في مشهد متسع ترصد الكاميرات من كل زاوية حشود الجيش المصري بقواته الجوية والبرية والبحرية، وتصرح القيادة السياسية في لهجة واضحة بمحددات أمنها وعمقها الاستراتيجي، ينقل هذا المشهد نوعا من الخطاب المتضمن لمجموعة من الرسائل لتحقيق التواصل بين القوى المتنازعة بطريقة ما.

كان (جورينج) أول فيلم (المنصة أو الحفرة) مسالما، لم يرد عنفا أو إراقة للدماء، لكن رحلة اقتناعاته في تجربة “الحفرة” التي هي رمز للحياة انتهت إلى أنه لا يمكن إقامة العدل دون أن يستند على القوة.

 احتشد الفيلم بكثير من المؤثرات الخاصة: زوايا كادرات التصوير، والإضاءة، والموسيقى، والديكورات، وبالرغم من أن المخرج اعتمد على لوكيشن واحد شديد القتامة، لا إغراء فيه للعين سوى المائدة المتحركة، حيث الطعام المعد بعناية فائقة، إلا أنه حرك كاميراته من زوايا مختلفة بحسب وجود الأبطال في الأدوار، فعلى حافة الفجوة في المنتصف يضع مدير التصوير الكاميرا للتطلع للأدوار العليا وبيان تراتبيتها، وربما مناشدتها إنسانيتها، نفس الكاميرا التي تجسد وتصور الهاوية وانعدام فرص الحياة كلما نزلت للأدوار السفلى، حركة الكاميرا على هذا النحو تجسد هذا الوجود الطبقي في الحياة بكل أبنيته، سواء على مستوى الدول، أو الأفراد، كما تجسد صراع إرادات البشر، وكيف تُعامل كل طبقة أو دولة الآخرين وفق تفوق قواتها.

 ومنذ البداية ترافق مشاهد إعداد المائدة موسيقى ذات طابع إسباني، تعتمد على دقات تتوالي بإيقاع خاص، إيقاع دقات بداية عرض مسرحي، أو إيقاع قرع أجراس الكنائس، تلك الدقات التي تعلن عن مأساة الوجود، أو طوابق المركز، أو التحولات الدرامية العنيفة التي تتوالى على حيوات القاطنين فيه، بالإضافة أيضا إلى موسيقى تصويرية عالية الإيقاع تتسق وقدر العنف بين الجميع.

دلالات الحوار بين الأبطال، وعراء ما يطرحه من طبائع البشر، وقدر الظلم والعبث بهذا الوجود عوضت أيضا قتامة مشاهد الحفرة الرأسية الشبيهه بالسجن، كما استعان المخرج أيضا بالإيقاع اللاهث في تحريك المشاهد؛ ليحتفظ بشغف المتلقي ويقظة عقله، ولئلا يصاب بالملل من ثبات المكان، وكابية ألوان الملابس، وكثرة الأفكار المجردة التي تطرح عبر حوار الأبطال.

بدا ديكور الحفرة والأدوار شديد التقشف، الحد الأدنى فقط من أساسيات الحياة، فراش فقير منفصل لكل شخص على أحد جانبي الدور، وحوض، ومرحاض مشترك للشخصين، تصميم الدور يضطرهما للعراء تماما أمام بعضهما، يفصلهما عن باقي قاطني المركز، ويجعلهما على اتصال في الوقت ذاته.

يلفت الانتباه أيضا أن المرآة المعلقة في كل دور متسخة وقديمة، بالكاد يمكن للشخص أن يرى فيها ملامحه، وأحسب أن لهذا دلالة عميقة فيما يتصل بالطبيعة البشرية، اتساخ المرآة تسليم بقبح وجوه البشر الذين ينظرون فيها.

