“أنا محظوظة بعدد مرات التحرش القليلة التي تعرضت لها”، كلمات تبدو للبعض صادمة، ألا أنها في حقيقة الأمر تعكس معاناة آلاف الفتيات مع قضايا التحرش، التي كبلهم الخوف من المجتمع الأقرب إليهم وهو “الأسرة”، مواجهة المجتمع الأكبر والثأر بحقوقهن، فلجأن لصفحات مواقع التواصل الاجتماعي لبث آلامهن ومعاناتهن مع قضايا التحرش والاعتداء الجنسي تحت أسماء مستعارة، معتبرين اياها وسيلة آمنة لكسر صمتهن، ومتنفس لأروحهن المكبلة.

أعاد هاشتاج “المتحرش أحمد بسام زكي”، الذي تصدر موقع مواقع التواصل الاجتماعي، خلال اليومين الماضيين، الحديث عن التحرش بمصر إلى الواجهة من جديد، حيث رويت من خلاله وقائع لبنات تعرضن للتحرش ووصل الأمر للاغتصاب في أحيان كثيرة.

وكان المركز القومي للمرأة من أوائل المؤسسات التي ساندت الفتيات، إذ تقدم المركز ببلاغ للنائب العام للتحقيق في الواقعة، مطالبا جميع الفتيات اللاتي وقعن ضحية للشاب بالتقدم ببلاغات رسمية، حيث صرحت مايا مرسي، رئيس المجلس، إن الفتيات اللاتي تحدثن عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن تحرش الشاب بهن يترددن في تقديم البلاغات خشية التشهير.

من جهتها، أعلنت النيابة العامة المصرية بأنها تُجري تحقيقاتها مع المتهم بعدما ألقت الشرطة القبض عليه، وحررت محضرًا بواقعة الضبط وعرضته والمتهم على النيابة المختصة، وجار التحقيق معه.

 

اقرأ أيضًا: 

الكبت كلمة السر.. أحمد بسام زكي يفجر قضية التحرش الإلكتروني

 “من زمان وأنا بمشي في الشارع متحفزة ومشدودة جدا ولو حد قالي كلمة بطلع فيه اهزقه وكانوا بيتخضوا ويبعدوا”، هكذا تابعت أحد ضحايا التحرش سرد قصتها  تحت وسم””# قف_مع_أولادك_ضد_التحرش”، الذي يعتبر واحد من عشرات الأوسمة والمبادرات التي فجرتها قضية “زكي” عبر مواقع التواصل، حيث شنت فتيات وسوما أخرى ومجموعات على فيسبوك، يحكين فيها عن أول حادثة تحرش تعرضن لها ، وهوما يكشف بشكل او بآخر عن تحول السوشيال ميديا إلى ملاذ آمن للمرأة، في أحيان كثيرة، لطلب الحماية من العنف الأسري أو للإبلاغ عن واقعة تحرش أو لطرح مبادرة جديدة.

ويتفق مختصون على أن وسائل التواصل، باتت تشغل حيزا كبيرا من حياة النساء، في المنطقة العربية، بعد أن صارت تمثل بالنسبة لهن عالما جديدا، يوفر وسيلة آمنة لكسر صمتهن، بشأن ما يتعرضن له من انتهاكات، ويمارسن فيه هامشا من الحرية، كما توفر مجالا واسعا للحركات النسوية، لطرح مبادراتها، التي تعبر عن همومها وقضاياها، بصورة أكثر حرية، ودون ارتباط بطرح تقليدي يكون معقدا في غالبه.

وأشارت إذاعة “بي بي سي” في تحقيق صحفي، أجرته عام 2016، إلى أن آلاف الشابات في مجتمعات محافظة، في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، يقعن ضحايا للابتزاز، عبر التهديد بنشر صور حميمية لهن على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، ما أدى في بعض الحالات، إلى انتحار العديد منهن، لكن لا توجد إحصاءات دقيقة عن الأمر، لأن الغالبية العظمى من الضحايا يلتزمون الصمت، ويعانون خلف أبواب مغلقة، بسبب خوفهم من إلحاق “العار” بأسرهم وحتى الخطر الذي يتهدد حياتهم.

