أشعر بيديه تتسلق جسدي، بأنفاسه تمتص هواء الغرفة لتحولها إلى صندوق مغلق ملقىً في أعماق بئر، يضيق الصندوق مع كل ثانية تمر من “كابوسي” اليومي، يضيق ويضيق، حتى يسحق عظامي. الصندوق اللعين ظل مصاحبًا لـ “إيمان”، مهندسة الديكور ذات الـ 32 سنة، طيلة 3 سنوات مرت على واقعة التحرش بها.

 يعاني ضحايا التحرش والاغتصاب، من أزمات نفسية ضاغطة تستمر لسنوات، ويتعاظم أثر هذه الأزمات، في الوقت الذي تشهد فيه مراكز التأهيل النفسي لضحايا الاعتداءات الجنسية في مصر نقصٍ شديد، وضعف إمكانياتها الفنية والمادية.

تحكي إيمان لـ “مصر 360” عن سر صندوقها فتقول: “تعرفت على رجل “خمسيني” عند صديق مشترك، وكان يظهر عليه الوقار، ولمَا علم بطبيعة عملي دعاني لرؤية شقته بالشيخ زايد بمدينة أكتوبر، بحجة أنه يرغب في تغيير ديكور الشقة، ولا يريد اللجوء لمكاتب الديكور والتي تغالي في أسعارها”.

وتستكمل إيمان: “ذهبت معه وأثناء تجولنا في الشقة هجم عليَّ امتدت يديه لتتحسس صدري وشعري وظهري، وأنا أحاول مقاومته، كنت خائفة من الصراخ، تخيلت أن من سيسمعنا سيأتي لمشاركته فعلته، لمساعدته في إخضاعي، لا لنجدتي، دفعته وجريت، تعرقلت في صندوقٍ خشبي مملوء بزجاجات فارغة، كان بجوار الباب، لكني لم أقع، استندت على الباب وفتحته بسرعة وواصلت الجري على سلم العمارة حتى باب سيارتي، التي لا أعلم كيف استطعت قيادتها حتى شقتي بشارع الهرم”.

وتضيف إيمان: “عندما صعدت إلى شقتي، وفتحت باب الشقة، تحسست طريقي في بطيء إلى غرفتي، حتى لا أُوقظ أمي، دخلت الغرفة، غيرت ملابسي، وتمددت على سريري باكية، حمدت الله، لم أصدق أنني نجوت من ذلك الحيوان، لكني كنت مخطئة، فلم أنجو بعد، بل لم أنجو أبدًا، فما لحق بيَّ أتى حتى غرفتي جاء يكمل فعلته، هذه المرة لم أستطع الإفلات، وبعدما انتهى، كومني بين يديه كبقايا عشاءه، ووضعني في صندوقه الخشبي وأغلقه جيدًا ثم ألقى به في منور العمارة.

 لم تدرك إيمان أنه كابوسًا إلا حين استيقظت شاهقة تحاول التقاط أنفاسها، استطاعت بالكاد التنفس، لكنها لم تستطع التخلص من الكابوس فقد ظل يحاصرها طيلة 3 سنوات ليس فقط خلال نومها بل وهي مستيقظة وسائرة وسط الناس.

عدم الرغبة في الكلام

تروي إيمان، ما جرى لها بعد 6 أشهر من الواقعة، عندما ذهبت مع صديقتها – الوحيدة التي حكت لها ما تعرضت له – لاستلام طردٍ من إحدى الشركات، وكيف صرخت منهارة وهي ممسكةً بذراع صديقتها، حينما رأت صندوقًا خشبيًا يحمله عمال الشركة.

نصحتها صديقتها بعد هذه الواقعة بالذهاب إلى طبيب نفسي، لكنها لم تستمر معه كثيرًا فقد شعرت أنه لا يساعدها بالشكل الذي تحتاجها، فجربت آخر ولازمها نفس الشعور، فأغلقت كما تقول، “هذا الطريق تمامًا”، كما لم تبحث عن مراكز للتأهيل النفسي، لعدم رغبتها في الكلام ومشاركة ما تعرضت له في دوائر واسعة، حاولت “إيمان” أن تعيش حياتها بشكل طبيعي، لكن الصندوق اللعين أفسد خِطبتين ومشروع علاقة عاطفية.

