تتعرض النساء في مصر للتحرش بصورة متزايدة داخل أماكن عملهن، وغالبًا ما يكون من رؤسائهن المباشرين أو أصحاب الأعمال وليس من زملائهن، وإن كان التحرش بالعاملات يحدث في كل مستويات العمل بصرف النظر عن طبيعة مهام العاملات أو وضعهن الاجتماعي إلا أن المصانع والورش، والمحال التجارية، تشهد مستوى أكثر فجاجة وانتشارًا من الاعتداءات الجنسية ضد النساء، فمن المعتاد داخل ورش الملابس مثلًا أن تمتد يد المشرف لتعبث بجسد عاملة، ناهيك عن التحرش اللفظي دون أن تكون قادرة على ردعه أو مجرد الشكوى، فالعاملات يتخوفن من اضطهادهن في العمل إذا اشتكين أو اعترضن، كما أن قدرتهن على البوح تبقى مقيدة لاعتبارات كثيرة.

“بيحصل كتير وبشوف أكتر، عن نفسي تعرضت للتحرش مرتين”، هكذا بدأت “هدير” صاحبة الـ 21 عامًا، عاملة بمصنع لإنتاج المواد الغذائية بمدينة 6 أكتوبر، شهادتها لـ “مصر 360” مستكملة كلامها: “مرة منهم من مدير الحسابات لما رُحت له في يوم أشتكي من خصم في المرتب، كنت مايلة لقدام شوية وساندة بيدي على المكتب من تعب الشغل، قرب ولمس صدري بقلم كان في إيده، انتفضت جامد، قالي بكل بجاحة، إيه عقربة قرصتك، قلت له لو سمحت ما بحبش الحاجات دي، قالي خلاص أنا بهزر معاكي، سبت المكتب ومشيت من غير ما أخلص اللي جيت علشانه، بس بعدها حذرت كل زميلاتي ومبقاش حد يروح له المكتب بعدها”.

وتستكمل “هدير”: “المرة التانية دي واقعة شهيرة أوي في المصنع، تقدر تقول إن كل عاملات المصنع تعرضن للتحرش”، وتوضح: “في تفتيش يومي واحنا خارجين من الوردية، يقوم به عمال الأمن، طبعًا مش تفتيش ذاتي، تفتيش للشنط، عدد من عمال الأمن كانوا يتعمدوا يلمسوا إيدين العاملات خلال التفتيش بشكل متعمد، وفي منهم كان يضغط بشكل عنيف على ظهر اليد، منهم مشرف وردية الأمن نفسه، وكمان بعضهم ما كنشي يكتفي بكده بعد التفتيش، كان يضرب العاملات ضربة خفيفة كده على الظهر أو الكتف بشكل متعمد، وهو يقول يلا اخرجي”. 

 

تشير “هدير” إلى أن هذه المرة ثارت العاملات، وواحدة منهن في إحدى مرات التفتيش، ضربت مشرف الأمن على وجهه، وبعدها اشتكين للإدارة، والتي أرغمت المشرف على الاستقالة، كما نقلت اثنين آخرين إلى المخازن، لكن الواقعة كما تقول “هدير” لم تأخذ شكلًا رسميًا، خوفًا من الإدارة على سمعة المصنع.

“ضحى” متزوجة وأم لطفلين، تعمل بمصنع للملابس الجاهزة، تروي واقعة ليست بعيدة عما تعرضت له “هدير”، فتقول: “أعمل بقسم التفصيل على ماكينة خياطة، المشرف تعود أن يأتي إلى مكان عملي مدعيًا إبداء ملاحظات على العمل، ثم يستند بيده على الطاولة التي أعمل عليها، ملامسًا بكوعه صدري وكتفي”.

تلويث السمعة

وعن رد فعلها تقول “ضحى”، إن المشرف يكرر هذا مع أكثر من عاملة لكنهن لا يستطعن التكلم، لخوفهن من عدم تصديقهن من قبل الإدارة، خاصة أن هذا المشرف مقرب لصاحب العمل والمديرين، إضافة لما يمكن أن يفعله من اضطهادهن في العمل وتوقيع جزاءات وخصومات عليهن، كما أنهن يخشين من تلويث سمعتهن.

مسألة تلويث السمعة ليست مجرد هاجس لدى العاملات، فما حدث لـ”آلاء” قبل سنوات، يخبرنا بفظاعة ما يمكن أن يحدث لهن إذا تحدثن أو اشتكين عما يتعرضن له من تحرش.

تحكي “آلاء” ما تعرضت له لـ “مصر 360” فتقول: “كنت أعمل مديرة صالة بمصنع متوسط الحجم للملابس بدار السلام، وكان محاسب المصنع يحاول التقرب لي بأشكال غير مريحة، وكنت أصده دائمًا”.

 

اقرأ أيضأ:

التحرش في عالم كرة القدم.. وقائع مشينة أبطالها نجوم بارزون

 

تستكمل “آلاء”: “طبيعة شغلي مديرة صالة تخليني أدرى الناس بمشتريات الخامات اللي تتماشى مع شغلنا، فكنت أحب أنزل بنفسي أجيبها، فالمحاسب عرض على صاحب الشركة اللي دايمًا كان متواجد معانا، إنه يوصلني بعربية الشركة وأنا بشتري الخامات علشان يعرف يستلم الفواتير وما تضيعشي، وبالفعل نزلنا، ما طلعشي من طريق العتبة طلع على المقطم، وقف العربية ونيم الكرسي لورا ونام عليه، شدني ناحيته وحاول يقلعني لبسي، كنت لابسة عباية وكنت لابسة طرحة قلعها لي، فضلت أصرخ لحد بائعي المشروبات سمعوني فطلع بالعربية”.