وتحت نفس الوسم، قال بعض النشطاء، أن صمت البنات عن وقائع التحرش أو الابتزاز، يرجع لخوفهم من “الفضيحة” ويكشف عن ضعف العلاقة بينها وبين أهاليهم، إذا امتلاً الهاشتاج بقصص مؤلمة لما يحدث للفتيات في الشارع وخلف الأبواب المؤصدة من انتهاكات جسيمة.

بينما كتبت أحد المتضمنات مع الفتيات، تحت هاشتاج “# أول_محاولة_تحرش_كان_عمري “،”علموا أولدكم من صغرهم سواء ولد أو بنت أن أجسامهم مساحة خاصة جدا قاصرة عليهم، وأي تلامس أو اقتراب من أجسامهم لازم يكون بإذنهم مش غصب عنهم ابدا”.

كما دشنت ايضًا حملة “# انا_ناجية “، التي تشجع ضحايا التحرش والاغتصاب على الإفصاح عما تعرضن له، بهدف التوعية من جهة، وفضح المعتدي لينال عقوبته من جهة أخرى.

ولم تقتصر حملات المساندة والتأييد لضحايا التحرش والاغتصاب على الفتيات، بل شارك فيها أيضا رجال سئموا سلبية أقرانهم، حيث كتب أحد النشطاء على الـ”فيس بوك”، “لما البنت تحس أن خوف أهلها من “الفضيحة” حيبقي أهم و أكبر من خوفهم عليها، حتضطر إنها تخبي ويتم الاعتداء (أو التحرش بيها) او استغلالها بأشكال كتيره؛ بلاش نستخبي تحت شعارات اننا مجتمع متدين، وأن دي حالات قليلة، نسب التحرش للبنات (و الأولاد كمان) اللي بشوفها في شغلي نسب مرعبه، و بتبين قد أيه إحنا مجتمع هش و يدفن رأسه في الرملة”.

 

اقرأ أيضًا:

 تبرير الاغتصاب والتحرش.. عندما تقع المرأة ضحية مرتين

 

سرطان اجتماعي

عُرف المركز المصري لحقوق المرأة التحرش بأنه “سرطان اجتماعي معقد”، وطبقًا للمقاييس العالمية، والتي أتفق عليها خبراء علماء الاجتماع والحقوقيين، فيقصد بالتحرش هو “أي تصرف أو تعرض غير مرحب فيه وغير مرغوب فيه من أحد الجنسين على الجنس الأخر وبدون موافقة هذا الأخر”.

وفي دراسة صدرت قبل نحو عقد من الآن، أشار المركز المصري لحقوق المرأة إلى أن نسب التحرش في مصر بلغت 83%، ألا أن ميرفت التلاوي، رئيس منظمة المرأة العربية، صرحت في العام الماضي، بإن نسبة التحرش الجنسي انخفضت في مصر خلال السنوات الأخيرة، مطالبة الدولة والحكومة بتأهيل جميع الفتيات اللاتي يتعرضن للتحرش الجنسي نفسيا.

في حين، اعتبرت تقارير “منظمة الصحة العالمية” العنف الجسدي والجنسي تجاه النساء من مشاكل الصحة العمومية التي تؤثر على ما يزيد عن ثلثي نساء العالم، ورغم خوف النساء من وصمة المجتمع التي قد تلاحقهن حال الإبلاغ عن العنف الممارس ضدهن، إلا أن الاستعراض الذي قامت به منظمة الصحة العالمية، في عام 2017، يشير إلى أن 7.2% من النساء يبلغن عمن مارس عليهن العنف الجنسي.

غير أن رغم ارتفاع نسب التحرش عالميًا، تقول هيذير هلافكا، أستاذة علم الجريمة والاجتماع في جامعة ماركيت، إن أغلب هذه الانتهاكات لا يتم التبليغ عنها، لأسباب تعود إلى التربية التي ترمي بالمسؤولية على المرأة لحماية نفسها وبالتالي شعورها بالعجز والعار إن فشلت مما يبقيها صامتة، وبهذا تكون التربية أساساً إحدى وسائل تحصين عنف الرجل بطريقة غير مباشرة، وعلى هذه الأسس تقوم النساء بمحاولة تعويض نفسي، فيحاولن التخفيف من أثر الانتهاك بالتعامل معه كسلوك طبيعي كي لا يقعن في فخ دور الضحية، خاصة وأنهن يدركن أن الموضوع عام ولا يتعلق بحالة فردية.

