يعد ولي الدين ابن خلدون أحد أهم العقول التي يتفاخر بها أبناء العربية في يومنا هذا، كيف لا ، وهو الرجل الذي ينسب إليه تأسيس عدة علوم، البعض يعتبره مؤسس علم التاريخ، والبعض الآخر يرى فيه مؤسس فلسفة التاريخ، بينما يذهب فريق ثالث إلى أنه مؤسس علم العمران، ولا يتردد البعض فيعده أحد الفلاسفة الكبار، فالرجل الذي توفى سنة 808هـ/1406م، شغل العرب في القرن العشرين بأكثر مما شغلهم وقت حياته، البعض يبحث فيه عن منابع الحداثة والبعض يبحث عنده عن إجابات للأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية، فهل ابن خلدون كل هذا؟ أم أننا نحمله بأكثر مما تحتمل أطروحاته؟ هل ذهب ضحية قراءة تبحث فيه عن سلف لنهضة متخيلة وغير متحققة؟ أم كانت عملية الاستدعاء محاولة للتغطية على خواء معرفي أمام الغرب الأوروبي؟

 ألف ابن خلدون التونسي كتابه الشهير “العبر” بداية في قلعة ابن سلامة بوهران الجزائرية العام 776هـ/ 1347م، وانتهى منه في تونس العام 782هـ/ 1380م، ثم لما انتقل إلى مصر واستقر بها بداية من العام 784هـ/ 1382م، أعاد النظر في الكتاب بعدما استفاد الكثير من المعلومات المتوفرة في مكتبات المدارس العامرة في القاهرة المحروسة، وأخرج النسخة الثانية من الكتاب سنة 797هـ/ 1394م، وعليها عنوان الكتاب الكامل “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.

يتضمن الكتاب ثلاثة أقسام أساسية، يعرف كل قسم منها بالكتاب؛ الأول في العمران وهو المعروف عند الناس بـ “المقدمة”، ربما لأن الكتاب الأول تسبقه مقدمة الكتاب والتي خصصها ابن خلدون لفضل علم التاريخ، ولما كانت المقدمة تطبع عادة مع الكتاب الأول، فربما من أجل ذلك عرف الكتاب الأول كله بـ “المقدمة”، أما الكتاب الثاني فهو أكبر أجزاء “العبر” وهو القسم التاريخي لدول العالم الإسلامي من مصر حتى حدود الصين شرقا، ثم الكتاب الثالث وهو مخصص لتاريخ البربر ويضم تاريخ المغرب والأندلس، ويطبع الكتاب الثاني والثالث معًا، ثم يختم ابن خلدون بذكر قصة حياته في القسم الأخير من كتابه.

    يهمنا في حديثنا الجزء المعروف بـ “مقدمة ابن خلدون”، والذي نشر أكثر من مرة، وتدور حوله شهرة ابن خلدون بشكل أساسي، والتي جعلت الكثير من المفكرين والباحثين يهتمون به سواء في علوم التاريخ والاجتماع والسياسية، لذا لم يكن غريبًا أن تنشأ ما يمكن وصفه بحقل الدراسات الخلدونية، التي تحتفي بعبقرية الرجل وتبحث عن مكامن التجديد فيما طرحه من أفكار في مقدمته الشهيرة، لكن هل صحيح أن فكر ابن خلدون قادر على أن يكون الأساس الذي نبني عليه نهضة عربية، وهل في فكره استشراف مستقبلي يمكن البناء عليه؟

    يخيل إليّ أن ابن خلدون في مقدمة العبر كان يستهدف تقديم مشروعه الإنقاذي لأمة أخذت في الأفول الحضاري، إلى حاكم/ أمير يستطيع أن ينفذ الروشتة التي اقترحها ولي الدين، لذا نرى الأخير ينخرط في معارك المغرب الإسلامي السياسية، باحثًا عن حاكم قادر على تنفيذ رؤيته السياسية الاجتماعية الاقتصادية الإصلاحية، وعندما تأكد من أن أزمة عصره أكبر من رجال المغارب والأندلس، يمم وجهه صوب القاهرة المملوكية، ولم يجد فيها بغيته، وربما داعبه الأمل في آخر الأمر في صورة الغازي تيمورلنك، باعتباره القادر على إقامة دولة موحدة تعم المغرب الإسلامي وشرقه، لكنه وبعدما التقى بـ تيمور لنك في دمشق، وألف له جغرافية لمسالك بلاد المغرب (كمقدمة ضرورية لدراسة خطط الغزو المستقبلي لهذه المناطق)، أدرك ابن خلدون أن تيمورلنك لا يستطيع أن ينفذ رؤيته. فغادر ابن خلدون دمشق معتذرًا من حضرة غازي الشرق، وعاش في هدوء حتى وفاته في القاهرة، ليختفي ذكر كتاب العبر سريعًا في بلاد العرب، حتى عاد للحياة على يد المستشرقين.

