يمثل موقف رسمي للسودان إزاء سد النهضة لغزًا محيرًا يصعب تفسيره، فالخرطوم تتأرجح ذهابا وإيابا بين دعم القاهرة وأديس بابا، رغم أن السد في الأساس تم بناؤه على أراضٍ سودانية تم منحها لإثيوبيا بموجب اتفاقية عام 1902 بشروط لم تلتزم بها أديس أبابا، أهمها عدم إقامة مشروعات مائية دون موافقة السودان.

في خضم المفاوضات المتأزمة حول سد النهضة، خرج وزير الري السوداني، ياسر عباس، ليؤكد في تصريحات صحفية أن فوائد سد النهضة لبلاده أكبر من سلبياته بشرط الوصول إلى اتفاق قبل الملء الأول والتشغيل، وأكد أن بلاده اطمأنت من سلامة وأمان السد في مرحلة التصميم والإنشاء.

 تختلف تصريحات عباس تمامًا مع زميله في الحكومة عمر قمر الدين، الذي يشغل منصب وزير الدولة بوزارة الخارجية السودانية، ويقول إن بلاده تخشى انهيار سد النهضة، مضيفًا: “لدينا مخاوف وآمال في سد النهضة ومخاوفنا تطغى على الآمال.. وهناك دائمًا خطر ولو ضئيل في حصول انهيار بالسد، فهو عمل بشري في النهاية”.

 

اقرأ أيضًا:

الكرسي يلوث السياسي.. آبى أحمد من نوبل للسلام إلى منتهك للحريات

 

 تظهر التضارب في الحكومة السودانية عدم وجود رؤية واحدة تجاه قضية سد النهضة وخضوعها للتذبذبات السياسية، فغالبية الفريق الذي خاض مفاوضات السد تم تعيينه في عهد الرئيس السابق عمر البشير الذي تعامل مع السد كورقة للابتزاز السياسي، وكثير منهم مقتنعون بأنه يوفر للسودان احتياجاته الكهربائية من إثيوبيا.

 

تمارس مجموعة القوى المدنية المناهضة لمخاطر سد النهضة الإثيوبي ضغطًا على الحكومة السودانية، وترى أن السد مؤامرة ضد وجود دولتي المصب، بسبب مخاطر تتعلق بسلامة السد، وتطالب بتغيير نهج التفاوض الضعيف الذي كان تنتهجه حكومة عمر البشير.

وتقول القوى المدنية، في بيان لها، إنها لا تثق بالمفاوض السوداني في سد النهضة فيما يتعلق بحماية حقوق الخرطوم المائية، لأن اللجنة الفنية ووزير الري الحالي ياسر عباس كان مسئولاً عن الملف في عهد البشير، وطالبت بتغيير الفريق التفاوضي بالكامل لمواجهة أطماع أثيوبيا غير المشروعة في التحكم بمستقبل شعوب دول المصب.

سد للدمار

ويؤكد محمد عثمان، مؤسس المجموعة، في تصريحات صحفية أخيرة تناقلتها وسائل الإعلام الغربية، إن السد الإثيوبي هو “سد للدمار” وفقا لتقديرات خبراء المياه والري والقانون الدولي، فحتى الآن لا توجد دراسة واحدة لتحديد المخاطر وإمكانيات السودان للتعامل مع تداعياته كما رفضت إثيوبيا تقرقر المكتب الاستشاري الفرنسي الذي سعى لتحديد ذلك الأثر.

ومنذ اندلاع ثورة الخبز التي أطاحت بنظام عمر البشير، واصلت السلطة الانتقالية توجيه دفتها نحو إثيوبيا مع زيارة آبي أحمد للخرطوم ورعايته اتفاقًا بين المجلس العسكري الانتقالي وقادة قوى الحرية والتغيير، بعد أحداث فض ميدان الاعتصام التي راح ضحيتها العشرات، وأنذرت حينها بعودة الثورة مجددًا.