“خفت اشتكي، بس سكوتي خلاه يتمادى”، أدركت “آلاء” هذه الحقيقة، بعد أن شرع “المتحرش” في اضطهادها مراتٍ عن طريق شكواها لصاحب المصنع زعمًا منه بسوء إنتاج الصالة المسؤولة عنها، وأخرى بتعطيل الماكينات في الصباح، قبل بداية العمل بغرض تأخيرها عن بدء العمل، وبالتالي ضعف إنتاجية المجموعة التي تديرها.

 

تضيف “آلاء”: “بعد فترة جاء واعتذر لي، وظننت أن المسألة انتهت، لكنه بعد أيام من اعتذاره أرسل لطلبي بدعوى مراجعتي في بعض الحسابات، فذهبت إلى مكتبه، وبمجرد دخولي أغلق الباب ورفعني لأعلى محاولًا تجريدي من ملابسي، خِفت أن أصرخ، لكني تمالكت أعصابي ودفعته وضربته بكف يدي على وجهه، ففتح لي الباب مهددًا “مش هتقعدي فيها”.

وتستكمل: “طلع إشاعة إني عملت معه علاقة، سيرتي بقت على كل لسان في المصنع العاملات بعدوا عني ومابقوش يسمعوا كلامي في الشغل، ولما حكيت للمديرة المباشرة قالت لي يبقى انتي اللي اديتي له الفرصة، ما أقدرتش أتحمل والمصنع بقي جحيم فمشيت من الشغل”.

 دراسات

توصلت دراسة أجراها مرصد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للنساء في العمل بمؤسسة المرأة الجديدة، تحت عنوان “التحرش الجنسي في أماكن العمل” عن وقوع النسبة الأكبر من التحرش اللفظي والجسدي لعاملات القطاع الخاص، ومنها حالات تصل للاغتصاب وقد تقع حالات منها خارج أماكن العمل ولكنها تكون امتدادٍ لنطاق وظروف العمل.

 

اقرأ أيضا:

كُره الجسد ورفض العلاقة الجنسية.. مصير الفتيات بعد التحرش

 

كما أشارت الدراسة إلى تباين ردود أفعال ضحايا التحرش داخل العمل تجاه ما يتعرضن له، لكن النسبة الأكبر منهن يفضلن السكوت وتجنب المتحرش، خوفًا من عدم تصديقهن أو تلويث سمعتهن، كما أكدت الحالات التي أُجريت عليها الدراسة: “أن الرؤســاء فــي العمــل يعرضــون بشــكل مباشــر مطالــب جنســية، وفــي حالــة رفــض النســاء ذلــك يتعرضن لضغــوط، منهــا المعاملــة الســيئة أو إضافــة أعبــاء عمــل مضاعفــة أو الخصومــات والتهديــد بالفصــل مــن العمــل، ويصــل الأمــر إلى أن تُجبــر العاملــة علــى تــرك العمــل خاصــة فــي القطــاع الخــاص”.

  

مكافحة العنف

 في عام 2015 أُطلقت “الاستراتيجية الوطنية لمكافحة العنف ضد المرأة 2015 – 2020″، لاقى الإعلان عن إطلاق الحكومة المصرية للاستراتيجية ترحيبًا كبيرًا من المؤسسات العاملة في مجال قضايا المرأة، ولكنها مع ذلك واجهت منذ اللحظة الأولى لانطلاقها انتقادات شديدة فيما يتعلق بعجزها عن تبني تعريفات للظاهرة تسمح بإدراك مداها الحقيقي، إضافة لغياب اللغة الحقوقية عن تعريفات أشكال العنف الذي تتعرض له النساء خاصة العنف الجنسي، والاقتصار على تعريفات قانون العقوبات المصري والتي يغلب عليها اللغة الأخلاقية التي لا توفر الحماية لضحايا الاعتداءات الجنسية، كما تعرضت الاستراتيجية بعد ذلك لانتقادات واسعة لعدم تقديم المجلس القومي للمرأة تقارير دورية حولها وغياب آليات المتابعة وشفافية الإعلان.

الحد من الظاهرة

يبقى الحد من الاعتداءات الجنسية داخل العمل مرهونًا بعوامل كثيرة منها وضع المرأة داخل قانون العمل خاصة في القطاع الخاص وحقها في الحديث علنًا وتقديم الشكاوى الإدارية والقانونية من الاعتداءات الجنسية التي تتعرض لها مع ضمان عدم اضطهادها وملاحقتها من رب العمل ومديريها المباشرين عقابًا على شكواها، لكن ذلك لا يمكن أن يحدث في ظل قوانين تهدر حقوق العمال ككل وتطلق يد أصحاب الأعمال في تشريدهم، كما يجب أن تضمن قوانين تنظيم علاقات العمل، إلزام أصحاب الأعمال بتنظيم دورات وورش للعمال والعاملات حول مكافحة التمييز والعنف ضد المرأة ومن ضمنه العنف الجنسي، وهو دور أيضًا منوطة به النقابات العمالية عامة ومستقلة.

 *أسماء الضحايا الواردة في التقرير مستعارة استجابة لطلبهن