“كام اشتغلت يا نيل في نحت الصخور .. مليون بئونة وألف مليون هاتور”.. يَندُر أن تجد هذا الكم من الدهشة والإثارة، وأنت تتبع متلهفًا رحلة النيل وتحولاته، كسيرة بطل شعبي، نُسجت من حوله الأحداث، يقع ثم ينهض ليكمل بطولاته، وكأنما الطبيعة وما حوته من ظواهر خلال ملايين السنيين، ما هي إلا فصول من سيرة البطل.

خلال القرن الماضي، تناولت كتب وأبحاث علمية عديدة، بلغاتٍ مختلفة، نشأة النيل وتحولاته، عبر أكثر من 6 ملايين سنة، لكن أبرز هذه الكتب كان كتاب الجيولوجي الدكتور رشدي سعيد، “نهر النيل.. نشأته واستخدام مياهه في الماضي والمستقبل” وهو الكتاب الذي ألفه باللغة الإنجليزية، خلال إقامته بالولايات المتحدة، بعدما “نَقل نشاطه” من مصر عقب قرار السادات بالتحفظ عليه في سبتمبر 1981.

كان “سعيد” يرغب في إصدار الكتاب باللغة الإنجليزية فقط، لينشره على المتخصصين، لكن قبيل الانتهاء من كتابته، اعتزم ترجمته  إلى العربية بنفسه، بصياغة أقل صعوبة تُمكن القراء غير المتخصصين من فهمه بغية مشاركتهم النتائج التي توصل إليها (كما ذكر في مقدمة الكتاب) ليصدر الكتاب باللغة العربية عن دار الهلال عام 1992.

 

ساهمت الاكتشافات الجغرافية والجيولوجية خلال عقود طويلة في تقديم صورة مذهلة عن تاريخ نشأة النيل في مصر ، وتحولاته من نيل ينبع محليًا مستمِدًا مياهه من النوبة وجبال البحر الأحمر، خلال فترات مطيرة شهدتها مصر، تم الاتصال الأول بإفريقيا، ثم فترات انقطاع اعتمد خلالها ثانية على منابع محلية، ثم اتصال دائم بإفريقيا، وكيف تغير شكل الحياة في مصر مع تغير منسوب النيل وأثره ليس فقط على حياة الإنسان، بل وعلى شكل الصحراء، والنبات والحيوان، فاختفت الأشجار المتنوعة وانقرضت فِيَلة وزَرافات وغِزْلان وأسود وخراف برية كانت تمتلئ بها صحراء مصر قبل أن تأخذ شكلها الحالي، وبقدر ما كانت تلك الصورة تتسم بالعلمية، كانت غاية في الدهشة، لدرجة أنها ربما تفوق الأساطير التي نسجها قدماء المصريين حول النهر العظيم.

جفاف البحر المتوسط ونشأة النيل

قبل ستة ملايين عام، انقطع الاتصال بين البحر الأبيض المتوسط وبحار العالم نتيجة لانسداد بوغاز جبل طارق، حوَّلَ هذا الحدث الجيولوجي الفريد البحر المتوسط إلى بحيرة كبيرة تبخرت مياهها وزادت ملوحتها، وفي غضون بضعة آلاف من السنين تعرى قاع البحر المتوسط بشكلٍ كامل.

 

اقرأ أيضا:

معصوم مرزوق: إثيوبيا تلعب بسياسة تنويم الخصم.. ومصر صبرت كثيرا (حوار)

 

أدى تصاعد بخار الماء من سطح البحر المتوسط بعدما فقط اتصاله بالمحيط الأطلنطي إلى غزارة الأمطار على سطح مصر، حينما اصطدم البخار المتصاعد بجبال الصحراء الشرقية، وكانت أعلى مما هي عليه الآن بآلاف الأمتار، تسببت الأمطار في بناء شبكة تصريف فوق هذه الجبال لتصب في حوضٍ طولي يقع بين الجبال الشرقية وهضبة الصحراء الغربية، مكونة بذلك المجرى الأول للنيل أو ما سمي بنهر فجر النيل (أيونيل).

