تعريفات عديدة للهوية، البعض يربطها بالأرض والدين واللغة، وآخرون يضيفون التاريخ المشترك، أما القوميون فيضفون عنصر الانتماء العرقي، ورغم صحة تأثير هذه الروافد المتعددة في تشكيل هوية الشعوب، غير أن عصر العولمة قد كشف عن رافد جديد للهوية الإنسانية، وهو نمط وعلاقات الإنتاج السائدة، والتي أصبحت تتحكم في كيف يعيش البشر، وما هي احتياجاتهم وماذا يحكم علاقاتهم.

مع بداية الوجود الإنساني على الأرض، احتاج البشر إلى الانتماء لجماعة بشرية بدلا من وجودهم الفردي، فالجماعة تشكل لهم الحماية في مواجهة طغيان الطبيعة والجماعات الأخرى الحية على الأرض سواء الحيوانات أو الجماعات البشرية الأخرى التي تتصارع على الموارد، نمط الإنتاج السائد هو الصيد والتقاط الثمار، ورغم بساطته الشديدة التي خلت من عمليات الإنتاج، غير أنها فرضت على الإنسان الدخول في جماعة بشرية والانتماء لها، وتكوين جماعة متجانسة تحظى بوجدان مشترك وهو أول عناصر تشكيل هوية المجموعات البشرية.

ولعب الصراع على الموارد دورًا حاسمًا في الحفاظ على هوية كل مجموعة، ونتج عنه انتصار بعض المجموعات على الأخرى أحيانا، واستيلائها على ما تحوزه من أراض، بل وأسر البشر من الجماعات المهزومة في أحيان أخرى، ولأن هؤلاء البشر ينتمون إلى هوية أخرى، لزم صياغة تعريف جديد لهؤلاء المهزومين، نتج عنه نمط الإنتاج “العبودي”، وأصبح الأسرى عبيدًا.

 

هوية الأحرار الجدد

تطور قوى الإنتاج يصحبه دائما تطور وتغير في علاقات الإنتاج، والذي ينعكس على هوية المجتمع، مما سمح بخلق إقطاعيات زراعية مستقرة تحتاج للمزارعين الماهرين، فأصبح تحرير العبيد ضرورة لتطور نمط الإنتاج السائد.

يوضح المفكر الاشتراكي ” آلان وودز” في كتابه “ما هي المادية التاريخية؟” عملية الانتقال بقوله “كان أساس الإقطاعية قد أُرسي في المجتمع الروماني، حين أُطلق سراح العبيد وتحوّلوا إلى مستوطنين مرتبطين بالأرض.. وهذه السيرورة التي حدثت في أوقات مختلفة واتخذت أشكالا مختلفة في بلدان مختلفة، تسارعت بفعل الغزوات البربرية. أصبح أمراء الحرب سادة الأراضي المحتلة وسكانها، يقدمون حماية عسكرية ودرجة من الأمن مقابل استغلال عمل القن وهو فلاح الإقطاعية”.

 

اقرا أيضا:

“كوشيب” في قبضة “الجنائية الدولية”.. ماذا عن “البشير”؟

 

 الرأسمالية تدعم الهوية

اصطدم صعود الرأسمالية في بدايتها بقيود علاقات الإنتاج الإقطاعية، التي لم تكن تسمح للأفراد بحرية التنقل أو حرية اختيار رب العمل، كانت الإقطاعيات جزرًا منعزلة محاطة بأسوار، والمرور منها يحتاج لدفع رسوم، طرحت الرأسمالية شعارها الشهير “دعه يعمل .. دعه يمر” لتحقيق حرية اختيار الفرد “لرب عمله”، وحقه في التنقل الحر دون دفع رسوم مرور.

حقق الشعار هدفه بكل براعة لتوفير عمال “أحرار” للمصانع في عصر تطور الآلات، وازدهرت المدن بسرعة وتوسعت خطوط الإنتاج، وأصبحت الحاجة لسوق من المشترين للسلع حيوية، وأصبح تحطيم الإقطاع ضرورة لتطور النظام الرأسمالي، لخلق سوق مفتوحة لا تقيدها الإقطاعيات المغلقة على ساكنيها.

وكان الكثير من دول العالم الحالية مفككًا إلى دويلات وولايات أصغر حجمًا، ألمانيا وإيطاليا كانتا مجرد إقطاعيات وولايات متناثرة، وقادت الرأسمالية الصاعدة بعدما استقرت عملية توحيد الأمم وخلق الهوية الوطنية في محاولة لتوسيع نطاق سوقها المحلي والنمو من خلاله.

