تأخرت قدراتهم.. ولكن سبقتهم خطواتهم للأحلام.. فتحت شعار “كروموسوم” واحد لا يبعدني عنك، يعيش أطفال متلازمة داون، يبحثون عن الإندماج في المجتمع، ويحلمون بتحدي الصعاب ويهربون من الألقاب القاسية، بل يسعون لمحوها من مناهج التدريس ومن الحياة.

حالة من الفرح ملأت قلب “سوزان طلعت”، بعد أن استقبلت مولودتها الأولى سما رامي، فمن المعروف في مصر أن المولود الأول والذي يطلق  عليه “البكري”، يحظى دوما بقدر كبير من الحب والاهتمام، إلا أن فرحة سوزان لم تدم طويلا، حيث تحولت مشاعر الفرحة إلى حزن وخوف كبير بعد علمها بإصابة ابنتها بمتلازمة داون، فبدأت تراودها مخاوف عدة بسبب مستقبل ابنتها الذي لا تعلم عنه شيئًا، خاصة بسبب التنمر الذي تتعرض له مثيلات سما في المجتمع.

عرفت منظمة الصحة العالمية، متلازمة داون، بأنها حالة جينية ناجمة عن زيادة إضافية في مادة الكروموسوم الصبغي، لافتة إلى أنه يولد كل عام ما يقرب من 3000 إلى 5000 طفل يعاني من هذا الاضطراب الجيني، وقدرت المنظمة عدد المصابين به في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 250 ألف طفل.

 

سما رامي و”البله المنغولي”

بدأت “سوزان”، رحلة اكتشاف متلازمة داون لدى ابنتها والتعرف عليها من مركز البحوث بمدينة القاهرة،لافتة إلى أنها توجهت بطفلتها للمركز، وهناك كانت بداية رحلة التفاؤل بعد مشاعر الحزن والخوف، فأخبرتها الدكتورة نجوى عبد الحميد، أستاذ الوراثة البشرية، أن أطفال متلازمة داون كالصفحة البيضاء يمكن للأبوين الكتابة فيها، فهم كقطعة العجين سهلة التشكيل، فيمكنهم غرس ما يريدون من قيم بداخلهم، وهنا بدأ الأمل يراود الأم، التي قررت خوض تجربة تأهيل ابنتها للاندماج في المجتمع.

وأضافت “سوزان”، أن أطفال المتلازمة يعانون من التأخر في الاستيعاب، فهنا قررت بدء مرحلة التعلم واكتشاف الأشياء مع ابنتها مبكرا حتى تستطيع اللحاق بمن حولها، فكانت تضع لها صورا للأشكال والحيوانات على الحائط كوسيلة تعليمية، فعلمتها الحروف وأسماء الأشياء والحيوانات.

وذكرت منظمة الصحة العالمية، أنه يمكن تحسين نوعية حياة المصابين الذين يعانون من متلازمة داون من خلال تلبية احتياجاتهم من توفير الرعاية الصحية، والتي تشمل إجراء الفحوص الطبية المنتظمة لمراقبة النمو العقلي والبدني، وتوفير التدخل في الوقت المناسب، سواء كان ذلك في مجال العلاج الطبيعي أو تقديم المشورة أو التعليم الخاص.

 

اقرأ أيضا:

“كورونا” والأطفال.. منع التطعيم يتسبب في عشرات الأمراض

 

صرت الأم، على أن تُلحق ابنتها بمدرسة عادية وليست مدرسة خاصة بالتربية الفكرية أو أصحاب الإعاقات، حيث بدأت تسلك طريقها في المدرسة بفصول “الدمج”، وهو نظام مخصص لأطفال متلازمة داون في مصر يتم من خلاله وضع امتحان مختلف للطلاب تعتمد فيه الإجابات على الترقيم والعلامات.

تفوقت “سما”، في دراستها، إلا أن الأم واجهت المخاوف من جديد، بسبب تنمر بعض أهالي التلاميذ بطلفتها، حيث رفض بعضهم أن يجالس أطفالهم  “سما”، وآخرون اعتبروها مصدرا للقلق على أطفالهم، بعكس الصغار فكانوا جميعا يحبونها ويسعون للجلوس بجانبها والتقرب منها، بل ومساعدتها في بعض الأحيان في دخول دورة المياة أو قضاء حاجاتها.

