“إحداهن قايضت فناجينها الثمينة بحفاضات لرضيعها” هذا هو الوضع الذي وصل إليه الشعب اللبناني في الآونة الأخيرة، حيث أصبح في مفترق طرق، فبين سلسلة من الأزمات الاقتصادية المتتالية، والتي كان أولها تهاوي الليرة، وما تبعها من انهيار اقتصادي في مختلف القطاعات، والرغبة في تحسين المناخ السياسي والمعيشي خرج المئات في جميع المدن رافعين راية الاعتراض على الإجراءات التي أفقدت الكثيرين أبسط احتياجاتهم وحرمتهم من تأمين معيشتهم، ليبدأ لبنان مرحلة الاحتجاجات الداخلية الناتجة عن تردى الأوضاع كما حدث في الدول الشقيقة سابقًا.
وشهدت منطقة انطلياس شرقي العاصمة بيروت، أمس الأحد، احتجاجات شعبية، حيث تجمع حوالي 50 محتجًا رافعين شعارات منددة بالطبقة السياسية الحاكمة والأوضاع الاقتصادية المأزومة.
في المقابل، استخدمت قوات الجيش القوة لمنع المتظاهرين من قطع الطريق السريع في إنطلياس، فاندلعت اشتباكات سقط خلالها نحو 10 جرحى، كما اعتدت بعض أفراد الأمن بالضرب على 3 مصورين تابعين لوسائل إعلام محلية، أثناء تغطيتهم للأحداث .
بينما انطلقت في مدينة طرابلس، مسيرات، رفضا للغلاء المستفحل، وتنديدا بتراجع سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار، حيث دعا بعض النشطاء بالمدينة إلى عصيان مدني، اليوم الاثنين، يشمل إقفال المحال التجارية والمصالح الخاصة .
وتزامنًا مع الأحداث، أغلق عشرات المحتجين وسط منطقة زحلة في محافظة البقاع، الطريق السريع ثم أعادوا فتحه بعد وقت قصير.
أسباب الاحتجاجات
وجاءت هذا الاحتجاجات في بعض المدن، إثر تدهور غير مسبوق للعملة اللبنانية، إذ تجاوز سعر صرف الدولار الواحد حاجز 7 آلاف ليرة لبنانية في السوق غير الرسمية، بينما يبلغ 1507.5 ليرة لدى مصرف لبنان.
وتداولت العديد من الصور عبر مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى تراجع كبير في ‘القدرة الشرائية” في البلاد مما أدى إلى عجز عائلات كثيرة عن تأمين متطلباتها الأساسية .
كما عكست تلك الصور خوف بعض اللبنانيين من المستقبل وعدم تفاؤلهم بـ “الإصلاحات الحكومية” أو حدوث انفراجة قريبة لأوضاعهم المعيشية المتدهورة.
فقد استيقظ اللبنانيون، السبت الماضي، على قرار الموزعين وقف تسليم الخبز لأصحاب المحلات التجارية، ما دفعهم إلى التوجه بأعداد كبيرة إلى المخابز المركزية ، حيث بلغت ربطة الخبز في بعض المناطق إلى 2500 ليرة بدل سعرها الرسمي الذي يبلغ 1500 ليرة لبنانية.
وأعاد مشهد تهافت الناس على المخابز إلى أذهان كثيرين مشاهد من الحرب الأهلية، عندما كان الناس يصطفون في طوابير لساعات لشراء حزمة خبز واحدة.
ويعيش لبنان منذ أشهر أزمة اقتصادية خانقة، فاقمتها إجراءات الإغلاق العام للحد من تفشي فيروس كورونا وتداعيات عقوبات “قانون قيصر” الأمريكي الذي دخل حيز التنفيذ الأسبوع الماضي ويستهدف النظام السوري وحلفاءه.
ومنذ أكتوبر الماضي، فقدت الليرة اللبنانية 70 في المئة من قيمتها، كما تشير تقارير إلى أن مئات اللبنانيين خسروا مصدر رزقهم أو جزءا من مدخراتهم، وسط توقعات باختفاء الطبقة الوسطى.
بينما أرجع مراقبون أن الأزمة الاقتصادية الراهنة إلى عدة أسباب أهمها الخلافات القائمة بين زعماء القوى السياسية واصطفاف بعضهم في لعبة المحاور الإقليمية، وعوامل أخرى منها السياسية المرتبطة بتوجهات سياسية معارضة وموجهة للضغط على السلطة الممثلة برئيس الجمهورية، والحكومة برئاسة حسان دياب.
إشارات أخرى يمكن ربطها بالتشريعات الجديدة وعودة الاحتجاجات، وهو ما يتفق حولها بعض الخبراء، بقولهم إن رفع السرية المصرفية وغيرها المرتبطة لها حصة من هذه الاحتجاجات، لكن الأخيرة مقسومة لاتجاهين، حيث تجرى احتجاجات بهدف تسريع وتحقيق وإقرار قوانين مكافحة الفساد، وتهدف أيضا لتوسيع دائرة المحاسبة وإعادة الأموال المنهوبة والمهربة.
