لم تتوانى تركيا عن اتخاذ أي إجراء من شأنه إيذاء الشعب السوري، منذ بداية الحرب في البلاد عام 2011، كما لم تدّخر وسيلة إلا واستثمرتها حتى وإن كانت النتيجة عطش الآلاف من الأطفال والنساء، ضاربة عرض الحائط بكل الأعراف والقيم الإنسانية.

سيناريو 2013 يعيد نفسه اليوم، حيث عاشت مدينة حلب حينها، أشهرًا طويلة من العطش الذي لا يمكن أن يمحى من ذاكرة أطفال عاصمة الشمال، وحينها أكد “أيقنت جمركجي” الناطق باسم الخارجية التركية، أنه ليس في حسابات بلاده معاقبة ما وصفه حينها بـ “الأشقاء السوريين”، إلا أن الكلام شيء، والفعل الذي جرى آنذاك كان شيئًا آخر.

في تقرير خاص من سوريا لـ مصر 360، يؤكد المحلل السياسي والعسكري الدكتور كمال الجفا، أن “تركيا تحاول استخدام المياه كورقة لابتزاز جيرانها، خاصة الأكراد في سوريا، فغالبًا ما تلجأ إلى قطع مياه نهري دجلة والفرات بصفة متكررة وقد بنت عدة سدود على النهرين، وهو ما يؤثر على حصص المياه القليلة التي تصل إلى كل من سوريا والعراق”.

 

ففي سوريا، أدت السدود التي بنتها وتبنيها تركيا على نهر الفرات إلى تراجع حصة السوريين من النهر، إلى أقل من ربع الكمية المتفق عليها دوليًا، وهي مستويات غير مسبوقة، ومن أبرز تلك السدود، سد “أتاتورك” في محافظة أورفا التركية، والذي يعد أكبر سد في البلاد، فيما لا يختلف الوضع كثيرًا بالنسبة للعراق فقد ساهمت الممارسات التركية في تراجع مستوى نهر دجلة بشكل كبير عبر سد “إليسو” الضخم الذي بنته تركيا على النهر، ما تسبب في انخفاض حصة العراق من مياه النهر، حيث قد يصل التراجع إلى نسبة 60% بسبب تشغيل مولدات الكهرباء على هذا السد.

نقض القوانين الدولية 

تتعارض ممارسات تركيا بشأن مياه نهري دجلة والفرات مع القوانين الدولية، خاصة الاتفاقيتين الدوليتين لعامي 66 و97 من القرن الماضي، وأيضًا مع الاتفاقيات الثنائية التي وقعتها مع سوريا والعراق، إلا أن الخلافات السورية التركية حول تقاسم المياه قديمة فعليًا، وهي من ضمن عشرات الخلافات المتراكمة بين البلدين.

ويؤكد “الجفا” أن “تركيا تقوم بقطع المياه عن دول الجوار ليس بسبب حاجتها للمياه أو أنها تعاني من جفاف في منطقة ما، فهي من أكثر بلدان العالم غنىً بالمياه، لكن منذ العام /1978/، وضعت تركيا نصب أعينها استخدام المياه كسلاح أساسي في مواجهة جيرانها”.

 

حرب مياه “مبطنة” تنفّذها أنقرة

ويضيف المحلل كمال الجفا، بحسب معلومات وردت إليه، أن “لقاءً قديمًا تم في دمشق بين تورجوت أوزال الرئيس التركي الأسبق، برفقة عدد من وزراء الداخلية والخارجية والأمن العام والاستخبارات، مع القيادة السورية، وقسم كبير من بنود القمة آنذاك كان أمنياً، من خلال المطالب التركية الأمنية الواضحة، حيث فرضت أنقرة حينها على سوريا مقابلًا لضمان تدفق 5.75 مليار متر مكعب من المياه إلى سوريا والعراق بشكل متساوي، كما تضمنت الاتفاقية في بنودها عدة مطالب وتهديدات تركية مبطنة للجانب السوري”. 

 

اقرأ أيضا:

“النقود ترسم الحدود”.. الاقتصاد بوابة تركيا لإخضاع الشمال السوري

 

وأردف “الجفا”: “أن البعد السياسي للمياه في تركيا بدأ منذ عام 1986 عبر مشروع أنابيب السلام، والذي يتضمن بيع المياه للدول العربية وحتى منطقة الخليج العربي ضمن خطين، الأول يصل إلى حماة بسعة تُقدّر بستة ملايين متر مكعب يوميًا من نهري سيحان وشيحان في هضبة الأناضول، ويوزع المياه على المحافظات السورية حلب، حماة، حمص، دمشق، وصولاً إلى الأردن والسعودية”.