“كل مختلف يتعرض للتنمر”.. هكذا زرعت “سوزان” قاعدة في ذهن ابنتها لتتقبل اختلافها، بل وتسعي للتميز، وبالفعل نجحت الأم في كسب ثقة الابنة حتى وصلت للثانوية العامة، ووجدت بمنهج الأحياء للصف الأول الثانوي مصطلح “البله المنغولي” يصفها هى والمصابون بالمتلازمة، فكان المصطلح قاسيا وموجوعا لها، لكن الأم نجحت في بناء “سما” وتأهيليها لمواجهة أوجاعها، فدشنت الإبنة حملة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تطالب بحذف المصطلح من المنهج الدراسي، وتغيره لأصحاب متلازمة داون.

حلمت الطفلة وحققت حلمها، فبعثت رسالة لوزير التعليم المصري، الذي قام مكتبه بالتواصل معها وتشكيل لجنة من أطباء واستشاريين نفسيين لبحث إمكانية حذف اللقب من المنهج، وتحقق حلم “سما” وبالفعل تم حذف المصطلح واستبداله بـ”متلازمة داون”.

 

نجحت “سما”، في الثانوية العامة بمجموع 90%، والتحقت بكلية الآداب قسم الاجتماع، ودشنت صفحة على موقع التواصل الاجتماعي تضم الآلاف من أصدقائها حول العالم، الذين قاموا بالتقديم لها لمسابقة “فاشون ستايل” الدولية لاختيار ملكة جمال على مستوى 26 دولة، فحصدت اللقب.

بعد ولادة “سما”، قررت الأم تجربة الحمل والولادة مرة ثانية برغم المخاوف، وبرغم التحذيرات من ولادة طفل جديد بنفس المتلازمة، ولكنها كانت تريد أن تتعلم ابنتها من طفل قريب من سنها يلازمها طيلة الوقت ويكسبها المهارات، وبالفعل حملت في نجلها الثاني محمد، والذي تعلمت منه “سما” الكثير لوجود فارق سني بسيط بينهما.

 

اقرأ أيضا:

أطفالنا في مرمى الخطر ..50 منظمة عالمية  تنتج كتابا قصصيا يحارب “كوفيد”

 

تحلم “سما”، بحذف مصطلح “المعاقين” من المناهج الدراسية كما نجحت في حذف مصطلح “العته المنغولي” من قبل، فهى ترى أنهم أصحاب قدرات خاصة ليسوا معاقين، وبالفعل تقدمت هي ووالدتها بطلب لمجلس النواب لمناقشة قانون الإعاقة وتغيير المصطح، كما تعمل الأم كداعم لمثيلاتها، تنقل لهن تجربتها وتدعمهن في اكتشاف مهارات الأبناء.

يمكن للمصابين بمتلازمة داون تحقيق نوعية حياة مثلى من خلال الرعاية الأبوية والدعم والتوجيه الطبي ونظم الدعم القائمة في المجتمع، مثل توفير المدارس الخاصة، وتساعد جميع هذه الترتيبات على إشراك المصابين بمتلازمة داون في المجتمع لتمكينهم ولتحقيق ذاتهم، بحسب منظمة الصحة العالمية.

النمر الأبيض

“اتقدم اتقدم.. وكفاية خلاص تتندم”.. كلمات أغنية للشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، في الفيلم المصري “النمر الأسود”، بطولة النجم المصري الراحل أحمد زكي، تجسد قصة إصراره على النجاح والتقدم، ليأخذ الطفل المصري محمد أحمد لقب “النمر الأبيض”، لقدرته على التحدي، وصعود جبل موسى، ليكون أول طفل مصري مصاب بمتلازمة داون يصعد الجبل.

نهى حسن، تطوعت منذ صغرها في جمعيات لرعاية أطفال متلازمة داون، وعملت في أحد الصحف المصرية متخصصة في شؤون أصحاب الإعاقة وذوي الهمم، حتى تزوجت وحملت فلم تكن تتخيل يوما أن نجلها سيكون واحدا ممن كانت تعمل على دعمهم، فتقبلت الأمر بصدر رحب ورضاء بالأمر الواقع.