 

تأثير مدى الحياة

فيما يتعلق بامتداد الأثر النفسي للاعتداءات الجنسية على الضحايا، يقول الدكتور محمد شفيق، استشاري الطب النفسي، لـ “مصر 360”: “نَعتبر الصدمات التي تحدث نتيجة التحرشات أو الاعتداءات الجنسية من أشد المشكلات والاضطرابات النفسية في مجال الطب النفسي، وتأثير هذه الاعتداءات هو تأثير مدى الحياة، مهما حدث من تأهيل أو علاج، فكل ما نحاول فعله هو تقليل حجم هذا التأثير وضرره”.

 

اقرأ أيضا:

التحرش الجنسي.. ظاهرة عالمية ترفض الانحسار

 

ويضيف شفيق: “من أشهر الأشياء التي تحدث لضحية الاعتداءات الجنسية، “فلاش باك” على أشياء مرتبطة بالحادث الذي وقع لها، أو الوقت الذي وقع فيه الاعتداء عليها، تفاصيل صغيرة تعيدها لذكرى الحادثة كأنها تعيشها من جديد، حتى لو مر عليها سنوات، وهو ما نطلق عليه المحفزات” موضحًا: “المحفز يمكن أن يكون شيء عادي جدًا، فمثلًا أن ترى الضحية في الشارع قطة، تكون شبيهة لقطة كانت  في المكان الذي تم الاعتداء عليها فيه، أو أن تشتم رائحة شبيهة لرائحة “البرفِان” الذي كان يضعه الجاني وقت الاعتداء، فالمحفز يمكن أن يكون أي شيء في البيئة تراه الضحية بعد شهور أو سنوات، فيستثير في الضحية نفس الصدمة بكل تفاصيلها وآلامها وكل الآثار المترتبة عليها، وهذا أمر يجعل عملية علاج الاضطرابات التي تحدث نتيجة الاعتداءات الجنسية صعب جدًا.

علاج نفسي طويل

ويستكمل شفيق: “علاج هذه الصدامات يستلزم علاج نفسي طويل ومرهق جدًا سواء للضحية أو للفريق المعالج، فعادة يحتاج العلاج فريق كامل وليس طبيب واحد، وتلعب الأدوية دور محدود في عملية العلاج، لكن التدخل الأكبر يكون تدخل نفسي، ويحتاج في المرحلة الأولى من سنة لثلاث سنوات، وكما قولنا الهدف تقليل الآثار وتحويل الضحية لناجية ولكن الأثر يستمر معها طوال حياتها فلا يمكن أن ينتهي أثر ما حدث بشكل كلي.

نقص مراكز التأهيل

وعن حال مراكز التأهيل النفسي لضحايا الاعتداءات الجنسية في مصر، يقول “شفيق”  لدينا في مصر نقص شديد جدًا في مراكز تأهيل ضحايا الاعتداءات الجنسية، وهذا يجعل عدد كبير من الضحايا لا يصلون للرعاية الطبية النفسية من الأساس، والعدد الموجود من هذه المراكز يواجه ضغوطٍ كبيرة، نتيجة لمحدودية عدد الأطباء  المؤهلين للعمل على هذا النوع من العلاجات، وسط الكم الكبير من التحرشات والاعتداءات التي تتعرض لها السيدات في مصر، فمن ناحية هناك نقص في المراكز و الكوادر الطبية المؤهلة، ومن ناحية أخرى هناك صعوبة في العلاج وتطلبه فترات زمنية طويلة، إضافة لغياب دور الدولة في التدخل لدعم مثل هذه العلاجات وتوفير الإمكانيات المادية والقانونية وتدريب وتأهيل  الكوادر الطبية”.