أما الخط الثاني، والذي تصل سعته إلى 2.5 مليون متر مكعب يومياً فينقل المياه إلى الكويت وشرق السعودية، وصولاً إلى البحرين وقطر والإمارات وعمان”، حيث تضمنت تصريحات المسؤولين الأتراك أن هذه الخطوط المائية ستؤمن وحدة جغرافية وسياسية.

إذاً سلاح المياه الذي تعمل به تركيا بالتوافق مع أسلحتها الأخرى ضد دول المنطقة ليس بالأمر الجديد، وعمليات قطع المياه التي تقوم بها تركيا حالياً تجاه مناطق شمال سوريا هدفها الضغط على الأطراف الفاعلة في الأرض السورية، كما أنها رسالة للقادة الأكراد بقدرتها على شل كل سبل الحياة في الجزيرة العربية من جهة، ورسالة إلى الحكومة السورية بأنها قادرة على شل حركة المناطق الحضارية في حلب وحماة وإدلب وجعل معظم أفراد الشعب السوري يعانون من العطش.

إجرام عثماني متأصل 

مسألة قطع المياه تعني إلى حد كبير شل القدرة المعيشية في أجزاء واسعة من سوريا والعراق، وإدخال المنطقة في دوامة حرب تجويع جديدة سيكون لها تأثيرات ضخمة على كل مكونات الشعب السوري ولقمة عيشه، وقد تكون سوريا أمام موجات هجرة جديدة لا تقل خطورة عن موجات الهجرة التي شهدتها مناطقها خلال السنوات السابقة، هرباً من النصرة وداعش، وحملات التطهير العرقي التي رافقت الاجتياحات التركية لبعض المناطق السورية في الشمال، على غرار حملات التطهير العرقي الأخرى التي نفّذتها “قسد” ضد معظم المكونات العربية والآشورية والسريانية. 

 

“حرب المياه” مستمرة فما الحل؟ 

يؤكد “الجفا” في حديثه، أن تطبيق اتفاقيات ملزمة لجميع الأطراف لتقاسم عادل للمياه بما يؤمّن حاجة شعوب دول المنطقة، لن يتم إلا بمؤتمر إقليمي أو دولي يفرض بالدرجة الأولى إنهاء الحرب الدائرة في سوريا، وإيجاد حلول لكل المشاكل التي نتجت عن الحرب على سوريا والعراق خلال السنوات الماضية بالدرجة الثانية، علمًا أن غياب المراقبة الدولية لخرق الاتفاقيات الثنائية سيسمح لتركيا باستخدام الماء كأداة في الحرب ضد سوريا والعراق.

 

اقرأ أيضا:

“التحقيق الدولية ” : مستويات “غير مسبوقة” من المعاناة والألم في سوريا

 

ويوضح “الجفا” أن ما تفعله تركيا مناف للأخلاق، فهي تعتبر الماء سلعة تجارية، وهذا ما يخالف القانون الدولي، حيث إن الاتفاقيات الدولية تشدد على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار احتياجات الدول من الماء وتحظر على تركيا، في هذه الحالة، اتخاذ أي إجراء من شأنه الإضرار بتلك الدول، والحديث عن سوريا والعراق”، مضيفًا: “ورقة المياه تضاهي ما تقوم به تركيا من دعم للمجموعات الإرهابية في إدلب، فهي تطمح لسيادة المنطقة، وأعتقد أن تركيا لم تكن لتجرؤ على ذلك لولا الوضع الدولي الهش الذي تعانيه كل بؤر التوتر والصراع في منطقتنا”.

 

الماء حرب المستقبل

ترتبط مسألة الغذاء ارتباطًا وثيقًا بكمية المياه المتوافرة، وتعتبر ذات أهمية حيوية، وعندما تخفت أصوات البنادق وطبول الحرب في المنطقة سيطغى الصراع على المياه في حوضي الفرات ودجلة، حيث سيكتسب النزاع السوري -التركي- العراقي حول مياه نهري دجلة والفرات بعدًا دوليًا، لتصبح المياه السلاح الفعال الأشد خطورة من الرصاص، ومن المتوقع أن تعتمد أنقرة على خزان سد أتاتورك في تركيا، سلاحاً بيد حكومتها للضغط على كل من سوريا والعراق، حيث يتضمن مصطلح “حرب المياه” في شرق البحر المتوسط استعمال المياه كسلاح رئيسي من أجل السيطرة على المنابع، أو تحويل المياه إلى سلعةٍ تجاريةٍ تتحكم فيها دول المنبع القوية لتحقيق أهدافها السياسية.