ويرجع الدكتور رشدي سعيد، الفضل في هذا الاكتشاف العظيم إلى “المشروع العالمي لدراسة أعماق البحار”، والذي قام عام 1972  بدق عدد من الآبار شرق البحر المتوسط، لمعرفة طبيعة رواسبه وما ستقدمه من فهم للبيئات القديمة التي مر بها البحر.

 

“منبع محلي”

عاد اتصال البحر المتوسط بالمحيط الأطلنطي منذ 5 ملايين سنة، ليتدفق الماء فوق فتحة بوغاز جبل طارق ويمتلأ البحر مرة أخرى، وتَعبُر مياهه خوانق الأنهار التي عمقت مجراها عندما كان منسوب البحر منخفضًا.

 دخلت مياه البحر المتوسط في خانق النيل فحولته لخليج بحري وصل حتى أسوان، ثم انقلب الخليج إلى “جونة” صب فيها نهر تكون في إحدى الفترات المطيرة، فحوَّلَ مياهها إلى نصف مالحة، ثم امتد النهر في تلك الجونة حتى وصل إلى البحر، وهذا النهر سمي النيل القديم (الباليونيل).

وكما نبع نهر فجر النيل محليًا، فإن النيل القديم (الباليونيل) لم يتصل بإفريقيا أيضًا، ويُرجح أن منابعه كانت في جبال مصر والنوبة، ويدل على ذلك أن بقايا حفرية لحيوانات قديمة وجدت برواسبه أَثبتت الدراسات أنها لا تنتمي لمجموعة حيوانات المياه العذبة لإفريقيا الوسطى، ما يؤكد أنه نبع محليًا دون أي اتصال مع إفريقيا والتي لم تكتتب مياهها فيه بقطرة واحدة.

عصر الجفاف وتوقف النهر

منذ مليوني عام توقف (الباليونيل) عن الجريان، وساد الجفاف لمليون سنة، لم تشهد فيها مصر سوى فترتين مطيرتين اتسمتا بقصر المدة، وخلال إحدى هاتين الفترتين تكون نهرًا سمي البروتونيل (النيل الأول). 

كان للفترة المطيرة الثانية التي تخللت عصر الجفاف، وسميت فترة أرمنت المطيرة، كما يقول الدكتور رشدي سعيد، أهمية كبيرة لاحتواء رواسبها على أدوات حجرية صنعها الإنسان الذي عاش قرب النهر في فترات استقرار النيل، وتعتبر هذه الأدوات أقدم أثر للإنسان بأرض مصر.

 

اقرا أيضا:

سد النهضة وجلسة “الأمن الدولي”.. تحذيرات من منعطف حرج

 

الاتصال الأول بإفريقيا ونشأة النيل الحديث

منذ حوالي 800 ألف سنة، وقع حدث عظيم، وصل إلى مصر للمرة الأولى نهر من قلب إفريقيا، جاءت مياهه من المرتفعات الأثيوبية التي اقتحمت هضبة النوبة، ويرجع هذا الحدث الفريد إلى الحركات الأرضية التي شكلت المرتفعات الأثيوبية والأخدود العظيم الذي شقها، ما أدى إلى تصريف مياه هذه المرتفعات في النيل عبر هضبة النوبة، بدلًا من التصريف في  البحر الأحمر كما كان يحدث في الماضي. وهذا النهر  سمي نهر ما قبل النيل (بريانيل).

بعدما توقف نهر ما قبل النيل الآتي من إفريقيا، منذ 400 ألف سنة، وصل مصر نهر سمي النيل الحديث  (النيونيل)، وكان اتصاله بإفريقيا ضعيفًا ومتقطعًا.

مر النيل الحديث بأربع فترات، الأولى انقطعت الصلة فيها بين إفريقيا والنهر، واعتمد خلالها مرة أخرى على مياه محلية من النوبة وجبال البحر الأحمر، تلتها حقبة اتصل فيها  اتصال متقطع بإفريقيا، كما وصله مياه الوديان المحلية – خلال  فترة مطيرة ثانية في مصر، شهدت ظهور إنسان العصر الحجري المتوسط. 

وفي الفترة الثالثة وصل مصر نهران موسميان من الهضبة الأثيوبية، وبدأت الفترة الرابعة منذ 10000 سنة عقب نهاية العصر الجليدي الأخير، وفيها وصل مصر النهر الموجود الآن، وقد نشأ هذا النهر خلال فترة مطيرة سميت فترة “النبطة المطيرة”، تسببت أمطارها في زيادة كمية المياه التي حملها هذا النهر عند نشأته، ليصبح قادرًا على الجريان طول السنة، وكما يقول الدكتور رشدي سعيد، فإن نهر النيل الحديث “حقًا هو نتاج هذه الفترة”. 