“كارل ماركس” يشرح الأمر في “البيان الشيوعي” “بأن اكتشاف أمريكا والالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، فتح أرضًا جديدة أمام البرجوازية الصاعدة. ومنحت أسواق الشرق -الهند والصين- واستعمار أمريكا والتجارة مع المستعمرات وزيادة وسائل التبادل والسلع عموما، التجارة والملاحة والصناعة دفعة لم تعرفها من قبل، وبالتالي أعطت للعنصر الثوري داخل المجتمع الإقطاعي المتهاوي تطورا سريعا”.

اجتاحت الرأسمالية العالم، وسيطرت على كل شبر في الكرة الأرضية، وظل نهمها الشديد لأسواق جديدة المدفوع بوفرة الإنتاج والتطور التكنولوجي الذي خلقته، وهو ما استلزم حربين عالميتين لحل نزاع الصراع على الأسواق، بعدما تحول الأمر إلى تهديد بفناء الجنس البشري، وأصبح ضروريا وجود طرق أخرى لإدارة صراع الأسواق.

 

 حل سحري 

كان الجزء الأعظم من العالم ما يزال يخضع للاستعمار والاستغلال، ويمارس دور منجم الخامات للاقتصاد الرأسمالي المأزوم، وساهم بقدر ضئيل فقط في الاستهلاك كسوق، وأصبحت عملية تحرير الأمم المستعمرة وتشكيل هويتها الوطنية حلا ساحرا للأزمة، وتوسعاً هائلا للنظام الرأسمالي، محققا ازدهارا غير مسبوق أعقب الحرب العالمية الثانية، فطفرة الإنتاج والتطور التكنولوجي في الفترة من 1945 وحتى أواخر القرن العشرين أصبحت تتفوق على مجمل تطور البشرية خلال آلاف السنين قبلها.

احتاج إنجاز الأمر إلى تغذية المشاعر القومية لدى الشعوب، وصعود الأفكار الشعبوية المستندة إلى عناصر الهوية المتميزة ونعرات التميز عن الآخر سواء بالتاريخ أو الدين واللغة والثقافة والفن مدعما بالكثير من الأفكار العنصرية المستندة على التميز “الديني أو الأخلاقي”، وأصبحت “الهوية” مرادفًا لسعي برجوازيات كل دولة إلى السيطرة على سوقها المحلي.

تعقدت مشكلة الأسواق أكثر بعدما أنجزت بعض المستعمرات السابقة عملية التصنيع وأصبحت تشارك بمنتجاتها في الأسواق، ولم يعد الحل العسكري ممكنًا لحسم الصراع على الأسواق، وأصبح ضروريًا حل الأزمة بآليات جديدة.

العولمة وتحطيم الهوية الوطنية

حققت العولمة أهدافها، أولا حطمت حواجز التجارة والإجراءات الحمائية للدول “المستقلة” حديثًا، وفتحت الأسواق للمنافسة “الحرة” بين المنتجين لتصبح على الأقل نظريا “آليات السوق” هي الوسيلة لحسم صراع الأسواق، كما أضافت قيمة شرائية كبيرة للسوق الرأسمالي عبر توحيدها لنمط الاستهلاك، وحولت ما كان يعتبر لوقت طويل سلعًا ترفيهية إلى احتياجات للمستهلكين، مستخدمة الفن وخاصة السينما والدعاية المزورة واللزجة في أغلب الأحيان والعنصرية والجنسية في أحيان أخرى.

فرض النظام الرأسمالي نمطه الاستهلاكي عبر الأرض كثقافة استهلاك عالمية لا تقيدها حدود، وفي طريقها اصطدمت بحواجز الهوية القومية للشعوب، محطماً إياها لحساب هوية عالمية تخدم ثقافة الاستهلاك.

استخدمت الرأسمالية الهوية في مرحلة صعودها، بل ولزمن طويل حين كان يخدم مصالحها ويساهم في انتشارها عبر الكرة الأرضية، وحطمتها بلا تردد حين أصبحت عائقا واحتاجت للعولمة وسيلة لإدارة الصراع على الأسواق واحتياجها لخلق مشترين جدد لسلعها.

 

مصر هبة النيل 

يتفق علماء الاجتماع والجغرافيا على أن العنصر الحاسم في تشكيل هوية وشخصية مصر هو نهر النيل، فالدولة المركزية كانت ضرورة للسيطرة على جموح النهر وترويضه، وتطوير علاقات تعاون بين البشر كان محوره التغلب على النهر بين الجموح والتدمير في فترة الفيضان، إلى الجفاف القاسي والتوقف عن ضح المياه في شريان المجتمع المصري.

ساهم هذا التحدي في انصهار الهوية المصرية منذ فجر التاريخ، لتنجز مبكرا جدا وقبل آلاف السنين من أمم كثيرة تجاورها، مهمة خلق الهوية المصرية، كان المصري يعرف نفسه بمصريته منذ الألف الرابع قبل الميلاد بعد توحيد مينا للولايتين الشمالية والجنوبية وإعلان الدولة الموحدة، بينما ما يزال الكثير من سكان شعوب أشباه الدول المحيطة يعرف نفسه بالانتماء القبلي أو العشائري.

