في لحظة تتغير حياتهن وتنقلب رأسا على عقب، يفقن على أوجاع وتساؤلات تدور في أذهانهن يدركن أن القادم سيء، لكنهن سرعان ما يستسلمن للأمر الواقع، في محاولة للبحث عن مخرج، هن مصابات الحروق، اللاتي يقعن منذ اللحظات الأولى من استيعاب ما تعرضن له من حادثة، فريسة لأوجاعهم وآلامهم، ليست فقط أوجاع الإصابة “الحرق” المتفرقة في أجسادهن، لكنها الآلام النفسية أيضًا، نتاجًا للكثير من التساؤلات التي لا إجابة لها سوى مع الأيام.

” ماذا سأفعل بعد ذلك؟، هل سأتزوج؟، هل سيتقبلني شريك حياتي؟، هل سيشعر بالآلامي من حولي أم سأقع فريسة سهلة للتنمر وخيبة الأمل؟، كيف سيمر وقتي؟، هل سأعود لجمالي؟ أم أن حياتي توقفت عند عند هذه اللحظة؟؟؟؟”، تلك الأسئلة وغيرها الكثير، ما يدور في أذهان ضحايا الحروق، أثناء استعدادهن لمواجهة الحياة من جديد بعد الإفاقة.

“نفسي أحب واتحب وأعيش حياتي”

“نفسي أحب واتحب وأعيش حياتي”، بتلك الجملة المؤلمة، البسيطة في كلماتها لكنها تحمل الكثير، بدأت “هند البنا”، إحدى مصابات الحروق رواية قصتها الموجعة، التي بدأت مع خروجها من المستشفى التي ظلت فيها لمدة شهرين لإسعافها، بعدما تعرضت لحادثة مأساوية التهمت فيها النيران من جسدها “يدها وكتفها وجزء من وجهها”.

 

اقرأ أيضًا:

مصابات الحروق والمجتمع.. محاربة التنمر عبر الفن

 

تقول “البنا” مؤسسة مبادرة “احتواء مصابي الحروق”، والتي في العقد الثالث من عمرها: “في ليلة شتوية قمت لتحضير كوبًا من الشاي حينها كنت في السابعة عشر، وفي لحظة أمسكت النار في الشال الذي كنت أتلفح به، وحاولت أن أنجو لكن مع الأسف كانت النار أسرع من محاولتي، فقد أصابت جزءًا كبيرًا في يدي وكتفي، والجزء السفلي من وجهي”.

 

وتضيف: “أتذكر جيدًا مرار محاولات النجدة التي قامت بها أسرتي بعد الذهاب لأكثر من مستشفى، لكنهم كانوا يرفضون بسبب عدم وجود إمكانية، وخصوصًا أن حينها لا توجد مستشفيات متخصصة في مجال الحروق، حاولت أسرتي كثيرًا، حتى استقبلتني إحدى المستشفيات الجامعية التي مكثت فيها لمدة شهرين أتلقى العلاج، وأجريت عملية جراحة حينها وهي ترقيع من جلد الفخذ لإيدي الشمال لكنها مع الأسف لم تكن ناجحة بالقدر الكافي”.

لم تنسى “هند” آلام إصابتها، لكنها أيضًا لم تنسى أبدًا كلمات التنمر التي وجهت لها وعانت منها كثيرًا، تروي “هند” قائلة: “كثيرًا ما تعرضت للتنمر منذ اليوم الأول من خروجي من المستشفي، كنت أحاول أن أتلاشاها وأتناساها لكنها لازالت تترك في نفسي أثرًا موجعًا”.

تتذكر “هند” ما تعرضت له قائلة: “في أول مرة خرجت فيها من المنزل مع أمي وذهبت لشراء جوانتي قطن وفقًا لتعليمات الطبيب، وقعت فريسة لتنمر الفتاة التي كانت تعمل بائعة بالمحل، حيث أنها ادعت أنها لاتبيع هذا النوع من الجوانتيات رغم وجوده بالفاترينة نظرًا لمنظر يدي، وخرجت من المحل لأخبر والدتي بما حدث، ودخلت والدتي التي كانت تنتظرني بالخارج وسألت على نفس نوع الجوانتي لتجيبها الفتاة بأنه متوفر، لكن والدتي لم تشتره، حيث إنها أرادت فقط أن تلقن الفتاة درسًا، وتخبرها بأن ما فعلته مسيء”.

“هند” حتى الآن غير متزوجة، لكنها تحلم بحياة عائلية هادئة مع شريك حياتها الذي رسمته في خيالها، حيث تقول: “تمت خطبتي 4 مرات لكنها انتهت جميعها نهاية موجعة لسبب واحد وهو إصابتي، بين ضغوط الأهل وحديث الأقارب عن الإصابة تكون النتيجة الانفصال، وأكثر ما سمعت وآلمني في هذا الأمر، كان من إحدى السيدات التي لامت على خطيبي، قائلة: “إيه اللي يجبرك تاخد واحدة محروقة”؟.

تقول “هند” “إن الدراما والأفلام كثيرًا ما ساهمت في التنمر علينا، وخصوصا بعض الإفيهات التي تطلق على سبيل النكات من أجل الضحك، فكثيرًا ما تتردد مقولة هو فرح واحدة محروقة، وكأن التي أصيبت بحرق مادة للضحك والإسفاف، لو يعلمون ما يسببون لنا من أوجاع والآلام لما فعلوا ذلك أبدا”.