واستمر ذلك الموقف لشهور طويلة، فقبل أسابيع، تحفظ السودان على البيان التضامني لوزراء الخارجية العرب مع مصر بشأن أزمة سد النهضة في مارس الماضي، بزعم أنه يخلق مواجهة بين الدول العربية وإثيوبيا، لا مبرر لها وتؤدي إلى استقطابات حادة.

 

كما رفض التوقيع على وثيقة اتفاق واشنطن التي تولت رعاية أربعة جولات من المفاوضات بين مصر وإثيوبيا بعد تهرب الأخيرة من التوقيع، في سلوك أثار الاستغراب حينها وفتح الباب أمام تأويلات حول تأييد الخرطوم لأديس بابا ضد القاهرة.

عادت الحكومة السودانية قبل يومين ورفضت مقترحًا من أثيوبيا بتوقيع اتفاق ثنائي جزئي للملء الأول لسد النهضة الإثيوبي، مبدية تمسكها بالاتفاق الثلاثي الموقع بين الخرطوم وأديس أبابا والقاهرة.

 يبدو أن تذبذب موقف السودان نابع من ضغوط داخلية وخارجية على حد سواء، فعلى مدار الأسابيع الأخيرة تزايدت الآراء المحلية التي تؤكد سلبية السد على السودان ومصر، والتي لم يكن النظام السابق في السودان يسمح لها بالحديث ما خلق رأي عام محلي يطالب بالخروج من فلك إثيوبيا.

نشاط حقوقي

يتصدر تلك الآراء أحمد المفتي، مدير مركز الخرطوم لحقوق الإنسان، الذي أصبح كلقمة في حنجرة المفاوضين السودانيين الرسميين، بعدما فجر مخاوف محلية كبيرة بتذكيره المستمر بواقعة انهيار إحدى بوابات سد في شمال أوغندا والذي أدى إلى غرق العديد من القرى، ما تسبب في مخاوف سودانية من إمكانية تكرر الأمر مستقبلاً في سد النهضة.

والمفتي حاليًا ضيف دائم على وسائل الإعلام العربية والأجنبية للتعليق على مفاوضات سد النهضة، وأصبحت آرائه محركا للكثيرين حول مخاطر السد، مع امتلاكه سيرة ذاتية حافلة، كمفاوض دولي، واستقالته قبل سنوات من عضوية اللجنة الوطنية السودانية لسد النهضة، بعد تأكده من عبثية التفاوض، واقتناعه بوجود مخطط دولي لإنشاء بنك مياه في حوض النيل.

 

وتنامي الوعي السوداني أخيرًا بوجود ضرر مباشر على أبناء جلدتهم من قبائل “شنقول” التي تعيش على الحدود المشتركة بين البلدين وصل عددهم لقرابة 4 ملايين شخص جميعهم من أصول سودانية، وتصنفهم الحكومة الإثيوبية كفصيل مسلح معارض.

وأصدرت قبائل بني شنقول، بيانا أمس وصل لـ”360″ نسخة منه، أكدت فيه تضررها من السد، بسب تهجيرهم من قراهم بسبب بناء السد ومزرعة السكر، بجانب تتضرر مصايد أسماكهم وفقدانهم الاتصال الثقافي والروحي بالنيل، وتضرر أنشطة استخراج الذهب الذي هو مصدر دخلهم الذي يتطلب الماء لاستخراجه.

 وأكد البيان أن الحكومة الإثيوبية لم تحصل على الموافقة الحرة والمسبقة والمستنيرة من الشعوب الأصلية في وقت بناء السد، كما جاء في إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية. ومن الواضح أن إثيوبيا لا تحترم الإعلان الدولي بشأن حقوق السكان الأصليين.

ويقول خبراء إن السودان تحول إلى وسيط في ملف النهضة رغم أنه أحد المتضررين من السد، ويرجع ذلك إلى وجود لوبي كبير مؤيد لإثيوبيا في الجهاز المدني للدولة وكان ذلك اللوبي وراء مرور حادثة الاشتباك على الحدود السودانية الإثيوبية مرار الكرام دون أي رد فعل قوي من الخرطوم.