 

سنوات الاحتلال الطويلة

إنجاز مصر المبكر لهويتها وتبلورها ساعد في الحفاظ عليها خلال سنوات الاحتلال الطويلة منذ قبل الميلاد وحتى الاستقلال منتصف القرن الماضي، ورغم مرور بل واستقرار جماعات كبيرة من المحتلين في مصر، ظلت شخصية مصر وهويتها أقوى من محتليها، بل وصهرتهم ودمجت من هوياتهم الأجزاء التي لا تتعارض جذريًا مع مكونات الهوية المصرية.

منذ الإسكندر الأكبر، فرضت مصر هويتها وشخصيتها، بل وجعلت المحتل نفسه يسعى للتماهي مع الشخصية المصرية، سعى الإسكندر إلى الحصول على بركة الإله آمون لتتويجه حاكما على مصر، وظلت الإسكندرية منارة العلم والثقافة في الإمبراطورية الرومانية.

بعد دخول المسيحية، وتحول المصريين إليها، طبعت الهوية المصرية نسختها من الدين المسيحي وطرحت الأرثوذكسية كنسخة مصرية للدين الجديد.

دخل الإسلام مصر في القرن السابع الميلادي، وصاحبه عدد من القبائل العربية التي استقرت في مصر واندمجت في هويتها وشخصيتها، ورغم تحول مصر إلى اللغة العربية ودخول المصريين في الإسلام، صهرت مصر القادمين بطابعها وطبعت نسختها الإسلامية المصرية، والتي تميزت بالتسامح مع الآخر وحرية الاعتقاد، كما دمجت بين احتفالاتها الفرعونية والدين السائد من خلال مظاهر وعادات رمضان واحتفالات الأعياد والفانوس المصري وشم النسيم.

 

الهوية.. وبترول السبعينيات

التحدي الأكبر للهوية المصرية، بدأ مع طفرة البترول في سبعينيات القرن الماضي، بعد رحيل ملايين المصريين للعمل في بلاد النفط الخليجية التي أصبحت هدفا للراغبين في العمل، لكن أموال النفط حملت معها نسختها الإسلامية الوهابية المتشددة، وانتشرت جماعات الإسلام السياسي التي استفادت من الدعم المالي ليس فقط من البلدان والجماعات، بل ومن الثروات التي كونها الكثير من أعضائها المحملين بنسخة الإسلام الخليجي المتشدد.

تحدي الهوية لم يتوقف فقط على الوهابية، بل صاحبه تحدي العولمة والنظام الرأسمالي الجديد، تغيرت الأزياء لتشمل الجينز والتي شيرت وغيرها، تغيرت الموسيقي لتشبه في أغلبها وأكثرها انتشارا الموسيقي الغربية بتنويعاتها من بوب وجاز، وحتى الراب الذي نسخة المصريين علي شكل “مهرجانات”، وأصبحت روابط مشجعي برشلونة تتفوق عددا علي روابط الأندية المصرية الشهيرة، اصبح حلم كل مصري عند تأسيس منزله يشبه ما يشاهده في أفلام هوليود من المكنسة وحتي المايكروويف.

 

اقرأ أيضا:

“محرر العبيد”.. رحلة نضال الفتى الأسمر من الخيمة للقصر

 

لولا طقوس الاحتفالات المصرية، والتي بدأت أيضاً في الخفوت وضعف التمسك بها، لما استطاع القادم الجديد إلى مصر التعرف إلى عناصر هويتها، ولما اختلفت حياته بها عنها في أي بلد آخر حديث، حتى مظاهر التسامح الديني وقبول الآخر بدأت في التعرض للاهتزاز بالكثير من أحداث الفتنة الطائفية والعنف المتزايد على أساس الدين أو الجنس أو اللون.

لكن ذلك ليس نهاية المطاف، فسيرورة التغير ما زالت تجري أمام أعيننا، وتكررت مثل هذه الفترات في الماضي، فقد شكلت الحملة الفرنسية تحديًا أكبر في بداية القرن التاسع عشر وطبعت عصر محمد علي ومصر الحديثة بالكثير من سماتها، وأضافت في الحقيقة الكثير من الإنجازات بدءا من المشاريع الانشائية الضخمة علي نهر النيل، ومرورا بالتعليم والثقافة واكتشاف كنز التاريخ المصري بعد حل شفرة اللغة الهيروغليفية، وتأسيس الجيش المصري الحديث، وبعد سنوات من التفاعل ظلت شخصية مصر متماسكة وقوية بعد أن استوعبت عناصر التفوق الغربي وخاضت مسيرة التحرر والتطور في عصرها الحديث.