“زقاق المدق، الحرافيش، بداية ونهاية، والثلاثية”.. رسم الروائي الراحل نجيب محفوظ من خلالها حال الأحياء الشعبية من أحداث ومواقف وتجارب إنسانية متنوعة مرت بمصر في مختلف المراحل الزمنية.
لكن “محفوظ” رحل عن عالمنا قبل أن يجسد ما ألت إليه تلك الأحياء بعدما اختلفت قوانينها وعاداتها وتبدلت ثوابتها مع مرور الزمن، ومع تغير الخريطة والكتلة السكانية، خاصة في القاهرة الكبرى بسبب تزايد الهجرة الداخلية من القرى والصعيد إلى القاهرة لأسباب متعددة، وبداية ظهور العشوائيات.
تنقسم المناطق العشوائية الى ثلاثة أنواع، مناطق غير آمنة، وغيرها غير مخططة، وأخرى مهددة للصحة، وبحسب الإحصائيات الأخيرة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، فإن 160.8 ألف فدان هي إجمالي مساحة المناطق العشوائية بالجمهورية.
واحتلت الإسكندرية المركز الأول من حيث انتشار العشوائيات، وبلغت مساحة المناطق العشوائية بها 20.1 ألف فدان بنسبة 12.5% من إجمالي المساحة، فيما جاءت محافظة القاهرة في المركز الثاني بمساحة 19.4 ألف فدان بنسبة 12%، يليها الجيزة بـ 15.5 ألف فدن، ونسبة 9.6% من إجمالي مساحة المناطق العشوائية.
وكشفت دراسة لمعهد التخطيط القومي بمصر عن 8 أسباب لوجود العشوائيات كان أبرزها الهجرة الداخلية، والتي تتم من المناطق الريفية إلى المدن.
وذكر الدكتور محمد حسانين” في كتابه “الهجرة الداخلية في مصر- دراسة في الجغرافية البشرية، والصادر عن “مركز دراسات الوحدة العربية عام 2010” أن أكبر موجات الهجرة الداخلية كانت خلال الفترة التي أعقبت ثورة يوليو1952، واستمرت بقوة دفعها حتى عام 1966، ثم عام 1973، كأثر للتنمية الشاملة التي حققتها الثورة اقتصادياً واجتماعياً، وتسببت في نشأة تيارات قوية للهجرة صوب المناطق الصناعية الجديدة والمراكز الحضرية المتوسطة ومناطق التوسع الزراعي وموقع إقامة السد العالي.
“تريف المدينة”
الهجرة الداخلية كان لها تأثير سلبي على الأحياء الشعبية التي اختلط فيها سكانها بالمهاجرين الجدد من الريف، وتأثرت المناطق الشعبية بالهجرة الداخلية الأمر الذي أدى إلى ” تريف المدينة “.
وحول سمات المهاجرين من الريف وعلاقتهم بسكان المناطق التي هاجروا إليها، يرصد كتاب” تكامل المهاجرين مع النمط الحضري للقاهرة الكبرى، للدكتورة نادية حليم سليمان والدكتور وداد سليمان مرقص، أن المهاجرين يحاولون القيام بعملية توافق اجتماعي عن طريق الابتعاد عن المواقف والأفراد الذين يسببون لهم مواقف صراعية، وتقتصر علاقات هؤلاء المهاجرين على أبناء قريتهم الأصلية المقيمين في المدينة سواء على مستوى العلاقات الشخصية أو عن طريق انضمامهم إلى الجمعيات الرابطة لأبناء القرية الواحدة، كما يحافظون على علاقتهم بمجتمع القرية ويرفضون شكلًا ومضمونًا السنق القيمي الخاص بالمدينة”.
