)، وميله لـ(ميهارو)، وهو الجانب المادي الغرائزي الذي يُلح على إبرازه بالإنسان، والكشف عنه في مستواه المتجذر، وإلحاحه على لا وعيه العميق، كما تفصح كثير من المشاهد عن وحشية الإنسان وعنفه حال مواجهة فناءه، أو الحرب لنصرة أفكاره، فتغلب على كادرات التصوير محاولة تجسيد المجرد من الرؤى وتحويلها من مونولوج داخلي بين البطل وذاته إلى ديالوج مادي بينه وآخرين، ومواقف تجسد منطقهم واقتناعاتهم التي تتجادل. ففي الإنسان قوتان: قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام، والسنيما المدهشة هي القادرة على صهرهما معًا.. وللحديث بقية.