مصالح خاصة

لكن الدكتورة تماضر الطيب، أستاذة العلاقات الدولية بجامعة الخرطوم، قالت إن السودان يتبنى موقفًا يدعم مصالحه الخاصة طالما أنها لا تتعارض مع مصلحة إثيوبيا ومصر والسير على المبادئ لأممية المتعلقة بحل المنازعات المائية غير المخصصة للأغراض الملاحية القاضية بتحقيق مصالح جميع الأطراف. 

تضيف «تماضر» في تصريح خاص من الخرطوم عبر “واتس آب”، إن ما يهم السودان هو بناء السد بشكل علمي بحيث لا يتضمن أخطار مائية تهدد أراضيه في المقام الأول، ويحاول ممارسة الضغوط على الطرفين المصري والإثيوبي لتقديم تنازلات تصب في الوصول إلى اتفاق مشترك في ظل قناعاته بضرورة ألا يؤدي السد لأضرار على القاهرة أو تنسحب أديس بابا من المفاوضات.

 ويعاني شمال السودان من أزمة وقود منذ استقلال جنوب السودان الذي يضم 75% من مصادر النفط في السودان قبل الانقسام، ومنذ الثورة وتوقف إمدادات الاستيراد كثيرًا تعاني المصانع من توقف التيار المستمرة التي تصل لـ 8 ساعات يوميًا ما قلل الإنتاج وضاعف أسعار السلع ثلاثة أضعاف، بجانب شكوى المواطنين من انقطاعها في وقت الذروة التي تصل فيها الحرارة إلى 48 درجة كثيرًا.

 

اقرأ أيضًا:

مجلس الأمن ليس الخيار الأخير.. بدائل مصر بعد انتهاء ماراثون مفاوضات السد

 

 وضاعفت إثيوبيا أخيرًا كمية الكهرباء التي تمد بها السودان 200 ميجاوات يوميا منذ إكمال الاختبارات الفنية في خطوط الربط الكهربائي بينهما، وكانت ورقة ضغط على الخرطوم التي تلقت وعودًا كبيرة بالحصول على 1100 ميجا وات بسعر مغر بمجرد انتهاء السد الإثيوبي.

كهرباء للسودان

 ودخلت مصر دخلت على الخط هي الأخرى وبدأت مشروع الربط الكهربائي بين البلدين الذي يوفر 60 ميجا وات يوميا للسودان، من المقرر زيادتها في المستقبل إلى 300 ميجا وات، لكن الرقم لايزال بعيدا جدا عن احتياجات السودان التي تقدر بنحو 3500 ميجا وات.

 

وتوضح «تماضر» أن الموقف السوداني تغير، فالنظام البائد (عمر البشير) أدار ملف مفاوضات سد النهضة بما يضمن بقائه في السلطة بصرف النظر عن مصلحة السودان ووقف بجانب إثيوبيا لحسابات شخصية وليست وطنية، والأمر تغير حاليا وأصبح السودان شريك أساسي في المفاوضات وعنصرًا فاعلًا فيها بما لا يضر بمصالحه.

وتؤكد أن السودان لدية رؤية أكثر وضوحاً في الوقت الحالي تقوم على مراعاة المصلحة الوطنية بما لا يتعارض أيضاً مع مصلحة كلاً من إثيوبيا ومصر، تقوم على مبادئ الأمم المتحدة في حل المنازعات المائية غير المخصصة للأغراض الملاحية، والتي تستهدف تحقيق جميع الأطراف أكبر استفادة ممكنة من بناء السد.

ويوجد قطاع من السياسيين السودانيين متعاطفين مع السد مع زاعم حول فوائده في زيادة الدورات الزراعية وتقليل حدث الفيضانات وتسهيل استخدام النيل كوسيلة للمواصلات.