اختار المخرج ألا تكون للمنصة التي تحمل الطعام لجميع الأدوار، التي هي محور الصراع بين البشر في المركز العمودي للإدارة الذاتية أية ركيزة، فضل أن تكون معلقة في الفراغ الذي في وسط الحفرة الرأسية، متحررة دون تقنية تتحرك وفق ميكانيكيتها، تتحرك في الفجوة الوسطى بين الطوابق الرأسية، أو المدفونة في العمق، هذه المنصة التي تعد رمزا لكل شيء مادي يستأثر به الإنسان وليس الطعام فقط، وفي ظني أنها على هذا النحو تمثيل للعبث بأقدار البشر في هذا الوجود، والافتقار إلى المنطق الذي يتشكل على نحوه النظام الطبقي، أو معيار الحركة. فوفق أي معيار يحتل البعض الطوابق العليا، ومن يقطن بالسفلى، ولماذا، وكيف تتغير أحوال الحياة على هذا النحو العبثي؟

 في المشهد الأخير برع المصور في خلق إضاءة زرقاء غامضة، وتسليطها على المنصة من أسفل، كثف الإضاءة نحوها في رحلة صعودها للأعلى مرة أخرى، وهبت تلك الإضاءة الصوفية معنى مكثفا بالدلالات لرحلة الصعود تلك، حيث صعدت الطفلة التي ظلت (ميهارو) تبحث عنها فوقها بما تمثله من الأمل، أو ربما المستقبل، الأمل الذي يظل الإنسان يسعى له ولسان حاله يقول:”ينبغي أن يحدث شيء بهذا العالم ليكون أكثر عدلا مما هو عليه”. ربما بدت المرأة (ميهارو) في المشاهد رمزا للتواصل، للغرائز والجنس، حيث يحلم (جورينج) بأنه يمارس معها الحب، كما أنها الشخصية الوحيدة التي تبحث عن الطفلة التي هي شفرة الأمل والحياة والمستقبل دون أن يُنطقها كاتب السيناريو كلمة واحدة.

وتتحول الإضاءة للحمراء وتصاحبها البرودة الشديدة، أو الحرارة القصوى حالة لو أن أحد النزلاء أخذ شيئا من فوق المائدة واستبقاه معه بعد أن تمر المائدة من طابقه. اللعب بألوان الإضاءة يفصح عن حياة مقيدة بنظام أمني يوقع بالعقاب المباشر.   

كما جاء أداء الممثلين على درجة عالية من التميز لنقل المعاناة والصراع من أجل البقاء، كلٌ وفق طبيعته، وتحولات رؤيته للحياة، نقل (جورينج) من خلال تعبيرات وجهه، وعمق حواره، وأبعاد تفكيره مراحل وتحولات إنسان طبيعي مسالم، سهل الانقياد، يواجه العيش بالوجود باختياره، يُصدم حين تتعرى الحقائق أمامه وتتضح بشاعتها، وأنانية البشر وانتهازيتهم، فترتسم في البداية تعبيرات الدهشة والتطلع والاستنكار على ملامحه وعينيه، يتحول من الشغف بمعرفة هذا الوجود إلى الاشمئزاز والاستنكار والرفض، ثم تبدأ مرحلة ضرورة التعايش، ويتلوها محاولة البحث عن حلول، ثم اليأس من الحلول السلمية والإقناع.

 تتماهى ملامحه مع تحولات فكره واقتناعاته بالموازاة مع تنقله بين الطوابق، حيث بدأها المخرج بعدسة كلوز، شديدة الاقتراب من عينيه أول وعيه بوجوده في الحفرة، كأنها لحظة الولادة، ثم دهشته ورفضه لطريقة تنظيم الطعام من الإدارة العليا في الحفرة، ونفوره من النظام الذي لا يحقق العدل بل يصل لترك الأشخاص يأكلون بعضهم البعض، يفكر ليجد طريقة ينقذ فيها نفسه والآخرين. في المقابل يتجسد نهم (تريماجاسي) للطعام والشراب رغم أنه بقايا المقيمين في الأدوار العليا، يصل (جورينج) إلى التعايش مع الوضع الاضطراري بعد مكابدته للجوع، ويصرخ بأوجاعه صرخة الوجود ذاته رفضا وغضبا حين يصحو ويجد (تريماجاسي) قد قيده ليأكله، إلى أن ينقلب الوضع ويأكل (جورينج) (تريماجاسي) بعد أن قتله، فتبدأ مرحلة السخرية السوداء من كل القيم والتعاليم، ويعيد تأويل النصوص المقدسة هو وأطيافه الداخلية؛ ليستسيغ ما فعله ليتمكن من البقاء، تتبدل رؤية الأشياء والمعاني خارج الرؤيا المثالية، يتيقن مع التجارب من أن القوة فقط هي ما يمكنها التحكم وفرض تنظيم سلوك البشر.

 يخطط للأمر ويدعو (بهارات) رفيقه في الطابق السادس ليتضامن معه في النزول للأسفل لتنظيم توزيع الطعام بالقوة ليأكل الجميع، فلا يضطر البعض لأكل لحم الآخر.

