برزت ظاهرة التحرش في مصر على نطاق واسع خلال السنوات العشر الأخيرة، حيث كشفت دراسة للمركز المصري لحقوق المرأة عام 2010 أن نسب التحرش في مصر بلغت 83%.

لكن دراسة للأمم المتحدة في عام 2013 أكدت أن 99.3% من النساء المصريات يتعرضن لصورة من صور التحرش المختلفة، من تحرش لفظي وجسدى وجنسي، وهي نسبة تضع مصر في صدارة دول العالم في معدل تعرض النساء للتحرش بوجه عام.

انتشرت ظاهرة التحرش عالميًا، وأصابت العديد من الدول، حتى الدول العربية والإسلامية أصبحت تحظى جميعها بترتيب متقدم في نسب التحرش، ومنها باكستان وأفغانستان واليمن، ويشاركها الكثير من الدول الفقيرة مثل بنجلاديش ونيجيريا والهند.

وأعلنت هيئة الأمم المتحدة أن “امرأة من كل ثلاث نساء تتعرض لشكل من أشكال التحرش على الأقل مرة واحدة في حياتهن”، ووفقًا لمبادرة “سيف سيتى”، فإن: “الهند من أكثر المناطق خطورة من حيث التحرش في العالم، تليها باكستان وفقًا لعدد الشكاوى المتقدمة من السيدات وتعرضهن للتحرش”.

وفي ترتيب عالمي لنحو 24 دولة جاءت السعودية في المرتبة الثالثة، وتم تصنيف أفغانستان على أنها “أحد أخطر دول العالم في التحرش”.

وتعاني أغلب الدول من ظاهرة التحرش، حيث أكدت أحدث الإحصائيات والتقارير الأممية أن 1 من كل 4 نساء في أمريكا الشمالية قد تعرضت للتحرش الجنسي خلال حياتها.

وسجلت الدنمارك نسبة مرتفعة في التحرش تقدر بنحو 52%، وهي النسبة الأعلى في أوروبا، بينما سجلت نسبة التحرش في إثيوبيا 71%، وسجلت بنجلادش نحو 57 %، بينما سجلت كمبوديا نحو 77 % والهند سجلت نسبة التحرش فيها نحو 79 %، وفيتنام 87 %.

 

ثقافة التحرش في مصر

التحرش في مصر جزء من السياق الاجتماعي المقبول، لكن درجة العنف فيه تزايدت في السنوات الأخيرة، ويرتبط بدرجة كبيرة بدور الدولة في مواجهة الظاهرة، في الستينيات كان لباس المرأة لا يُستخدم مبررًا للتحرش، وكانت الدولة تسعى لحماية النساء وتشجيعهن على الخروج لسوق العمل وتوفير بيئة آمنة لهن للمشاركة في التوسع الصناعي ضمن خطط الدولة للتنمية.

مع تراجع مشروع مصر التنموي في السبعينيات وارتفاع معدلات البطالة، بدأ تحريف أسباب الأزمة واختزالها في “سبب أخلاقي” ووضع المضطهدين في صراع مع بعضهم البعض بدلًا من توحدهم ضد السبب الرئيسي للأزمة، تواكب ذلك مع صعود التيارات الإسلامية منذ مطلع السبعينيات مع الطفرة النفطية في الخليج.

قدم التيار الإسلامي أسبابًا للأزمة، وهي ببساطة “فساد أخلاق المجتمع” ومظاهره بسيطة للغاية وهي “خروج المرأة للعمل” لأن مكانها “الطبيعي” هو المنزل، وأصبحت المرأة “مصدرًا للفتنة” بتواجدها خارج المنزل، وهي أيضًا السبب في بطالة الشباب لأنها تنافسهم في سوق العمل.

