بعد سنوات من الملاحقة والتضييق والسجن في حلب، استقر الحال بالمفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي في القاهرة التي صارت رغم وقوعها تحت الاحتلال الإنجليزي متنفسًا رحبًا للمفكرين والمصلحين والعلماء نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

sss

عندما سئل الكواكبي “لماذا اخترت المحروسة لتنشر فيها كتاباتك؟”، فأجاب: بأن مصر دار العلم والحرية.. وأن الإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد، بل أن بلاد الحرية تُولد في الذهن من الأفكار والأراء ما لا يتولد في غيرها.

هكذا استطاع صاحب الأفكار التي حاصرت السلطان العثماني وواليه في حلب للدرجة التي دفعتهم لمحاولة اغتياله، أن ينشر كتابه المرجع ” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، فلولا مناخ الحرية التي تمتعت به مصر في تلك الفترة، ما خرجت للنور مقالات وأفكار الكواكبي وغيره من زعماء الإصلاح على مختلف خلفياتهم وأيديلوجياتهم.

في نهايات عام 1899، طالع الرأى العام المصري على صفحات جريدة “المؤيد” لصاحبها الشيخ علي يوسف سلسلة من المقالات الجريئة، تتحدث عن طبيعة الاستبداد وأثره في انحطاط الأمم، حيث تتحول الشعوب إلى قطيع يسوسها مستبد غشوم.

عن مصر التي كانت

يروي جمال بدوي في كتابه “مصر من نافذة التاريخ” قصة انتقال الكواكبي من الشام إلى مصر ونشره مقالاته في “المؤيد” فيقول: كانت الدول العربية آنذاك تخضع لسيادة الدولة العلية التي يتربع على عرشها الباب العالي المستبد الذي تنكر للدستور ورجاله وزج بهم في السجون، وبث عيونه في أنحاء الولايات والممالك يطاردون الأحرار ويخمدون أنفاسهم بالسم تارة والخنق تارة.. وكان نصيب الشام من أذى السلطان كبيراً.. أما مصر فكانت قد تخلصت من قيود الرق العثماني، وسرى فيها لهيب الوعي لوطني، وترددت فيها صيحات الحرية والعدالة منذ وقت مبكر وظهرت فيها رموز الاستقلال متمثلة في دستور عصري وصحافة حرة وتمثيل برلماني، وأصبحت مصر قبلة الأحرار والمفكرين الشوام الذين ضاقت عنهم أوطانهم، فشدوا الرحال إلى أرض الكنانة حيث الحرية والسعة والأمن والرخاء”.

كان الكواكبي من طليعة المفكرين الأحرار الذين ظهروا بالشام، وأيقظوا قومهم من سباتهم، كان لساناً للمظلومين وسوط عذاب على الظالمين.. أصدر عديد من الصحف في مسقط رأسه حلب.. وكان جواسيس السلطان له بالمرصاد.. فكانت تُصادر صحفه وتُحرق، وتلفق له القضايا ليقضي معظم أيامه في السجون، ووصل الأمر إلى الحكم عليه بالإعدام، ثم صدر قرر بالعفو عنه، ولما عاد إلى سيرته حاول زبانية السلطان اغتياله.. ولما بلغ به اليأس مبلغه راودته نفسه بالرحيل عن وطنه، فتوجه إلى مصر.

بعد أيام من وصوله إلى القاهرة بدأت مقالات الكواكبي على صفحات “المؤيد” تتردد أصدائها في أنحاء المحروسة، فاهتز منها عرش السطان فزعاً، ورغم القيود المحكمة التي فرضتها السلطات العثمانية، فقد وجدت كتابات الكواكبي طريقها إلى الشعوب العربية في الشام والعراق واليمن والبحرين وشمال إفريقيا، وتحولت كلماته عن الاستبداد إلى مشاعل تهدي المقهورين إلى طريق الخلاص.

جمع الكواكبي مقالاته في كتابه الأشهر “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، ونشر في القاهرة واحتفت به محافلها “سرت أفكاره في الجماهير العطشى إلى الحرية مسرى الماء في الأرض القاحلة”، مع ذلك لم يتعرض صاحب تلك الأفكار للملاحقة أو السجن أو النفي.

في مقالاته ركز الكواكبي على إعلاء قيم الدولة المدنية معتبرا أن “الدستورية والشورى” هما الركيزتان اللتان سيعبر بهما العرب دائرة الانحطاط والتردي، معترفاً بأن فكره قد استقر “بعد بحث ثلاثين عاماً على أن أصل الانحطاط هو الاستبداد السياسي، ودواؤه هو الشورية الدستورية”.

أثارت كتابات الكواكبي العواصم العربية ضد ظلم السلطان العثماني واستبداده، فأمر عملائه بالتخلص منه، وبالفعل دس عملاء السلطان السم للكواكبي في مقهى “يلدز”، فأدركته المنية في 14 يونيو من عام 1902، فأصاب الحزن كل الأحرار والمناضلين في العالم العربي، وشيع جثمانه في جنازة رسمية شعبية حضرها مندوبا عن الخديوي عباس حلمي الثاني، ودفن بمقابر باب الوزير.

تنفس السلطان العثماني الصعداء، وبعث عيونه تستوثق من الخبر وتجمع ما تبقى بمكتب الكواكبي من أوراق، ظن السلطان أنه إستراح من أفكار الكواكبي، لكن الأقدار خيبت ظنونه، فما هى إلا بضع سنين حتى أنهار عرشه وأطاحت به ثورة جارفة ألقت به في السجون، فيما ظلت أفكار الكواكبي التي جمعها في كتابه عن الاستبداد هي المرجع لكل حالم يسعى إلى تأسيس دولة الحرية والعدل والمساوة.