 اللحم البشري هنا شفرة للمادي بالفعل، أو المعنوي، لا يفكر (جورينج) في الصعود من الحفرة كما أراد (بهارات) الذي يتوهم النشوة والوحي، ربما يؤكد الفيلم أن على الإنسان خوض تجربة أو مأزق الوجود بعقله وسعيه، وليس بالصعود إلى السماء لتوهم البعض أنها من ستهب خلاصا، يشير صُناعه إلى أن الخلاص بأيدينا، في خوضنا لوجودنا وتصور حلول له.

في كل تلك المراحل والانتقال بين الأدوار تلطخ الدماء وجه (جورينج) وجسده ويعاني من جروحه لصراعاته مع قاطني الحفرة لفرض النظام، يضيق بالعنف ثم يمارسه، لكنه لا يفارق كتابه، ثم تؤرقه معرفة الرسالة، رسالة الإنسان بتلك الحفرة أو الحياة، ربما كانت الرسالة هي الأمل الذي تجسد في الطفلة التي أطعمها ما بقي معهما على المنصة من علامة، أطعمها لتصل حية إلى أعلى ثانية، ويثبت إلى من في الإدارة العليا أنهما استطاعا توزيع الطعام على الجميع بحصص محددة، ومن أجل فرض النظام والقيمة استساغا هو وبهارات كثير من العنف. من هي تلك الإدارة، ولماذا تفعل في البشر هذا؟ سؤال طالما طرحه من يعتنقون الأديان الشمولية.

وتجسدت ملامح (تريماجاسي) ثعبانية ذات نوازع ساخرة، صادم، ففي الحوار الذي يدور بينه وبين (جورينج) حين قيده قبل أن يصحو حين علم بالدور المنخفض الذي انتقلوا إليه 171 ليقطّع ويأكل منه حين يجوع، في هذا الحوار يتكشف لنا كيف أن بعض البشر تضمر منذ البداية الشر بالآخرين، حتى قبل أن تتأزم الحياة ويطل الموت، يُلح عليه سؤال: على من يقع الخطأ!؟ هل على الإدارة التي فرضت هذا النظام الطبقي فوضعتهم أمام شرور ذواتهم، أم على أطماعه ودمويته حتى قبل أن يعاني من الجوع رغم أن بإمكان الفرد أن يعيش شهر دون طعام.

حملت ملامح (إيموجري) يأسا مقيما بالرغم من محاربتها له لتحقيق رسالتها في التضامن العفوي بالإقناع وتكرار دعوى توزيع الطعام بالتساوي في المركز بكل طوابقه، أصبحت هذه الملامح أكثر حزنا لشعورها بالنهاية لظروف مرضها، ثم شنقها لنفسها، ملامح حادة من نوع آخر على وجهها حين كانت مع (تريماجاسي) يقنعان جورنج بالأكل من جسدها ليظل على قيد الحياة في الطابق “202”. واتسمت ملامح “بهارات” بالدهشة  واندماجه في حالة ادعاء النشوة، وعلو المشاعر وميلها للمبالغات وتحوير الصياغات لإحداث دغدغة عاطفية تؤثر على من هم حوله، ربما اختيار المخرج لــ(بهارات) بلون أسود هو نوع من الإيحاء بأن تلك المنطقة ــ منطقة الأديان ــ هي قوة ذات تأثير كبير، لكنها حتى الآن ممثلة في المجتمعات والفئات التي تؤثر دغدغة العواطف على إعمال العقل والمنطق، ولذا اختيار (بهارات) من المجتمعات الأكثر تخلفا، وجاءت ملامح (ميهارو) قلقة عنيفة لتعرضها للتحرش من قاطني الأدوار رغم جروحها وتلوثها بالدماء، المرأة التي في رحلة بحث مستمرة.

متلقي الفيلم وخاصة في منطقة الشرق الأوسط سينتابه اليأس من بلداننا، سيضعه الفيلم أمام ما نعانيه كل لحظة، ففئة قليلة تنعم بكل شيء، والسواد الأعظم لا يملك سوى الفتات، إن قضية ظلم توزيع الثروات، وتفاوت الفجوة واتساعها بين الطبقات من القضايا التي تنذر بخطر دائم في مجتمعاتنا وتتطلب إعادة نظر من الجميع.