الزي وتأثيره على المتحرش

كشفت دراسات استقصائية لمؤسسات حقوقية “أن أكثر من نصف المصريين، رجالا ونساء، يعتقدون أن خروج المرأة بملبس كاشف هو فقط السبب في التحرش، لأنها بهذا الشكل تنادي المتحرشين عن قصد منها، ليس ذلك فقط، بل كان الاستقصاء نفسه قد أشار إلى أن نصف الرجال في العينة يتصورون أن التحرش يجد قبولًا لدى الفتيات لأنه يجعلهن يشعرن بأنهن لافتات للانتباه، من جديد إلقاء اللوم على الضحية أو أيضًا إنها ليس فقط ترحب بل ترغب في انتهاكها”.

 

اقرأ أيضًا:

“سيكولوجية المتحرش”.. مريض يجهل “الحدود الجسدية”

 

وتكشف دراسة أخرى للأمم المتحدة، “أن النسبة الأكبر من حالات التحرش تميل ناحية هؤلاء اللائي لم يضعن مساحيق تجميل، بينما اللائي وضعن مساحيق تجميل تعرضن إلى درجات أقل من التحرش، لا يعنى ذلك أن مساحيق التجميل تمنع التحرش بالطبع، لأن معايير التحرش كثيرة ومعقّدة، لكنه يشير إلى أن مسببات التحرش تميل بشكل أكبر إلى جوانب أخرى معقّدة، فقد يكون الملبس كاشفا لكنه يعطي انطباعا بأن تلك الفتاة تابعة لعائلة قوية قادرة على سحل المتحرش قانونيا، لذا فإن التحرش أقل انتشارا في الأماكن الراقية، والتي يبدو أنها محكومة جيدا، من جهة أخرى فإنه قد يكون مرتبطا بالحالة الاقتصادية”.

يتجاهل منطق الزي أن أغلب من يتم التحرش بهن من المحجبات بل والمنقبات، وأن التحرش يتزايد في الأحياء الشعبية، حيث تبدو الأزياء أكثر تحفظا من المناطق المتميزة، وتكشف دراسة للمركز المصري لحقوق المرأة أن  72% من المتحرش بهن محجبات أو منتقبات “لأن النسبة الأكبر من سيدات مصر محجبات بطبيعة الحال”، الأمر الذي يقف على النقيض من تصورات شائعة في المجتمع المصري عن طبيعة التحرش، فهو بالأساس آلية اعتداء وفرض سلطة وليس فعلًا جنسيًا فقط، لذلك غالبًا ما يستهدف الأشخاصُ الذين يرتكبون العنف الجنسي الأفرادَ الذين يبدون أنهم عُرضة للخطر بسبب الفقر أو الجنس أو العمر أو العِرق أو الإعاقة”.

 

عقوبات التحرش حول العالم

تنوعت طرق التعامل مع المتحرش حول العالم، فبعض الدول وصلت لمرحلة متقدمة تمثلت في “إخصاء المتحرش” ودول أخرى اكتفت بالحبس والغرامة وغيرها لازالت تفكر في آلية التعامل معه.

التشيك

من أسوأ العقوبات التي تراها في عقوبة التحرش هي ما يحدث في هذه الدولة، فقد وصل الحكم على المتحرش إذا ثبتت عليه الجريمة الى حرمانه من ذكورته وعضوه الذكري مدى الحياة، وذلك من خلال إجراء إخصاء جراحي أو كيميائي، ما دفع الكثير من الدول أن تقوم بالعمل بهذا القانون أيضا مثل كوريا الجنوبية وروسيا.

إندونيسيا

في عام 2015، وقع رئيس إندونيسيا مرسومًا يجيز اللجوء إلى عمليات إخصاء كيماوية؛ لمعاقبة من يعتدون جنسيًا على الأطفال.

الولايات المتحدة الأمريكية 

عقاب المتحرش قد يصل للسجن مدى الحياة، بل ويكون في انتظاره أيضًا غرامة مالية كبيرة تتعدى ربع مليون دولار أمريكي، سعيًا لمنع التفكير في هذا الفعل.

فرنسا

هناك قانون جديد يتعلق بالتحرش الجنسي يتضمن فرض عقوبات أشد على المدانين به، ويرفع النص الجديد عقوبات التحرش إلى سنتين حبس و30 ألف يورو غرامة، مع إمكانية تشديد العقوبات في بعض الحالات، كأن يمارس التحرش الجنسي على شخص في وضعية حرجة، لتصل العقوبة إلى ثلاث سنوات وتصل الغرامة إلى 45 ألف يورو.