وتنهي “هند” حديثها قائلة: “سنين طويلة حاولت التعايش مع أوجاعي، حتى نضجت ومن عامين فقط قررت أن أقبل نفسي على ما هي، أعيش حياتي كما أراها وليست كما يراها أحد”.

حملة توعية

خلال الأيام القليلة الماضية، أطلق مجموعة من طلاب قسم الإعلام بكلية الآداب بجامعة بنها، حملة توعية عن التنمر ضد المصابين بالحروق، وفيلمًا وثائقيًا بمشاركة مصابات حقيقيات بالحروق، يحكين تجربتهن المؤلمة في العمل، وتم اختيار “هند” لتكون إحدى بطلات فيلم “الدرجة الثالثة” الذي يدعو لتقبل المصابات بالحروق.

رغم اختلاف التفاصيل لكن الأوجاع واحدة، ففي لحظة أيضًا تغيرت حياة “أسماء”، تحديدًا في عام 2004، فقد التهمت النيران جسدها وتركت بها آثارًا كبيرة حتى الآن تسعى في إخفائها، 16 عاما هي رحلتها مع الإصابة بالحروق التي كانت سببًا في هدم حيتها الاجتماعية.

 

زواج مدمر
تروي “أسماء” التي هي في العقد الرابع من عمرها قصتها قائلة: “أجريت ما يقرب من 11 عملية على أمل أن أعود مرة أخرى لحياتي الطبيعية، لكن مع الأسف لم يقدر لنجاح تلك التجارب”.

تستكمل روايتها قائلة: “تزوجت من شخص يكبرني بـ15 عامًا هربًا من كلام أهلي ولومهم الدائم لتهربي من الزواج والخوف منه، تزوجت زوج صالونات، وبعد الزفاف بشهر واحد بدأ يتنمر علىّ ويوجعني بكلماته القاسية، فكان دائمًا ما يعايرني بالحروق التي في جسدي ويقول انتي فاكرة نفسك ست، كانت تلك الكلمات تدمرني تنهش في روحي مثل الوحش الكاسر، دُمرت نفسيًا، حاولت لكنني لم أستطع أن أعيش معه، حتى قررت الانفصال عنه، وكنت في ذلك الوقت حاملًا في طفلي الأول”.

 

تضيف “أسماء”: “بعد أكثر من عامين حاول الرجوع لي، ووعدني ألا يعود لتنمره وحديثه الموجع، وبالفعل عدت إليه مجددًا، لكنه سرعان ما عاد لإيذائي نفسيًا، هو وعائلته وكانوا يتفننون في هذا حتى انفصلت عنه مجددًا، ومع الأسف كنت حاملًأ للمرة الثانية في ابنتي الصغرى”.

وتتابع: “عمري الآن 35 عامًا، لكني أشعر بأنني امرأة عجوز لا روح فيها ولا أمل، فقد تغلبت الأوجاع على روحي وضحكتي وأحلامي، وأصبحت آمالي منحصرة فقط في تربية أطفالي، أتمنى فقط أن أحسن تربيتهم وأزرع فيهم أن يشعروا بالآخر، ويفكرون ألف مرة في كلامهم حتى لا يؤذوا غيرهم حتى بدون قصد”.

“نفسي اشتغل”

“أمنية حياتي أني اشتغل.. نفسي اشتغل”.. بتلك الجملة بدأت “كريمة” ذات الـ23 عامًا حكايتها مع إصاباتها بالحروق في يدها ووجهها.

 

اقرأ أيضًا:

الكبت كلمة السر.. أحمد بسام زكي يفجر قضية التحرش الإلكتروني

 

وتقول “كريمة”: “أصبت وأنا في الثانوية العامة عام 2011، ومع الأسف الشديد تلقيت علاجًا خاطئًا ساهم في تدهور حالتي الصحية”.

تصف “كريمة” أوجاعها قائلة: “كنت أرتدي حجابي بشكل معين حتى أستطيع أن أخفي به أغلب المناطق الظاهرة التي أصابها الحرق، حتى أقلل من التنمر والإيذاء النفسي الذي كان يلاحقني من الناس”.

وتستكمل روايتها: “9 سنوات ولازالت هي رحلة علاجي من الحروق، التي أصابت جسدي بعد أن انفجر البوتجاز في شقتنا، ومثلي ومثل كثيرين من المصابين الحروق، أعاني أشد المعاناة بسبب فرص العمل التي لأ أستطيع الالتحاق بها بسبب المظهر، غير أن بعضهم يخافون من إصابتنا وكأنها مرض معدٍ”.

 

وتنهي “كريمة” حديثها: “ارتبطت رسميًا مرتين، لكنهما انتهتا بالفشل بسبب إصابتي، فقد ارتبطت بنجل خالي، لكن الخطبة لم تتم بسبب والدته التي رفضتني بشكل قاطع بسبب إصابتي”.

“هند” و”أسماء” و”كريمة”، ثلاث سيدات تفاوتن في أعمارهن وقصصهن، لكن مطالبهن متشابكة ومشروعة، فهن فقط يحلمن بحياة اجتماعية عادلة، وفرص عمل متاحة، وحياة دون تنمر أو إيذاء نفسي”.