انفجر في السنوات الماضية خلاف كبير بين أكبر مؤسستين دينيتين في مصر، مشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف، بسبب سعي كل منهما للتأكيد على أنها الأولى برعاية وتنظيم الشؤون الدينية، والأجدر باعتلاء هرم المؤسسات الدينية، وإقصاء الأخرى، دون النظر إلى الهدف الأسمى حاليًا من وجودهما في مواجهة الأفكار المتشددة التي تتخذ من الفتاوى الدينية مصدرا لنشر الإرهاب.

في يوليو عام 2013 تولى محمد مختار جمعة، عميد كلية الدراسات الإسلامية، وعضو المكتب الفني لشيخ الأزهر منصب وزير الأوقاف في حكومة حازم الببلاوي، التي تشكلت بعد ثورة 30 يونيو، بناء على ترشيح من شيخ الأزهر نفسه الدكتور أحمد الطيب، إذ من المعروف أن شيخ الأزهر، الذي يعادل منصبه بروتوكولياً “رئيس وزراء”، هو من يرشح وزير الأوقاف، وفق الأعراف التاريخية.

“جمعة” لم ينكر دور “الطيب” في وصوله إلى مقعده الحالي، بل اعترف بفضله مرارًا وتكرارًا، لكنه سرعان ما انقلب عليه، طامحًا في الجلوس على مقعده يومًا ما، الأمر الذي دفع شيخ الأزهر إلى قطع الطريق عليه، مستبعدًا إياه في مطلع عام 2015، من عضوية مكتبه الفني، ليبقى بعيدًا عن المشيخة، سوى في جلسات هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية.

 

توحيد الخطبة

وبعد وصول “جمعة ” إلى منصبه، سعى إلى توحيد مضمون خطبة الجمعة، وأعلن القطاع الديني بوزارة الأوقاف، في بداية عام 2014، توحيد الخطبة في جميع مساجد مصر “أوقاف – جمعيات – أهالي”، مشيرًا إلى أن الخطبة الموحدة ستُلزم الأئمة بعدة موضوعات معينة، يحددها مركز بحوث الدعوة بالوزارة، ضمانا لعدم الخروج عليها من قبل أي إمام، وبث أي أفكار متطرفة على المصلين.

وتصاعدت أحلام الوزير بإعلانه تطبيق الخطبة المكتوبة، ثم العودة مجددًا إلى الخطبة الموحدة، ومنها إلى المكتوبة مرة أخرى، وسط رفض تام من الأزهر ممثلا في هيئة كبار العلماء، وإعلانه عدم التزام مساجده بقرار الوزارة، واستمرت الأزمة لعامين، وسط حالة من الشد والجذب.

 

اقرأ أيضا:

“ابن تيمية”.. مُفتَرى عليه أم مُفترِي علينا؟ (قراءة في فتاوى الإرهاب) (2-2)

 

وانتصر الأزهر في الأزمة في النهاية، عقب لقاء جمع الرئيس عبد الفتاح السيسي وشيخ الأزهر، في عام 2016 لتعلن وزارة الأوقاف أن الخطبة استرشاديه فقط، وليست ملزمة، وقضى الرئيس نهائيا على الخطبة المكتوبة خلال احتفال المولد النبوي في ديسمبر من العام ذاته، بقوله إن الخطبة المكتوبة اختزال للدين، مشيرًا إلى أن الوزير تسرع في قراره.

وذكر الرئيس أنه يجب العمل على إعداد خطبة تتصدى للتطرف والأفكار الشاذة التي يعاني منها المجتمع، مطالبا بتشكيل لجنة تضم علماء نفس واجتماع ودين لإعداد خطب الجمعة خلال الـ 5 سنوات المقبلة، ليقرر “جمعة” على الفور الاستجابة لتعليمات الرئيس السيسي بتشكيل لجنة تضم علماء دين واجتماع وعلم نفس؛ لإعداد خطبة الجمعة خلال الفترة المقبلة.

 

تدريب الأئمة

الصراع  بين الأزهر والأوقاف امتدت إلى “تدريب الأئمة والوعاظ”، فرغم عقد اجتماعات تحضيرية على مدار أعوام للاتفاق على آلية عمل تجمع المؤسستين تحت أكاديمية واحدة، لتدريب الأئمة وتأهيلهم طبقا لتوجيهات الرئيس، ليخرج كل طرف منهما ليعلن عن تدشين أكاديمية منفصلة، بسبب الخلاف بينهما حول آليات الرقابة والإشراف على مهام عمل الأكاديمية.

مشيخة الأزهر أعلنت في عام 2016 نيتها إنشاء “أكاديمية الأزهر لتدريب الأئمة والوعاظ والمفتين” لتأهليهم التأهيل الدعوي والعلمي المناسب والمواكب لتطورات العصر باعتبارهم يمثلون المنهج الوسطى الأزهري، ليبدأ العمل بها فعليا في يناير 2019.

