يحدد المؤرخون بداية العصر الأوروبي الحديث بمنتصف القرن الخامس عشر، وهو العام نفسه الذي شهد سقوط القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية آنذاك، وتحديدا في العام 1453، بل إنهم يعدونها اللحظة الجديدة والفارقة في تاريخ أوروبا الحديثة، حيث نزح علماء الدولة البيزنطية إلى إيطاليا حاملين معهم تراث اليونان والرومان ومنها إلى سائر أوروبا. ومنذ هذه اللحظة وربما قبلها بقليل كانت الأحداث تتسارع نحو ميلاد عصر جديد، تكشفت ملامحه عن ما أطلق عليه فيما بعد بـ”عصر النهضة”، وهو العصر السابق على عصر التنوير الاوروبي ولكنه ممهد ومكمل له، ولتترك أوروبا خلفها قرونا من الظلام والجهل والتخلف. بالطبع لم يكن الأمر سهلا كما نحكيه، وكانت المقاومة عنيفة، وفي بعض الأحيان دامية.
إن اللحظة التي يتوقف فيها العقل ليتساءل حول طبيعة الاستثناءات التي تخلفها الرؤية المعرفية القائمة (الابستيمولوجيا) ويتشكك في قدرتها على توفير إجابات ناجعة، هي نفسها اللحظة التي يسعى فيها لطرح رؤى جديدة مغايرة، وهو أمر يتخذ مسافات زمنية ليست بالقصيرة، يرتد العقل على عقبيه، ويعيد فيها مراجعة تراثه وإرثه بنظرة فاحصة وناقدة، إذ ترتبط سلامة نظرية ما بسلامة منظومتها الفكرية، وقدرة منطقها الداخلي على ردم أية فجوات معرفية قد تضعف من موقفها، وقدرتها على إزاحة التناقضات الداخلية، من ناحية، وتوافقها مع الواقع عبر إمكانية تشغيل المنظومة وقدرتها على تفسير الأحداث الجارية، من ناحية أخرى، فنتائج التقاء النظرية بالواقع يعد اختبارا لمدى فاعلية النظرية وصمودها.
لطرح مثال عملي يمكن الحديث عن نظرية “مركزية الأرض” والتي استمرت قائمة قرونا عديدة، وتمكنت من الإجابة عن تساؤلات كثيرة، وظلت صامدة فترة زمنية طويلة، ليس فقط لحمايتها من قبل رجال الدين في العصور الوسطى، بل لتمكنها من التفاعل مع الواقع ومعطيات العلم في عصرها، ولكنها تهاوت رغم استماتة الكنيسة ورجال الكهنوت في الدفاع عنها، عندما توقفت عن تقديم تفسيرات منطقية لظواهر طبيعية تحدث حولنا. فعندما تتزايد الظواهر الخارجة عن تفسير نظرية ما، وعندما تنفلت أحداث خارج المنظومة المعرفية يصبح من الأحرى الحديث عن فشلها عبر تعويضات فكرية تمنح فرصا لنظرية أخرى للتجلي يمكنها الإجابة عن الأسئلة المعلقة وإدخال كافة الظواهر في تفسيراتها المنطقية.
إذن نحن أمام عصر تمكن فيه العقل الأوروبي من النهوض عبر استراتيجيتين هامتين، الأولى هي مراجعة الذات، عبر إعادة النظر في كل ما يتعلق بمحتويات العقل الجمعي الأوروبي وإرثه المعرفي والثقافي، وأما الثانية فكانت اكتشاف إجابات جديدة لأسئلة العصر التي طرحت نفسها على العقل الأوروبي آنذاك، وكلاهما دفع المجتمع الأوروبي نحو نهضة واستنارة صنعتا الحضارة الأوروبية (الغربية). وفي كلا الاستراتيجيتين كان هناك محطات ذات دلالة، بل وتمثل أحداثا جسيمة، تجلت جميعها في هذا الصدام الحاد والدامي بين الكنيسة التي تمثل السلطة الدينية المسيطرة والتي تعبر عن كل المحافظين (وهم أغلبية في هذا الوقت) الذي يرغبون في إبقاء الوضع على ما هو عليه، والرافضين لأية تغييرات يمكن أن تدخل على ما استقروا على كونه الأفضل والأصلح، بل والمقدس بوصفه قد حصل على رضا كنيسة الرب من ناحية، وبين هؤلاء الداعون إلى التغيير، واتخذ الصدام مسارات عدة بعضها كان عنيفا وداميا.
لم يكن الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة والحداثة إنتفالا سلميا، وبينما كان التقدم العلمي والتكنولوجي من ناحية، والصراع المشتعل بين رجال الدين (السلطة الدينية) ورجال السياسة من الملوك والأمراء (السلطة الزمنية) يسحب البساط من تحت أقدام المحافظين ورجال الكنيسة، كان أصحاب الفكر الجديد يكتسبون كل يوم أرضا جديدة، وعبر هذه التفاوضات المجتمعية متعددة المستويات انبثقت أوروبا الحديثة فخورة بما أنجزته، مستعصية على لي عنقها للعودة إلى الخلف مرة أخرى، فما أنتج عبر هذه السنوات الطويلة هو ابن شرعي لهذا المجتمع، وكل خطوة كانت تخطوها نحو التقدم دفعت ثمنا باهظا لاستكمالها. وهنا يفخر الأوروبيون بإنجازهم الحضاري، ويرونه بناء ذاتيا وضع لبناته الأولى اليونانيون الأوائل من خلال ما قدموه من علم، وفكر، وفلسفة، انار العالم قديما وها هم أحفادهم يستكملون بنائهم الحضاري.