 استكشاف منابع النيل 

لعصور طويلة كانت منابع النيل مجهولة للمصريين، وظلت تفسيراتهم عنها تغلفها الأساطيرk ويَعتبر العلماء، محمد علي، والي مصر، صاحب الفضل الأكبر في اقتحام منطقة مستنقعات ما وراء السد، منتصف القرن التاسع عشر، عندما فتح السودان وأرسل البعثات لدراسة منابع النيل وتأمينها.

زادت أطماع الاستعمار الغربي في إفريقيا وثرواتها، وهو ما كان يراه من قبل، محمد علي، وفي  1858 حاول المستكشفان البريطانيان “سبيك” و”بورتون” الوصول إلى منابع النيل في رحلة بدءاها من شرق إفريقيا، فوصلا بحيرة تنجانقا ثم عادا وفي الطريق حالت ظروف “بورتون” الصحية دون الاستمرار، ليواصل “سبيك” الرحلة، حتى بلدة موانزا الواقعة جنوب بحيرة فيكتوريا. نشر “سبيك” مقالًا بعد عودته إلى إنجلترا  سنة 1859 عن هذه البحيرة التي أسماها بحيرة نيانزا، والتي اعتقد أنها منبع النيل.

 

اقرأ أيضا:

سد النهضة.. الأزمة.. الخيارات.. الحلول

 

ورغم أن “تيم غيل” مؤلف كتاب “مكتشفو النيل” يَعتبر أن”سبيك” حقق نجاحًا تميز عن بقية المستكشفين الذين تتبعوا منابع النيل، فإن”سبيك” عندما عاد مرة أخرى إلى شرق إفريقيا مدعومًا من الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية لاستكمال استكشافاته، حيث زار عاصمة بوجندا الواقعة شمالي بحيرة كبيرة، وظن أنها  البحيرة نفسها التي رآها في رحلته الأولى عند موانزا، ورصد مخرجًا لها يتجه إلى الشمال عند شلالات ريبون، فخمن أن النهر الخارج منها هو منبع النيل، عاد إلى بريطانيا معلنًا أنه اكتشف منابع النيل، ما عرضه لانتقادات واسعة حيث وصف معارضو “سبيك” إعلانه بأنه مجرد “تخمين في تخمين”، وهي المعركة العلمية التي انتهت بانتحار “سبيك عشية” الاجتماع الذي حددته الجمعية الجغرافية الملكية لمناقشة الموضوع، خوفًا من فضيحة علمية تلحق بتاريخه.

وفي سبعينيات القرن التاسع عشر سعت مصر بشكل كبير إلى استكشاف منابع النيل، فبعثت بخبراء من جنسيات مختلفة إلى مناطق السدود وبحر الغزال، وفي 1874 قام شابي لونج، الأمريكي الجنسية، والذي استعان به الخديوي إسماعيل لتنظيم الجيش، بتتبع مخرج النيل من بحيرة فيكتوريا وحتى بحيرة كيوجا ومنها إلى بحيرة ألبرت، وتَممت هذه الرحلة محاولات استكشاف منابع النيل وحددت مجراه الرئيسي في الهضبة الاستوائية والمرتفعات الأثيوبية.

 


 

أثر فيضان النهر وجفافه 

أثرت كمية المياه التي حملها نهر النيل على مر العصور، على شكل الحياة في مصر، فمنذ نهاية فترة “الهولوسين” المطيرة أواخر عهد الأسرة الخامسة، عندما قلت الأمطار، وقعت تطورات مناخية أدت إلى تقلبات في كمية الأمطار في منطقة الساحل مما أثر على منابع النيل، فقل متوسط تصرف النيل ليصل إلى الحد الذي عليه الآن.

ويعتقد الدكتور رشدي سعيد، أن نهاية فترة “الهولوسين” المطيرة امتد أثرها من إفريقيا ومنطقة الساحل إلى الشرق الأوسط، وأن الجفاف كان له أثره في تفكك دولة الأكاديين، وتحطم بعلبك وانتهاء عصر البرونز غرب الأناضول. 