ويرى استشاري الطب النفسي، أن التدخل في عملية تأهيل ضحايا الاعتداءات الجنسية يحتاج لعمل مؤسسي تقوم به مؤسسات الدولة ويدخل في خططها الاستراتيجية، فأثر هذه الاضطرابات من أكثر الأشياء التي تهدر الطاقة البشرية، لأنه يسبب إعاقات نفسية تستمر مدى الحياة.

 

أسباب النقص

وترجع الدكتورة ماجدة عدلي، إحدى مؤسسي مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، نقص المراكز المهتمة بعملية تعافي النساء من الصدمات سواءً كانت جنسية أو غيرها، إلى أنه تخصص نوعي يحتاج أن يكون القائمين عليه أطباء أو اختصاصين نفسيين، وهو ما ليس متاحًا، ما أدى إلى ضعف العدد الموجود وتركزه في القاهرة والإسكندرية، وربما تعاني الأقاليم من غياب كامل لمثل هذه المركز، فهي تعاني أصلًا من نقص الأطباء النفسيين بالمستشفيات.

 

اقرأ أيضا:

“من جوه المصنع”.. التحرش الجنسي بالنساء عرض مستمر وحلول هشة

 

وتضيف عدلي، لـ “مصر 360″، أن ثقافة المجتمع، تمنع وصول الضحايا إلى مراكز التأهيل، فالناس منذ اللحظة الأولى لوقوع حوادث التحرش يلقون باللوم على الضحية، أما الأهل فيعتبرون أن الفتاة المُتحرش بها تسببت في وصمهم اجتماعيًا والنيل من سمعتهم، وربما يعاقبونها بعدم السماح لها بالخروج أو حرمانها من الدراسة، هذه الوضعية التي فيها تواطؤ شديد من المجتمع مع الجاني تضع عبئًا نفسيًا كبيرًا على ضحايا الانتهاكات يمنعهم من الكلام أو البوح، وتدفعهم إلى الانغلاق على أنفسهم ما يفاقم من أزماتهم النفسية.

وتشير إلى إجماع المؤسسات التي تعمل في مجال قضايا المرأة ومناهضة العنف ضد النساء، إلى ضرورة وجود وحدة متكاملة العناصر داخل أقسام الشرطة خاصة  بقضايا العنف ضد المرأة، قائم عليها نساء بدءًا من ضابطات شرطة ووكيلة نيابة موجودة بالقسم أو يمكن استدعائها فورًا، إلى طبيبة شرعية،  لأنه في الكثير من قضايا الاغتصاب تضيع الأدلة الجنائية، كما أن تنقل الضحية بين قسم الشرطة والنيابة والطب الشرعي، وتكرار روايتها عن ما حدث لها لعدة مرات يعرضها لإنهاك نفسي شديد مضافًا لما تعرضت له من إنهاك جراء واقعة الاعتداء، ويجعل مسألة تعافيها تستغرق وقتًا أطول.

أزمة تشريعية

 ترى “عدلي”، أن هناك أزمة تشريعية، فعلى الرغم من تعديل قانون العقوبات للنصوص المتعلقة بجرائم الاعتداء الجنسي، هناك مشكلات تتعلق بتعريف هذه الجرائم كالتي تتعلق بتعريف جريمة الاغتصاب، وهو التعريف الذي يجعل الكثير من جرائم الاغتصاب يتم توصيفها كهتك عرض، ما يجعل العقوبة بالسجن أو بالسجن المشدد مدة لا تقل عن 7 سنوات إذا كان المجني عليه لم يتجاوز ثماني عشرة سنة، وليس الإعدام أو السجن المؤبد كما في جريمة الاغتصاب، مشيرة إلى خوض المؤسسات المعنية بقضايا المرأة معركة شرسة من أجل إقرار تعريف الاغتصاب الوارد في الاتفاقات الدولية والموقعة عليها مصر.

كما ترى ضرورة إضافة نصوص قانونية تقر عقوبات اجتماعية وتأهيلية للجاني إلى جانب العقوبة التأديبية، كعقوبة الخدمة العامة أو ما شابه، لإعادة تأهيل الجناة ودمجهم في المجتمع، مشيرة إلى أنهم طرحوا هذا في مشروع قانون العنف الأسري وقوبل بتهكمات شديدة.