بدأ اليوم من وسط البلد، حيث استيقظت، وانتهى في حدائق المعادي، حيث تعيش أسرتي، وبين المنطقتين المختلفتين العديد من التشابهات كان بطلها الأوحد المقاهي.
كان صباح السبت يشي منذ بدايته بأنه لن يكون يوما عاديا في حياتنا، نحن الرواد الدائمين، وفي حياتهم أيضا، العازفين عن العودة لحياتهم الطبيعية، إذ تكشف الصراع مبكرا بين الفريق الذي استيقظ مهرولا إلى مقهاه، وغريمه الذي تبارى في توزيع صكوك النجاة من الفيروس، وإسداء النصائح لمن قرروا استئناف حياتهم المتوقفة.
في العاشرة والنصف صباحا، بتوقيت القاهرة، كان المشهد كالآتي: يقف القهوجي الصعيدي “علي” أسفل لافتة مقهاه “علاء الدين”، الواقع بمنطقة المنيرة، في انتظار زبائنه القدامى الذين هللوا فرحا بفتح المقاهي بعد إغلاق دام 3 أشهر.
بدا “علي” مرحبا ومنتشيا على غير العادة، فهو اعتاد أداء عمله في صرامة تامة، لكن هذا الحدث يستدعى ابتسامة العائدين للتو إلى حياتهم.
اقرأ أيضًا:
قضى “علي” الأشهر الثلاثة في منزله بينما بحث آخرون في المقهى الكبير عن وظائف أخرى، في الوقت الذي اضطر بعضهم إلى العودة إلى قراهم في الدلتا والصعيد حتى تعيد الحكومة فتح المقاهي مجددا.
2 مليون مقهى
يوجد في مصر 2 مليون مقهى، تعمل نسبة كبيرة منها على مدار الـ24 ساعة، ويعمل حوالي 3.5 مليون شخص في خدمات المقاهي والمطاعم، بحسب التقديرات الحكومية.
في المقهى، الذي اعتدت التردد عليه على مدى السنوات الأربع الأخيرة، حاول الجميع إظهار الالتزام من حيث ارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي، لنكتشف أن هذا ليس مناسبا لأجواء المقهى حيث لا مكان للتصنع، فبدأ كل من يتحرر من كمامته لاحتساء مشروبه.
نزل النادل بكوب مياه زجاجي أمام كل فرد من صحبتنا مع أكواب الشاي الصباحية الدافئة، لكن أنا وصديق آخر رفضنا وطلبنا إحضار المياه في كوب من الكرتون المتداول الآن لمنع انتقال العدوى، لنشعر جميعًا أن العودة لسابق العهد لن تكون بهذه السرعة، فالفيروس لا يزال موجودا حولنا يطاردنا في كل خطواتنا حتى في خلستنا إلى مقهانا.
الروح ليست موجودة كما عهدناها، فلم تنزل لي “الشيشة” فور جلوسي كما اعتدت على مدار السنوات، فلم أعهد أن أذهب للمقهى لتناول مشروب أحصل عليه في منزلي أو مكتبي.
توقفت كركرة “الشيشة” ولم أسمع الطلب النموذجي المعهود “شيشة قص وشاي سكر بره”، فأدركت مأساة العودة التدريجية في زمن الكوفيد، إلا أننى تعاملت مع الأمر بمنطلق “نص العمى ولا العمى كله”.
زحام وتكدس
أما في حدائق المعادي، الحي الشعبي الذي ينتمي أجزاء منه إداريا إلى المعادي أحيانا والبساتين أحيانا ودار السلام في أحيان أخرى، تعج الشوارع الرئيسية بمقاه لا حصر لها، وتبدو الحياة طبيعية أكثر من اللازم كما لو كان الكوفيد لم يمر من هنا.
تجولت بين شوارع متكدسة بالبشر نزلوا جميعا بحثا عن الأمل والخلاص، فالرجال قصدوا مقاهيهم والسيدات قصدن المحال التي لم تعد تغلق أبوابها مع انسحاب الشمس، فكان بإمكانك أن ترى لمعانا في العيون بعودة الحياة حيث لا مكان للظلام مجددا.
جولة سريعة بين مقاهي المنطقة الشعبية تكشف غياب الإجراءات الاحترازية أيضا، فقلما تجد زبونا يرتدي كمامته وبالطبع من يقدم له المشروبات، إلا في بعض الكافتريات الكبيرة، أما في الأزقة فحدث ولا حرج.
اقرأ أيضًا:
اللافت أن تعليمات الفتح بنسبة 25% من سعة المكان لم تطبق في المقاهي التي افترشت أماكنها الطبيعية، باستثناء بعض المقاهي التي حرصت على تحقيق التباعد الاجتماعي على مستوى الطاولات فقط.
نسبة التشغيل
غير أن دعابة الزبون الأساسي للمكان سيكون له أولوية الـ25 % لم يتخط صدقها شبكات التواصل الاجتماعي، فالمقاهي تعمل بأريحية كبيرة دون ضغوط في عدد الزبائن ومن يقصد المقهى في أي وقت سيجد مكانا له بدون واسطة كما تردد.
“مفيش حاجة اسمها 25 % في قهوة شعبية، أن بحط الترابيزات والكراسي في أماكن واسعة والناس بتقعد، أنا مكنتش بعد الزبائن قبل كده عشان أنقص منهم”، يقول نادل في مقهى 77 عن طريقة تطبيق قرارات الحكومة بخصوص الفتح التدريجي.
يشير العامل إلى أنه حاول مرارا تحقيق التباعد الاجتماعي في مقهاه خلال الفترة المسائية لكنه فشل بسبب العدد الكبير الذي قصد المقهى من فئة الشباب.
الفروقات ليست كبيرة بين المقاهي الشعبية، فالجميع يسعى إلى كسب الرزق بعد توقف طويل تسبب في تأزم حياتهم ماديا، أما النظافة التي تبحث عنها في أي مكان لا تتوافر إلا في أضيق الحدود، وهو ما رصدناه في ارتداء “عمال النصبة” في مقهى المنيرة للكمامة القماشية، باعتبارهم المشرفين على تحضير المشروبات للجمهور.
عودة الحياة إلى المقاهي وإن كانت احترازية لكنها كفيلة ببث الأمل في نفوس كثيرين أن فيروس كورونا لن ينتصر على البشرية، وأن الظلام لن يستمر طويلا كما كنا نعتقد في الأسابيع الماضية التي كان فيروس كورونا فيها هو حاكم المدينة.