بدأت مهارات نجلها “محمد”، تظهر في الصغر، فكان محبا لتسلق الأشياء في المنزل، حتى وصل إلى الثالثة عشر من عمره، وأخبر والدته حلمه في تسلق جبل موسى، لم تصدق الأم في بداية الأمر ولكن طفلها أصر، فكان يريد السير على خطى المغامر المصري مازن حمزة من أصحاب القدرات الخاصة، والذي استطاع تسلق العديد من الجبال.

 

قال مدحت حامد، مدرب علم النفس الرياضي بالاتحاد المصري والدولي لكمال الأجسام، والمشرف على تدريب “محمد”، إنه تم إجراء عدة اختبارات للطفل بينت موهبته وقدرته أيضا على التسلق، بالإضافة لإجراء كشف طبي كامل لبيان مدى قدرته على تسلق الجبل، مشيرا إلى أن قمة الجبل عالية ولكن حلم “محمد” بتسلقها أعلى وإمكانياته تؤهله لذلك، وتم إرسال خطابات لمحافظ مدينة جنوب سيناء المصرية التي تضم الجبل، فرحب بالأمر ووعد بتنفيذه.

أضاف “حامد” أنه لقب “محمد” بـ”النمر الأبيض” لأنه اجتاز اختبار الملاكمة بنجاح فشبهه بالنجم المصري أحمد زكي في الفيلم المصري الشهير “النمر الأسود”، فأصبح لقبا معروفا ينادى به “محمد”، وينتظره أصدقاءه ومحبيه لتسلق الجبل الذي يبلغ طوله 750 درجة، ويستغرق تسلقه ما يقرب من 12 ساعة.

تلقت الأم العديد من العروض برعاية ودعم نجلها ببلاد عربية وآخرى أجنبية، لكنها رفضت وقررت أن تكون انطلاقته الأولى من داخل مصر برعاية مصرية خالصة، مشيرة إلى أنها كانت تنتظر نهاية أكتوبر الماضي لتنفيذ المغامرة ولكن عند اقتراب الوقت، تملكتها شاعر الخوف والقلق على نجلها، لكن رغبته أكبر من مشاعرها وحلمه  بطول الجبل.

 

تسلق جبل موسى

نجح الطفل المصري في صعود الجيل، بصحبة والدته ومدربه الخاص، لوقت استغرق 7 ساعات، وهو وقت أقل من المتوقع، فاستغرق 3 ساعات في الصعود، ثم 4 ساعات آخرى في الهبوط، تسلق خلالها 750 درجة، ورفع علم مصر من أعلى قمة الجبل والذي يبلغ ارتفاعه 2285 مترا فوق سطح البحر، ليتوج حلمه، ويزيج الخوف عن قلب والدته، التي شاركته الحلم لحظة بلحطة حتى تحقيقه.

حددت منظمة الصحة العالمية يوم 21 من مارس اليوم العالمي للمتلازمة، واعتبرت العديد من المنظمات المعنية بالصحة شهر أكتوبر شهر للتوعية بالمتلازمة، أما الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أعلن عام 2018 عاما لذوي القدرات الخاصة، كما كان لأصحاب المتلازمة وجودا كبيرا في العديد من الفعاليات التي حضرها الرئيس المصري، فيحرص الرئيس المصري على مشاركتهم بمؤتمرات الشباب، كما يهتمون هم بالتواجد بجواره وإعلان حبهم له.

دمج أصحاب متلازمة داون

شهدت محافظة الإسكندرية، افتتاح أول “كافيه” لدمج أصحاب متلازمة داون، فقررت داليا عبد الله، بصحبة صديقتها أمنية إيمان البحر، تخصيص مكان لجمع أصحاب المتلازمة بباقي أفراد المجتمع، وتشغيل عدد منهم بالـ”كافيه” أيضا، وتخصيص جزء منه للألعاب ومشاهدة التليفزيون بشكل مناسب مع ذويهم، وتزويد المكان بالألعاب الفكرية ووسائل الترفيه.

قالت “داليا”، إن أصحاب متلازمة داون يسمون أصحاب متلازمة الحب، فهم قادرون على العمل وحمل الأواني والتحكم بها والسيطرة عليها، وتنفيذ التعليمات، كما أنهم يلقون الترحاب ومشاعر الحب من المترددين على المكان فيشعرون أنهم أشخاص طبيعيون كأقرانهم.