وفي بحث أجراه الدكتور طاهر عبد العظيم بعنوان “السينما المصرية كمؤثر هام في مواجهة التغيرات العشوائية التي طرأت على البيئة الشعبية والريفية”، قال”إنه حين ضاقت الرقعة الزراعية وافتقرت أو أفقرت أصبح أحد أحلام الفلاح الهجرة إلى المدينة حيث أحلام الثروة والحياة المدنية الحديثة، وحين ذهب إلى المدينة نقل إليها خصائص الحياة الزراعية فبنى العشوائيات، وأضفى ذوقه الريفي على المساحة التي يشغلها، ونقل أخلاقيات المجتمع الزراعي إلى المدينة كالبطء والتراخي والإحساس الممتد بالزمن، وعدم تقدير أهمية المواعيد، وعدم تحرى الدقة، وضعف الاهتمام بنظم العلاقات الاجتماعية. مما أثر سلبيا على مجتمع المدينة”.
حلوان والمرج والسادس من أكتوبر
حتى بداية تسعينيات القرن العشرين، كانت منطقة المرج ريفية تغلب عليها الزراعة، حتى ظهرت عليها طفرة عمرانية كبيرة واختفت الأراضي الزراعية تماما، وتم مد مترو أنفاق القاهرة إلى محطته الأخيرة المرج الجديدة، وأصبحت المرج أحد أحياء القاهرة بعد أن كانت قرية ثم ضاحية صغيرة، فيما كان بالمرج فيلا السيدة زينب الوكيل حرم مصطفى باشا النحاس والتي احتجز فيها اللواء محمد نجيب منذ عام 1954.
“سبت البلد وجيت أشتغل في المقاولات”، هكذا ردد الحاج أحمد، أحد أشهر مقاولي منطقة المرج الجديدة، والذي يمتلك ما يقرب من 7 أبراج سكنية أنشأت حديثًا.
وأضاف “أن المناطق الشعبية ليست كما كانت في العهد السابق، فللأسف تدهور الوضع أدى إلى سوء تلك المناطق، فلا يوجد فيها أمان مثل زمان، وإنما الآن الجيران يحرصون دائمًا على عدم الاختلاط”.
الأحياء الشعبية زمان
“مبقاش فيه حي شعبي زي زمان”، تلك الجملة رددها “وائل” صاحب أحد الأكشاك بيع الحلوى بالحي السادس، مضيفًا أن الأحياء الشعبية لم تكن كما كانت في سابق عهدها فقد افتقرت لأهم ما يميز تلك المناطق وهو الأمان والمودة، فهناك بعض حالات التحرش والمضايقات لفتيات المنطقة” التي كانت من المحظورات زمان” بسبب أن السكان من مناطق مختلفة وأغلبهم ممن جاءوا من المحافظات بحثًا عن لقمة العيش.
بامتداد منطقة حلوان وعلى جانبي النيل بدأ عدد من الأبراج تنشأ بالإضافة إلى مناطق جديدة ” مناطق أهالي” احتلتها بيوت صغيرة لا تتعدى ثلاثة طوابق تسكنها عائلات، تلك المناطق التي بدأت في الظهور في السنوات القليلة الماضية والمعروف عن تلك الأبراج والمناطق أنها تعديات “استصلاح زراعي” تم شرائها وبناؤها منازل لتجمع هذه العائلات لتحقيق حلم تملك وحدات سكنية بالقاهرة بأسعار أقل.
الحاج أحمد عبد الرحيم، أحد سماسرة المنشية امتداد منطقة حلوان، يقول “إن أغلب سكان منطقة المنشية هم من المحافظات الذين اضطرتهم الحاجة إلى ترك محافظتهم والمجيء إلى القاهرة وخاصة حلوان بحثًا عن لقمة العيش، سواء بعمل أحدهم في بعض المصانع والشركات الموجودة بحلوان أو بأعمال حرة، فالقاهرة متعددة الوظائف والأعمال على العكس الريف فأغلب ساكني بهذه المنطقة من محافظات وجه قبلى وخاصة بني سويف وأسيوط وسوهاج”.
وأكد “أن الكثافة السكانية دفعت للامتداد على الرقعة الزراعية وظهور ما سمى فيما بعد بحلوان البلد الجديدة والمنشية الجديدة، تلك المناطق العشوائية لا يوجد بها مرافق حكومية لكن الأهالي يتكاتفون ويحاولون حل هذه الأزمات وتوفير احتاجتهم للمعيشة”.