وتضيف “هلافكا” إن فضح الانتهاك يكون أسهل بكثير بحال كان المعتدي شخصاً غريباً، هنا ترتفع معدلات الشكاوى، في حين تتضاءل جداً عندما تتعلق بشخص قريب بسبب التبعات النفسية والصراع الذي يخلقه الانتهاك من قبل شخص محل ثقة، وكذلك خوفاً من التبعات الاجتماعية بما فيها خسارة الأصدقاء في الدائرة المحيطة المشتركة وتغير نمط الحياة وتوريط شخص قريب في مشكلة.

والرأي السابق لا يقتصر به الحديث عن الفتيات فقط، بل أن هناك ضحايا للتحرش من الرجال، ولكن لا يتم تسليط الضوء عليهم، فهم ايضًا لا يفصحون عن هذه الوقائع لأسرهم أو حتى أقرب أصدقائهم خوفًا من النظرة الاجتماعية لهم او ما يمكن أن يلقوه بين اقرانهم، فتحت الأوسمة السابقة التي فجرت مع قضية “أحمد بسام زكي”، كشف بعض الشباب عن ما عانوه من التحرش في صغرهم، وعدم تبليغهم عن الأمر لذويهم.

 

وصمة عار

على جانب آخر، حاول الكثير من الباحثين والمتخصصين التوصل إلى إجابات للأسئلة التي عادة ما تطرح مع كل قضية تحرش أو واقعة جديدة، “لماذا انتظرت الضحية كل هذه السنوات لتتحدث؟”، حيث توصلت أبحاثهم لنتيجة مؤكدة، وهي أن المتحرش إنسان ذو سلوك مضطرب بصرف النظر عن عمره أو مستواه الاجتماعي أو الثقافي.

بينما أرجعت رشا الجندي، اخصائية نفسية، بأن سكوت ضحايا عن وقائع التحرش وعدم إبلاغ الأمر لأسرهم، يرجع إلى الثقافة المجتمعية السائدة بأن الإبلاغ سيضر “بسمعة الفتاة” أكثر مما ينفع، وهو ما يدفع العديد من الأسر لصمت حتى بعد معرفة الحادثة، وكأن إخفاء الأمر سيعالجه، وهو ما يدفعهم لتخفيف عن آلامهم بطرق اخري كوسائل التواصل التي لا تكشف عن شخصيتها الحقيقة وتبقي الأمر ايضًا طي الكتمان من عائلتها.

وتابعت “الجندي” لـ مصر 360، أن التحرش الجنسي في العموم يرجع لبعض العوامل النفسية، كالكبت الجنسي والاضرابات النفسية، لكن جزء منه اجتماعي بحت، وهو يعتبر فعل “غير أخلاقي”، ولكن السكوت عن وقائعه يعطي ايحاء بانه شيء مقبول أو بأنه فضيحة للشخص الذي تم التحرش به، ولأنه يعلم عدم وجود عواقب مجتمعية لهذه الجريمة.

 

اقرأ أيضًا:

 “نستطيع أن نحيا بدونهم”.. حملة نسوية تستهدف الاستغناء عن الرجال في الحياة

 

وأشارت إلى أن آثار التحرش النفسية السيئة على الضحية تصل لدرجة الصدمة، وتمر بمراحل عدة تبدأ بالإنكار للواقعة وكأنها لم تحدث، ثم تفقد القدرة على الإنكار لأن الحادث يظل مسيطرًا على تفكيرها فتبدأ في مواجهة نفسها بما حدث، وهو ما يجعل الأمر يستغرق سنوات طويلة.

بينما ذكر موقع “سيكولوجي توداي”، الأمريكي، إن أسباب بقاء المرأة صامتة قد يكون ناجماً عن خوفها من العار، من الوصمة، من المطاردة الاجتماعية والخشية من عدم تصديق روايتها، فالخوف من العار هو العامل الرئيسي الذي يجعل بعض النساء يمتنعن عن فضح اِسم المعتدي عليهن في العلن، خاصة أن البعض منهن يلقي اللوم على أنفسهن ويشعرن بأنهن المسؤولات عما حصل لهن.