يأتي هذا في وقت يتفاوض فيه لبنان مع صندوق النقد الدولي أملا في الحصول على قرض يخرجه من أزمته بالرغم من أن التكهنات ترجح احتمالية رفض الصندوق المساعدة لأسباب عديدة آخرها قرار منع سفيرة أميركا في لبنان من التصريح.
تراجع الليرة
منذ أواخر العام الماضي، تراجعت ثقة اللبنانيين بالعملة المحلية، مع ظهور بوادر تسارع في التراجع الاقتصادي للبلاد، قبل أن تشهد شوارع بيروت احتجاجات وصلت حد الاحتكاك مع قوى الأمن، أدت إلى نشوء تخوفات بالتأثير على سعر صرف العملة المحلية.
أدت هذه الاحتجاجات إلى توجه اللبنانيين أفرادا وشركات، نحو “الدولرة غير الرسمية”، أي تحويل ما بحوزتهم من عملة محلية إلى الدولار الأمريكي، للحفاظ على قيمتها، أمام أية تحديات مستقبلية قد تشهدها البلاد، وهو ما حدث فعلا.
ومع توجه الأفراد والشركات نحو تبني الدولار كعملة ادخار لهم، زاد الطلب على الدولار ما دفع نحو تذبذب في وفرته داخل الأسواق الرسمية والأسواق الموازية التي كانت تنشط في البلاد لكن بوتيرة أقل بكثير مما عليه الآن.
وقبل أزمة تراجع الدولار المتسارع منذ أكتوبر الماضي، شعر القطاع المصرفي في البلاد، بوجود زيادة تدريجية وغير منطقية في تبني الدولار كعملة ادخار، من خلال قياس تحركات عمليات الصرف داخل السوق الرسمية .
لذلك، لجأت بنوك عاملة في السوق المحلية تحت غطاء قانوني من مصرف لبنان، بفرض قيود على السحب بالنقد الأجنبي، لدرجة أن أصحاب الودائع بالدولار، أصبحوا غير قادرين على التصرف بودائعهم بحرية كاملة.
اقرأ أيضًا: احتجاجات لبنان.. “قرصة الجوع” تهزم مخاوف الوباء
هذه الإجراءات، دفعت البنوك لتقليص تحرك النقد إلى الأجنبي إلى السوق، وأجبر المتعاملين الحاملين للدولار خارج البنوك، إلى الاحتفاظ به داخل بيوتهم، والشركات داخل خزائنها.
واخيرًا تهريب الدولار، فقد كان الدولار الأمريكي منذ سنوات، عملة تهريب من لبنان إلى سوريا عبر الحدود وبعيدا عن القنوات الرسمية، لكن ازدادت وتيرة التهريب بشكل متسارع منذ العام الماضي، وأصبح ينقل من السوق اللبنانية بشكل غير قانوني إلى سوريا.
وتعتبر قضية الحدود بين سوريا ولبنان، واحدة من الشروط الرئيسة لصندوق النقد الدولي لتقديم المشورة الفنية والمساعدة النقدية لبيروت لإدارة برنامج الإصلاح الاقتصادي التي الذي أعلنت عنه حكومة حسان دياب، الشهر الماضي .
العودة للشارع
فيما ترى غولاي الأسعد المرشحة البرلمانية السابقة، إن تراجع القدرة الشرائية بشكل كبير دفع الشارع للعودة مرة أخرى للاحتجاج.
وأوضحت أن بعض الأشخاص يسعون لعودة بعض القيادات لمواقعها مرة أخرى، فيما يسعى البعض لإزاحة الطبقة السياسية بشكل كامل.
وتقول رولا المراد، رئيسة حزب 10452، أن المواطنين استفاقوا من صدمة كورونا وصدمة تدهور العملة، وعادوا للتفاعل مع ما يحدث، ويرون أن العودة للشارع هي الحل.
اقرأ ايضًا: لماذا رفض الاتحاد الأوروبي تصنيف “حزب الله” تنظيمًا إرهابيًا؟
لكن رغم الصورة الضبابية، ساهمت الازمات الأخيرة في لبنان في ظهور مبادرات لمساعدة بعض المواطنين على توفير احتياجاتهم بأقل التكليف.
مشاهد مؤلمة
ومن هذه المبادرات صفحة “لبنان يقايض” التي دشنها مغترب لبناني قبل نحو أسبوعين على فيس بوك، ورغم الغرض النبيل للمبادرة ألا أن النشطاء يصفون المشهد بالمؤلم، إذ يقايض بعض المنخرطين في الصفحة أغراضهم الشخصية الثمينة ببعض المواد الأساسية، فمثلا، عرضت إحداهن طقما من الفناجين الباهظة الثمن مقابل أكياس حفاظات وعلب حليب لطفلها الصغير.
بينما يرى كثيرون في تلك المنشورات انعكاسا لواقع بعض اللبنانيين الذين تغيرت أولوياتهم وتخلوا عن الكماليات.