وفي مصر، أدى توقف الأمطار إلى جفاف الصحراء لتأخذ شكلها الحالي، فتلاشت فيها الحياة الحيوانية والنباتية التي وجدت وقت الفترة المطيرة، والتي سجلتها دراسة بقايا النباتات وعظام الحيوان التي حفظت في المستوطنات القديمة، إضافة  لرسوم الحيوانات والنباتات المنقوشة على الأواني والمشغولات العاجية، وجدران المقابر في مصر القديمة.

وخلال فترات الجفاف هلك العدد الأكبر من الفيلة والزرافات، وفي غضون سنوات اختفت تمامًا الفيلة والزرافات ووحيد القرن وغزال الجرونوك، والأسد والخروف البري، لتتلاشى من مصر غالبية حيوانات السافانا، والتي سجلها المصري القديم على جدران المعابد والمقابر الفرعونية. 

 

 

وكما يرجع “سعيد” نهاية دولة الأكاديين، وتحطم بعلبك وانتهاء عصر البرونز في الأناضول، إلى نهاية فترة الهولوسين المطيرة، يعتقد أن سقوط الدولة القديمة في مصر سنة 2200 ق.م، (عصر الاضمحلال الأول)، كان بسبب انخفاض منسوب النيل لسنوات متتابعة، مما أدى إلى تحطيم قاعدة البلاد الاقتصادية، وانتشار المجاعة وتفكك الدولة والسلطة المركزية.

ويشير “سعيد” إلى نبوءة نفرتي، والتي تعتبر واحدة من النصوص الهامة والقليلة عن الفترة الغامضة والمضطربة التي تبدأ من منتصف عصر الأسرة الحادية عشرة إلى أوائل الأسرة الثانية عشرة، والتي كتبت في عصر الملك أمنمحات (1991 – 1962 ق.م.).

ويقول نفرتي في مخطوطته إن: “الأرض السوداء اختفت والشمس غطتها الزوابع”، ويعتقد “سعيد” أن الكاتب قصد من هذا الكلام أن الرمال بدأت تزحف على الأراضي الزراعية، كما تَذكُر النبوءة أن”نهر مصر قد فرغ والناس تعبرهُ بأقدامها”، وتضيف: “الناس تبحث عن الماء في المكان الذي كانت تمخر عبابه بالمراكب”، ويظن “سعيد” هنا أن “نفرتي ” كان يعني أن النيل بدأ في تغيير مجراه إلى أماكن جديدة مع قلة المياه التي كانت تصله.

 

وفي الفترة من (1053 – 1090) التي انخفض النيل في معظم سنواتها، أيام حكم الخليفة المستنصر الفاطمي، والتي سميت بـ”الشدة المستنصرية”، انتشرت المجاعة ولجأ الناس إلى أكل لحوم البشر، وتراجع سكان مصر خلالها من 3.5 مليون إلى 1.5 مليون، راح الفارق ضحية للجوع، وعن الحال في  عام  1403 يقول “المقريزي” إن نصف سكان مصر قد أبيدوا بسبب المجاعة بعد جفاف النهر.

ويذكر الدكتور رشدي سعيد في كتابه، أن الحد الأقصى لمنسوب النيل خلال تلك الفترة كان 8.8 متر، في الوقت الذي كان الارتفاع المناسب لري الأراضي 9.1 متر فوق أرضية بئر المقياس.

ويدلل التاريخ على أن ظروف مصر الاقتصادية خلال عصور طويلة كانت انعكاسًا لتقلبات نهر النيل ورهنًا بكميات المياه التي تصل إليه من قلب إفريقيا، وحتى الآن يظل النيل هو المصدر الأساسي لمد مصر بالمياه، فالمخزون الجوفي (القابل للاستخراج)، ضئيل جدًا نسبة لاحتياجات مصر المائية، ما يجعل أي عرقلة لوصول حصة مصر من مياه النيل، لا يهدد فقد مستقبل التنمية الزراعية والصناعية، بل يهدد الوضع القائم ويقلص من المساحات المزروعة، ناهيك عن تقلص نصيب المشروعات الصناعية، والاستخدام المنزلي، من المياه.