الأوقاف لم ترضى أن تكتفي بأكاديمية الأزهر، فافتتحت هي الأخرى، مطلع عام 2019، أكاديمية الأوقاف لتدريب الأئمة والدعاة على “الفكر المعتدل”، إضافة إلى العمل على “تقنين صناعة الفتوى ومواجهة فكر الجماعات غير الوطنية”، والتي تقع في مدينة السادس من أكتوبر على مساحة 11 ألف متر وتضم مبان وأجنحة وتقدم خدمة الإقامة الكاملة.

تجديد الخطاب الديني

وفي ظل الخلافات المستمرة بين المؤسستين، طالب الرئيس بضرورة تجديد الخطاب الديني، تجددت الأزمة بين الأزهر والأوقاف، فضلا عن دار الإفتاء –من بعيد”، حيث رأى كل منهما أنه المنوط بتجديد الخطاب الديني، وبدأت كل مؤسسة في تنظيم مؤتمرات في هذا الشأن، بعيدا عن الأخرى، في غياب رموز المؤسستين الأخيرتين، بدلا من توحيد الجهود تجاه الهدف الحقيقي.

واستمر الصراع “الخفي – العلني”، حتى أن إحداها كانت تعقد مؤتمراً وتتبعها الأخرى بمؤتمر، دون تنسيق، فضلا عن إطلاق قوافل دعوية منفصلة للمساهمة في تجديد الخطاب، للتأكيد على أنها المسؤولة عن زعامة الإرشاد الديني، وسط محاولات حثيثة من مؤسسات الدولة لإنهاء حالة النزاع، ولكن دون جدوى حتى الآن، خاصة في ظل موقف الأزهر غير المتماشي مع سياسة الدولة.

 

اقرأ أيضا:

انهيار أمريكا وقيادة المسلمين للعالم.. دعوة لاستغلال احتجاجات “فلويد”

 

الأزهر لاقى هجوما كبيرا من الجميع، خلال السنوات الماضية، فيما يتعلق بتجديد الخطاب الديني، دفع البعض لتوقع إنه قد يتم الإطاحة به، وسط دعم كبير لوزير الأوقاف في ظل تماهي سياسته ضد تيارات الإسلام السياسي مع موقف الدولة، لكن الدعم الإماراتي الذي يلاقاه الطيب جعل العاصفة تهدأ من حوله، فضلا عن محاولته إظهار أن الخطأ ليس في التراث الإسلامي، ولكن في طرق عرضه من قبل “الإرهابيين وتيارات الحداثة” على حد سواء هو السر في ذلك.

الأمر بدأ أن فيه انتصار جديد للأزهر على الجميع، خاصة مع عرض مسلسل الاختيار في رمضان الماضي، حيث لأول مرة بدأت الدولة في اتخاذ موقف الدفاع عن فتاوى ابن تيمية، عبر عرض حلقة ظهر فيه الشيخ رمضان عبد المعز، وسط رجال القوات المسلحة، يحدثهم عن وسطية الإسلام، ويبرئ “ابن تيمية” من استخدام التكفيرين لفتاويه.

 

حق الفتوى

وأخذت الخلافات منحى آخر، مع بدء مناقشات مشروع قانون بشأن تنظيم الفتوى العامة، فارتأى الأزهر أنه صاحب الحق في إصدار الفتوى، وبرر وزير الأوقاف أحقية الوزارة بممارسة حق الإفتاء، بالتأكيد للحضور كافة بأن الأوقاف تمتلك إدارة للفتوى منذ سنوات، غير أنها معنية بممارسة العمل الدعوى على المنابر، وأن الفتوى جزء أصيل من مهام الدعوة.

الأمين العام لمجمع البحوث، الدكتور محيي الدين عفيفي، ممثل الأزهر في اجتماع اللجنة الدينية بمجلس النواب، هاجم وزارة الأوقاف، مطالبا بأن يقتصر حق الإفتاء على دار الإفتاء والأزهر الشريف بهيئاته، سواء هيئة كبار العلماء أو مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف.

وظل القانون الجديد، حبيس الأدراج حتى الآن، رغم أنه يحظر أنه يحظر بأي صورة التصدي للفتوى العامة، إلا إذا كانت صادرة من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف أو دار الإفتاء المصرية أو مجمع البحوث الإسلامية أو الإدارة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف، ومن هو مرخص له بذلك من الجهات المذكورة، ووفقًا للإجراءات التي تحددها اللائحة التنفيذية لهذا القانون.

خلافات مستمرة

وتجددت المعارك بين الجانبين، مؤخرًا، بعد إصدار وزير الأوقاف قرارا بتعيين مساعدين له من الأزهر، هما حسن خليل، الباحث الشرعى بالأزهر، والدكتور الفخرانى، زميل الوزير بكلية الدراسات الإسلامية، دون إذن “الطيب” الذي يترأس المساعدين الجدد، والذين حصلوا على قرار رفض الإمام تنفيذه منذ ما يقارب الشهر حتى الآن، ردًا على رفض الوزير ندب الشيخ أحمد تركي ليتصدر المشيخة في الإعلام والدعوة.