القاهرة بعد 120 عامًا

“أنا فاقدة الأمل فى التغيير، ومفيش داعى للدخول فى مقاومة مفيش جدوى منها، وتكلفتها غالية.. أما أنا فأى مقاومة بعملها مش من منطلق الأمل فى التغيير، ولكن هى مفروضة عليا لمساندة أخويا اللى بيتعرض لظلم، وأنا من وقت القبض عليا أول مرة كنت أحب أسافر، وأرمى كل دا ورا ضهرى، لكن كل حاجة يمكن الإستغناء عنها إلا العيلة”.

هكذا عبرت الناشطة السياسية سناء سيف خلال جلسة التحقيق معها في النيابة العامة قبل أيام، عن حالة الإحباط واليأس التي لم تصبها فقط بل ضربت جيلا بالكامل، إثر ضياع حلمه بتأسيس دولة الحرية والعدالة والمساواة.

سناء التي ألقي القبض عليها بعد محاولات أسرتها التواصل مع شقيقها علاء المحبوس في سجن طره حتى ولو بخطاب، صدر قرار بحبسها 15 يوم بعد أن وجهت لها النيابة اتهامات بـ”الترويج لارتكاب جريمة إرهابية، وإذاعتها عمدًا أخبارًا وبيانات وإشاعات كاذبة من شأنها تكدير الأمن والسلم العام حول تردي الأوضاع الصحية بالبلاد وتفشي فيروس كورونا في السجون”.

جيل سناء (27 عاما) سعى قبل 9 سنوات إلى تغيير مخلفات دولة الظلم والجهل واحتكار السلطة التي استمرت لعقود، ثاروا على التهميش والإقصاء وتزوير الانتخابات، وقرروا المشاركة في بناء نظام جديد قائم على سيادة القانون وتداول السلطة وحرية الرأي والتعبير، فإذ بكل هذا يتحول إلى كابوس يراودهم في يقظتهم كما في أحلامهم. 

أرادها الشباب معركة بناء وتنافس بين الأفكار والبرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى يصلحوا خيبات الماضي، ألا أن حراس الماضي الذين قفزوا على الحاضر وقطعوا الطريق إلى المستقبل حولوها إلى معركة وجود “إما نحن أو هم”.

نجح هؤلاء في دفع سناء وجيلها إلى اليأس والإحباط  بعد إنهاك استمر نحو عقد من الزمان، رفع أبناء المستقبل راية الاستسلام وأعلنوا عدم قدرتهم على الاستمرار في المقاومة، تاركين لحراس الماضي الجمل بما حمل، إلى أن يقضي الله أمرًا.

في ذكرى إحباط الأمل

بدا مما يجرى خلال السنوات الماضية أن السلطة لن تترك أي هامش للمشاركة السياسية أو أي مساحة للتعبير عن رأي يخالفها، فقبل نحو عام تقريبا، وبعد أسابيع من إعلان نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية، قرر عدد من شباب الأحزاب تأسيس تحالف واسع يضم أطراف المعارضة المدنية لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، بهدف إعادة الروح للحياة السياسية في بلد قرر حكامه إماتة كل ما هو سياسي.

بدأ هؤلاء الشباب مشاورات مع قادة أحزاب وشخصيات مستقلة للاتفاق على تفاصيل “تحالف الأمل”، حتى “تجد طاقة الاحتجاج متنفسا يجذبها إلى مسارات سلمية ديمقراطية تفتح أبواب الأمل في ظل غياب بدائل ديمقراطية”.

وقبل أيام من الإعلان عن التحالف الجديد، ألقي القبض على شباب الأحزاب الذين شاركوا في الاجتماعات التحضيرية، فتم وأد الأمل وهو لا يزال في المهد، ودخل حسام مؤنس وهشام فؤاد وزياد العليمي إلى السجن ملاحقين بتهم “نشر وإشاعة أخبار كاذبة وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ومشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها”.

رسالة حبس شباب الأحزاب المدنية على خلفية تدشين تحالف لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة أربكت قيادات تلك الأحزاب، وتحولت المناقشات من تجهيز برنامج موحد وتأليف قائمة موحدة، إلى كيفية تفادي ضربات جديدة، للدرجة التي طرحت فيها بعض الأحزاب الإعلان عن تجميد نشاطها ورفع الراية البيضاء، فيما قررت أحزاب أخرى أن تقبل بما عرض عليها من المشاركة في قائمة انتخابية تحت مظلة حزب “مستقبل وطن” صاحبة الأغلبية البرلمانية.

لم تتعلم السلطة شيء من دروس الماضي ولا الحاضر، أغلقت جميع منافذ التعبير السلمي عن الرأي، ووأدت أي محاولة لخلق بدائل عبر صناديق الاقتراع ودفنت “الأمل” في أقبية السجون، وغرست الخوف ونشرت الإحباط واليأس في نفوس الشباب الذي قد يتجه بعضه للبحث عن طرق أخرى للتغيير بعد أن سدت أمامه جميع المنافذ.

لن تمضي سلطة إلى المستقبل بقوة القهر أو بإخضاع الناس وإجبارهم على الاستسلام، إذا كان كسر معنويات جيل “الأمل” هو رهان تلك السلطة، فهو رهان الوطن فيه كله خاسر.