إيطاليا وسويسرا

زاد العقاب بالسجن في هذين البلدين بشكل قد يضمن تقليل التحرش الجنسي إلى حد ما، فقد تشاركت إيطاليا وسويسرا في قانون عقوبة المتحرش الجنسي بالحبس لمدة عشر سنوات، للحد من ظاهرة التحرش الجنسي السيئة.

تونس

من الدول التي تصدت للظاهرة بحسم وبإجراءات من الدولة تمنع مختلف أوجه التمييز بين الرجل والمرأة، منها تشديد العقوبات وتغيير قوانين الأحوال الشخصية التي تحط من قدر النساء.

 

قهر الضحايا

كثيرا ما تكون ردود الفعل على حوادث التحرش هي إلقاء اللوم على الضحية مثل “ايه اللي وداها هناك” و”لبسها مستفز وغير لائق” و”حد يفضح نفسه كده” و”اشمعني هي اللي اتكلمت.. ما ده بيحصل لكل النساء وبتسكت”.

مقاومة الضحية ورفضها للانتهاك تضع المجتمع في مأزق الاعتراف بجذور المشكلة ويفضح المتواطئين معها، فالرجل الذي يربي ابنته على أنها “عار” وكل هدفه هو التخلص منها بإعطائها لرجل آخر لتحمل مسئوليتها، والمرأة التي تربي أبنائها الذكور على حقهم في التلاعب بالنساء وأنهم رجال لا يعيبهم شيء وأن البنت هي المخطئة دائمًا، يؤرقهم مشهد فتاة تدافع عن نفسها وتفضح التحرش، وللحفاظ على “السلام النفسي” وقدرتهم على التعايش تصبح الرافضة للانتهاك خطرًا عليهم شخصيًا، وتهديدًا لمنظومة “الأمن” المجتمعي التي يعيشونها ويعيدون إنتاجها في محيطهم بالترويج لها وتربية أبنائهم عليها.

 

اقرأ أيضًا:

“رسائل وصور وإيحاءات”.. أضرار التحرش الإلكتروني تفوق الجنسي

 

وقد يبدو غريبًا أن نجد النساء أكثر عنفاً في مواجهة المرأة حين تفضح التحرش وترفضه، وهي هنا حين تهاجم الضحية تدافع عن نفسها التي تعرضت للتحرش كثيرا ولم تستطع اتخاذ نفس الموقف، وهنا يصبح الأمر مهينًا لها في حالة حصول الضحية على تشجيع المجتمع أو حصولها على حقوقها من المتحرش، ويتحول الأمر إلى “هي عاملة نفسها أحسن مننا.. ما كلنا بنسكت” وما يعنيه ذلك في حال حصول الضحية على المساندة المجتمعية بما يعني أن صمتها هي في السابق يعني موافقة ضمنية على التحرش بها وما يسببه ذلك من احتقار للنفس، والاسهل هنا هو إلقاء اللوم على الضحية لنصبح “لبسها هو السبب” أو أي سبب آخر المهم “نبقى كلنا زي بعض”.

مشكلة التحرش في مصر ظاهرة تستحق التوقف عندها، ورغم أن استجابة الدولة وتغليظ عقوبات التحرش وتخصيص قطاع شرطي لمواجهة الظاهرة خلال الأعياد، يحتاج الأمر إلى تغيير مجتمعي حقيقي في النظر للمرأة وتغيير الصورة النمطية المتدنية والتي تنظر اليها كأنثى وفقط، وربما تساهم حملات الضغط من خلال التوعية والدعم للضحايا في إحداث هذا التغيير، من خلال الرافض للتحرش بكل أشكاله سواء في الشارع أو بيئة العمل، ويمكن أن نلمس ذلك التغير الجزئي في الجدل الأخير حول أغنية “عشان تبقي تقولي لا” لتميم يونس، والتي واجهت حملة مضادة تحمل الشعار العالمي “لا يعني لا”.