تعد المياه عاملاً حيويًا في حياة الشعوب، وعنصراً أساسياً في الحياة والتنمية، لكنها كانت عاملا آخر في اندلاع النزاعات والصراعات العسكرية بين الدول قديمًا وحديثًا، خاصة في ظل تشاركها في المياه، وسعي كل منها إلى السيطرة عليها والاستحواذ عليها لنفسه، أو تدميره، ما حول العالم إلى حلبة صراع “دامية”، بحثًا عن الحياة.

الصراعات العسكرية حول المياه، ليست وليدة القرن الماضي لكنها تبدو أقدم من ذلك بكثير، فمعهد المحيط الهادئ – مؤسسة بحثية تعمل على دراسة قضايا المياه العذبة مقرها الولايات المتحدة- يحتفظ بسجل لـ926 نزاعًا على المياه على مدار حوالي 5 آلاف عام من تاريخ النزاعات المتعلقة بالمياه.

ووفقا للمعهد كان هناك نحو أكثر من 400 اشتباك وتحرك عسكري منذ العام 3 آلاف ما قبل الميلاد، وخلال الفترة من عام 2000 وحتى عام 2017 كان هناك 222 تحركا عسكريا بهدف السيطرة على مورد مياه أو تدميره، منها 123 عملا عسكريا شهدتها منطقتا الشرق الأوسط وإفريقيا.

وسجل إحصاء منظمة الأمم المتحدة 37 حالة عنف بين الدول مرتبطة بصراعات المياه، منذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، حتى عام 2017.

“الموت أو الاستسلام”

ولعل أبرز الصراعات المسجلة في التاريخ، وتحديدًا في العام 30 ميلاديًا، كان بين الرومان واليهود، عندما أقدم بيلاطس البنطي، الحاكم الروماني على بيت المقدس، على سرقة أموال من أحد المعابد اليهودية لشق قناة مياه، خرج الآلاف إلى الشوارع احتجاجاً، فأرسل بيلاطس جواسيس مسلحين بخناجر مخفيّة، فاندسوا بين الحشود، وقتلوا عددًا كبيرًا منهم، ليقوم في النهاية بشق القناة.

اقرأ أيضا:

مصر والنيل.. حكاية 6 ملايين عام من عمر النهر

وفي عام 1187 ميلاديًا، وقع صراع بين المسلمين والصليبيين، في بيت المقدس، حيث أغرى المسلمون الصليبين بالخروج من المدينة للهجوم على إحدى القرى الواقعة تحت سيطرتهم لإبعادهم عن “مصدر مضمون للمياه”، ثم قام المسلمون بمنعهم من الوصول إلى عيون المياه، ما دفع الصليبيين إلى الاستسلام أو الفرار، ليتمكن المسلمون في النهاية من السيطرة على مدينة القدس.

وتمثل أزمة المياه بين تركيا والعراق وسوريا، نموذجا آخر، حيث عمدت أنقرة منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي إلى بناء السدود على نهري دجلة والفرات، بدأت بسد كيبان وأتاتورك وإليسو العملاق، الذي يتحكم بشكل مطلق بتدفق المياه إلى نهر دجلة، وترفض تركيا ولا تزال اعتبار نهري دجلة والفرات نهرين دوليين، لتخالف “المادة د” من مبادئ هلسنكي لعام 1966 باعتبار الفرات نهرًا دوليًا، واعتبرته نهرًا عابرًا للحدود فقط ، لتستمر الأزمة حتى الآن، ولم يتم توقيع اتفاق نهائي.

“التعاون أو البحث عن بديل”

ويعد الصراع بين البرازيل وباراجوي، في الفترة من 1962 إلى 1967 قريب بعض الشيء من الأزمة الحالية بين مصر والسودان وإثيوبيا، حيث ادعت كل من البرازيل وباراجواي أحقيتهما في تطوير الطاقة الكهرومائية من شلالات جوايرا، التي كانت تقع على الحدود المشتركة بين الدولتين، فأقدمت البرازيل على غزو الموقع واحتلاله لمدة خمس سنوات، ليوقع البلدان في عام 1969 على معاهدة، ويحصل كلاهما الآن على الكهرباء من سد لتوليد الطاقة الكهرومائية أقيم في اتجاه المنبع، مما أدى إلى القضاء على شلالات جوايرا.

واتبعت سنغافورة سياسة مختلفة في تعاملها مع أزمة المياه مع دولة ماليزيا عام 1997، والتي كانت واقعة تحت السيادة السنغافورية، والمصدر الرئيسي لإمدادها بالمياه، فحين قررت ماليزيا حرمان سنغافورة من المياه، قامت الأخيرة بترشيد استهلاك المياه، وإقامة محطات لتحلية مياه البحر بهدف تحقيق استقلال مائي.