هنا يطرح سؤال نفسه، لماذا لم يتم البناء على ما قدمه ابن خلدون باستثناء المقريزي في مصر، واستدعاء خجول متقطع في تونس؟ ثم بعد ذلك خفت استدعاء ابن خلدون في وقت دخلت المجتمعات العربية مرحلة تأخر ثقافي في العموم في وقت شهدت أوروبا الغربية نهضة قادت إلى الفجوة الحضارية الحاصلة، هل كانت أزمة المجتمعات الإسلامية جنوب المتوسط فيما بعد الطاعون الأسود غير قابلة للحل؟ أم أن النظام المملوكي وصل إلى لحظة انسداد غير قابلة للتعاطي مع أي حل بأي شكل، ما قد يجعل النهاية الحتمية أمام الغزو العثماني أكثر منطقية، وهو نفس الموقف الذي دخلته ملكيات المغرب العربي؟ أم أننا نحمل نص ابن خلدون أكثر مما يحتمل؟

 من الأسئلة التي يمكن طرحها حول المقدمة، هل الأخيرة مجرد تجميع وملخص وافي كتب بأسلوب رائع لمنجز الحضارة العربية الإسلامية؟ أم أن ابن خلدون بنى منجزه على هضم حقيقي لمنجز الحضارة العربية الإسلامية في تفاعل حي مع وعيه النافذ؟، هل كان مجرد ناقل لفلسفة إخوان الصفا أم صاحب طريقة في التفكير والتنظير؟، على المستوى الشخصي تشغلني علاقته بالمسعودي، هو يعجب به بغير تحفظ لكنه نوع من أنواع الإعجاب الذي ينقلب إلى حسد ملحوظ، هذه فكرة مهمة، خصوصا أن المسعودي ينتمي إلى وسط ثقافي مغاير، فإذا كان ابن خلدون هو ابن ثقافة فقهية وأشعرية وسياسية أساسًا يبدو المسعودي أكثر انفتاحًا وأوسع أفقًا وهو الرحالة الذي طاف العالم الإسلامي.

 ابن خلدون في رأيي هو ابن عصره وتلميذ وفي جدًا لتراث الحضارة العربية الإسلامية في شقها الأشعري أساسًا، وهو ابن هذه الحضارة بكل تناقضاتها، لذا ليس غريبا أن ترى في المقدمة صورًا من التناقض والأحكام التي هي ابنة عصرها ومفهومة من رجل تولى منصب قاضي قضاة المالكية في القاهرة، لكن الأزمة ليست في ابن خلدون ومنجزه المهم جدًا في إطار عصره، بل في محاولاتنا نحن في عمل إسقاطات متخيلة على ابن خلدون ومقدمته، وبدلا من قرأتها وفهمها في أزمة العصر الذي انتجها من جهة والخلفية الثقافية الحاكمة لابن خلدون من جهة أخرى، نحاول نحن بكل طفولية تحويل ابن خلدون إلى صنم ندعي أنه ابتكر وأبدع في كل مجالات العلم والمعرفة قبل الغرب الأوروبي، فهل هي محاولة تعويض نفسي فقط؟

 يكشف ابن خلدون فينا إذن عقدة “الخواجة” والنقص أمام الغرب، لا القراءة الصحيحة والحقيقة لمنجزه، الغريب أن أول من لفت الأنظار إلى أهمية المقدمة هو المستشرق الفرنسي سلفستر دي ساسي وترجم بعض نصوصها إلى الفرنسية العام 1826، ثم نشر تلميذه أتيين كاترمير النص الكامل لمقدمة ابن خلدون العام 1858، وبدأت بعدها عجلة الدراسات الخلدونية في الدوران في أوروبا، ومنها انتقلت إلى الشرق العربي.

  يبدو والوضع كذلك أن فكرة استعادة ابن خلدون كمنبع للحداثة هي فكرة أوروبية! لذا يبدو الاهتمام العربي بابن خلدون في جوهره بعيون أوروبية، فنحن نشعر بالانسحاق أمام الغرب، لذا نبحث عن آباء حداثة نحتمي بهم ونسعى للبناء على تراثهم، مع تطويع هذا التراث لأهدافنا، نضفي على تراث ابن خلدون الانسجام اللازم الذي يوفر لنا استخدامه في لحظتنا هذه، نفعل ذلك معه مثلما نفعل مع ابن رشد وابن تيمية والغزالي وغيرهم الكثير، نهمل حقيقة أن المفكر ابن عصره ولا يفهم إلا في سياقه، واستعادته جملة قد لا تكون مفيدة بقدر ما نعتقد.

 في النهاية يبدو الدرس الأكبر للتراث الخلدوني غائبا، لأننا لم نحاول الإجابة على سؤال “لماذا فشل ابن خلدون في تنفيذ مشروعه الإصلاحي؟”، وبالتالي لماذا فشل الحداثيون العرب أو أحفاد ابن خلدون في تغيير الواقع البائس للمجتمعات العربية المعاصرة؟ تبدو الإجابة واحدة في الحالتين؛ وهي تجاهل الحاجز المانع لأي إصلاح حقيقي يمس عصب الأزمة، هذا الحاجز يتمثل في الاستبداد السياسي، الذي تجنب ابن خلدون مواجهته قديمًا ويتجنب أحفاده مواجهته حديثًا.