ولا يعنينا هنا أين بدأت النهضة الأوروبية وفي أي بلد كانت إرهاصاتها الأولى بقدر اهتمامنا بقدرتها على الاستمرار واستكمال مسيرتها في هذه الطرق الوعرة عبر تفاوضات سياسية واجتماعية ومعرفية أعادت توزيع موازين القوى في المجتمع مرة أخرى، لتنبثق قوى جديدة، وتتراجع أخرى، ويتخذ واجهة المشهد هؤلاء الرجال العظماء من العلماء والمفكرين والفنانين وفي بعض الأحيان السياسيين، ليقدموا منتجهم النهائي من خلال أعمال فنية ونظريات علمية وفكرية شكلت الرؤية المعرفية العامة ليس في أوروبا ولكن في العالم، لتعلن عن انبثاق عصر الحضارة الأوروبية (الغربية) وسيطرتها على الوعي الإنساني في كل بقعة من بقاع الأرض.
وفي سياق الصراع الدائر بين القديم والحديث تنبثق أفكار الحداثة، ففي مواجهة “ملكوت الرب” الذي تطرحه السلطة الدينية، تتكشف أفكار حول العالم، وتتبلور عبر مفهوم مازال مؤثرا إلى هذه اللحظة، ربما خارج أوروبا وفي مجتمعنا وهو مفهوم (العالمانية) والذي طرحه مفكروا النهضة في مواجهة الكنيسة في مرحلة ما بهدف تقليص سلطتها، فإذا ما كان المسيح يوصي “دع ما لقيصر لقيصر، وما للرب للرب” فما بال الكنيسة تتدخل في شئون العالم وتفرض سيطرتها عليها، فليكن لرجال الدين سلطتهم الروحية داخل الكنيسة، وليتركوا لرجال السياسة إدارة المجتمع وشئون العالم. وهكذا انبثق مفهوم (العالمانية) ليرسم خريطة التفاوض حول طبيعة السلطة داخل المجتمعات الأوروبية، وليصبح مقوما أساسيا لطبيعة المجتمع الأوروبي.
ومن هذا المفهوم تفرعت الرؤى في كلا المجتمعين، ففي المجتمع الكنسي قامت ثورة إصلاح تسعي إلى محاولة تجديد الخطاب الديني، لتقدم خطابا قادرا على الصمود في مواجهة/ بجانب الأطروحات العلمية والفكرية التي أصبحت تمتلك تأثيرا قويا في المجتمع، حيث شهدت الكنيسة الكاثوليكية كثيرا من التحولات والتغيرات التي كادت أن تعصف بها. ومن الناحية الأخرى قامت محاولات الإصلاح السياسي/الاجتماعي عبر طرح نظرية “العقد الاجتماعي” التي تحدد طبيعة العلاقة بين رجال السياسة “السلطة الزمنية” والمجتمع. فتتكون رؤية سياسية متكاملة الأبعاد حول طبيعة العلاقات داخل المحتمع، وأساليب حل الصراع بطرق سلمية بديلا عن العنف، ويتبلور مصطلح (الديموقراطية) بوصفه طريقة آمنة لإدارة العلاقات داخل المجتمع تقوم على قيم داعمة تتمثل في المساواة والعدل والحرية، ومن ثم أصبح هذا المفهوم (العالمانية) مفهوما ذا دلالة في مشروعات الإصلاح والنهوض في المنطقة العربية وفي القلب منها مصر.
أصبحت إذن منظومة القيم الغربية هي المنظومة الحاكمة، سياسيا وفكريا، واجتماعيا…الخ، وكلما تطلع مجتمعا ما إلى النهوض والتطور يولي وجهه شطر القيم الأوروبية التي مثلت نموذجا يحتذى، وقدمت تجربتها بوصفها التجرية القادرة على الخروج من أسر التخلف إلى رحابة النهضة والتقدم، بل لقد أصبحت مشروعات النهضة في المجتمعات الأخرى ومنها المنطقة العربية ومصر تستند في صميمها على مقولات النهضة الأوروبية، سواء أكان هذا المشروع النهضوي يتوجه نحو نهضة الفنون أو الأداب أو الفكر أو المجتمع، تظل المقولات الأوروبية حاضرة بكثافة، وتقدم نفسها بوصفها العلاج الناجع، فأفكار النهضة وأطروحاتها، والإصلاح الديني ومقتضيانه، وفلسفة الأنوار برؤاها التقدمية تمثل الثالوث المقدس للوصول إلى تقدم المجتمع، وهي المقومات الأساسية لإنجاحها.