اقرأ أيضا:

مفاوضات سد النهضة.. الاتحاد الإفريقي يبنى آمال الحل على إعلان المبادئ

 

المفكر الهندي، براهما شيللاني، المتخصص في مجال الجغرافيا السياسية والقضايا الاستراتيجية، قال في كتابه الماء والسلام والحرب، إن نزاعات المياه لم تكن غائبة عن الصراعات العسكرية، منوها بأن هدف باكستان خلال حربها مع الهند عام 1965 في مناطق جامو وكشمير الجبلية كان يهدف إلى الاستيلاء على منطقة تتدفق على صعيدها مياه الفيضان المتأتية من ثلاثة أنهار دفعة واحدة.

ولفت براهما شيللاني في كتابه الصادر عام 2014، إلى ما ذكره رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي أرييل شارون، في مذكراته، حين أشار إلى أنه من أهداف حرب عام 1967، ما كان متصلاً بأهمية السيطرة على الموارد المائية، سواء في نهر الأردن أو في مرتفعات الجولان السورية.

“تدخلات مجلس الأمن”

وأفادت دراسة نشرها الباحثان جيمس فراي وأجنيش تشونج في جامعة جورج تاون الأميركية، عن الطرق التي اتبعها مجلس الأمن الدولي لحل نزاعات المياه بين دول العالم، والتي جاءت بعنوان “قرارات مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بشأن نزاعات المياه”، أن بعض الالتزامات التي فرضت على بعض الدول تختلف مع قانون المياه الدولي، وهو ما أدى أحيانا إلى عودة الأمور إلى المربع صفر ونشوب التوتر مجددا بين المتخاصمين.

وذكرت الدراسة المنشورة عام 2019، أن مجلس الأمن علق بعض الالتزامات التعاهدية، وفرض بديلا آخر في 8 حالات على الأقل، قوض خلالها قانون المياه الدولي عبر منح الأولية لشرب المياه على حساب استخدامها، لأنه يعطي الأولوية لأي استخدامات معينة للمياه.

اقرأ أيضا:

معصوم مرزوق: إثيوبيا تلعب بسياسة تنويم الخصم.. ومصر صبرت كثيرا (حوار)

وأوضحت الدراسة أن العالم شهد 166 حالة نزاع مسلح بسبب المياه، كان آخرها عام 2018 عندما هاجمت تركيا البنية التحتية الخاصة بالمياه في شمالي سوريا، والتي كان أبرزها سيطرة تركيا والقوات التي تدعمها على محطة مياه العلوك خلال الهجوم التركي على شمال شرق سوريا في أكتوبر الماضي، حيث تخدم المحطة، قرب بلدة رأس العين في محافظة الحسكة، ومدينة الحسكة، وثلاثة مخيمات نازحي

وفي حالة نزاع نهر الكونغو أواخر التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة، بعد اندلاع الحرب الأهلية بين القوات الحكومية في جمهورية الكونغو الديمقراطية والمتمردين، اندلع فصل كبير من القتال من أجل السيطرة على المدن المحاذية للنهر، وأدى القتال إلى غلق مجرى النهر، مما أثر على توزيع الدواء والغذاء إلى جانب تعطيل العديد من جوانب الحياة الأخرى، ليقرر المجلس اعتبار الوضع يشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين، واتخذ القرار 1445 الذي يلزم الأطراف بإعادة حرية الحركة في النهر فورا.

الحروب الأهلية

ولجأ مجلس الأمن الدولي، كما في حالة الحرب الأهلية بجمهورية يوغوسلافيا السابقة مطلع التسعينيات، إلى فرض عقوبات، طالت حركة النقل على نهر الدانوب، الذي اندلعت بجواره أشرس المعارك بسبب أهميته، واستثنى المجلس بعض المشاريع بين يوغوسلافيا ورومانيا المتعلقة بالنهر من العقوبات مثل الكهرباء والنقل، ولكن بسبب تزايد الانتهاكات لقراراته، عمل المجلس على التقليل من الاستثناءات المفتوحة، وبإجراءات ملزمة.

ومع تزايد عدد النزاعات الدولية بسبب المياه، تقول الدراسة إنه “بات على المجلس أن يجد سبلا لدعم قانون المياه الدولي عوضا عن قيوده لتحقيق مزيد من الاستقرار في مناطق المياه التي تواجه توترات بسبب عدم إعطاء قانون المياه الدولي الأولوية لأي استخدامات معينة للمياه”.