رغم أننا تجاوزنا عقدين من القرن الحادي والعشرين لم يفلح ذلك في تغيير نظرة بعض التيارات الإسلامية المتشددة تجاه الحياة، رغم أن الإسلام من المفترض دين متطور بتطور الحياة، لكن لا تزال وجهة نظر المنتمين لتلك التيارات وكأنما يعيشون في عصر الجاهلية، فكل مخالف لعقيدتهم وفتاويهم دمه مهدور، وكل معارض لأفكارهم أو حتى يحاول مناقشتها كافر مرتد، وبدا وكأن الإسلام دينًا جديدًا من تفصيلهم دينا بحواجب كثة وعيون ملتهبة بالكراهية للآخر.

فرج فودة

السنوات الماضية أبرزت مشاهد عدة للتيارات الإسلامية الأصولية، فأضحى سهل أن يكفر المجتمع، وتقطع رقاب أولئك الذين ينادون بالتجديد، بعيدًا عن كل تلك التيارات الإرهابية التي تتخذ من فتاوى التراث “الباطلة” ذريعة لتدمير المجتمعات، وينكر المتشددون أنفسهم كونها جزءً من الإسلام، لكن الواقع الحقيقي مغاير لتلك النظرة، ففي 8 يونيو 1992، استفاق المصريين على خبر اغتيال المفكر فرج فودة، بعد أشهر قليلة من مناظرته “الفكرية” مع الأزهري محمد الغزالي، ومرشد الإخوان مأمون الهضيبي، والمفكر محمد عمارة، على يد اثنين من شباب الجماعة الإسلامية.

شباب الجماعة المتطرفة، استندوا على فتوى قتل المرتد، لأستاذ العقيدة بجامعة الأزهر محمود مزروعة، والذي قال في شهادته أمام المحكمة، أنه أفتى الشابين بأنه إن لم يقتل الحاكم المرتد يكون حكم قتله في رقاب عامة المسلمين، منوها بأن “فودة” أعلن رفضه لتطبيق الشريعة الإسلامية، ووضع نفسه وجنّدها داعيا ومدافعا ضد الحكم بما أنزل الله.

“فودة “واجه في نهاية مناظرته مع الغزالي، مع تحدث عنه، حين قال: “الفضل للدولة المدنية أنها سمحت لكم أن تناظرونا هنا، ثم تخرجون ورؤوسكم فوق أعناقكم؛ لكن دولا دينية قطعت أعناق من يعارضونها”، ليلقى قاتليه بعدها دعم الغزالي، والشيخ محمد متولي الشعراوي، ومحمد عمارة وآخرون من أعضاء جماعة الإخوان، وجبهة علماء الأزهر.

الواقع الديني، يبين أن حد الردة “ابتدعه” أبي بكر الصديق، بعد وفاة نبي الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، لمواجهة الخارجين من الدين بعد وفاة الرسول، وسمي هذا العام حينها بعام الردة، ورغم أن ذلك الحد لم يرد في القرآن والسنة في شيء إلا أن المتشددون اتخذوه قاعدة لمواجهة كل المخالفين بعدهم

رغم أن حد الردة “مبتدع” في الإسلام، وأنه لا يوجد أصلا نص قرآني يدل على قتل المرتد، بل أن أو من ابتدع هذا الحد في الإسلام كان الخليفة الأول للمسلمين أبي بكر الصديق، بعد عام من وفاة نبي الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وسمي هذا العام حينها بعام الردة.

أولاد حارتنا

وبعد عامين، واجه الأديب المصري نجيب محفوظ، مصير فودة، بسبب روايته “أولاد حارتنا”، لكن القدر أنقذه من محاولة الاغتيال التي تعرض لها، على يد 5 شباب أعمارهم بين 18 و22 عاما، مستندين أيضا على فتوى المزروعي الخاصة بجواز قتل المرتد على يد العامة، بسبب روايته “أولاد حارتنا”.

الشرارة الثانية التي فتحت الطريق لقتل محفوظ، كان المقال الذي نشر في جريدة النور، وربط فيه بين نجيب محفوظ وسلمان رشدي صاحب “آيات شيطانية”، والذي أصدر الخميني قائد الثورة الإيرانية، فتوى بإهدار دمه لكونه مرتداً عن الإسلام في 14 فبراير 1989، لينفذ الشباب جريمتهم رغم اعترافهما في التحقيقات أنهم لم يقرأ رواية “أولاد حارتنا”، وأنهما استندا على مقال من أحد الكتاب الذين قرأوها.

حسن شحاتة

فتوى الخميني، قوبلت بفتوى أخرى ولكن بعد حوالي 24 عاما، كانت سببا في مقتل أحد روافد الشيعة في مصر، وهو الشيخ حسن شحاتة، والذي قتله بعض المتشددين من أهالي قرية أبو مسلم في مركز أبو النمرس في محافظة الجيزة، وشقيقه واثنين آخرين ثم سحلوهم “حتى مدخل القرية.

مقتل شحاتة، الذي اعتقل مرتين في عهد الرئيس السابق محمد حسني، كان نتاج سنوات من التحريض ضد الشيعة بدعوى أنهم يسبون نبي الإسلام محمد بن عبد الله، وأصحابه وآل بيته، مستندين على فتوى ابن تيمية والتي يقول فيها: “إن سب الله أو سب رسوله كفرٌ ظاهرًا و باطنًا، وسواءٌ كان السابُّ يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل”، وقول الإمام أحمد “من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قُتل، وذلك لأنه إذا شتم فقد ارتد عن الإسلام، ولا يشتم مسلم النبي صلى الله عليه وسلم”.

الصوفيون

وعلى نفس المنوال، يواجه اتباع المذهب الصوفي في مصر، والذين لم يسجل ضدهم يوما تحريضا على العنف، أو حتى حاولوا يوما تعكير صفو جماعات الإخوان والسلفيين، لكن المتشددين دأبوا مرارا وتكرارا على تكدير سلمهم، وتهديدهم، ومنعهم من ممارسة طقوسهم الدينية التي تقتصر على “الذكر رقصا، والتبرك بقبور الصالحين”، مناجين ربهم بصوت خاشع، ويتشفعون بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن على شاكلتهم.

التوتر بين الصوفية والسلفية يتجدد مع كل مناسبة مرتبطة بالاحتفالات والمظاهر الصوفية، على غرار “الموالد” الخاصة بذكرى مولد آل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والذين وصفهم نائب رئيس الدعوة السلفية في مصر ياسر برهامي بـ “الغلو في الدين والشرك والبدعة”، ويتشارك الموقف نفسه أيضا جميع الجماعات السلفية وجماعة الإخوان الإرهابية، رغم

المرأة ملك يمين

كما اقتصر تفسير المتشددين من الإسلاميين لوجود المرأة في الحياة على كونها وعاء لرغباتهم، ومصدرا للفتنة، وأن وجودها يقتصر على أن تبقى حبيسة جدران منزل أبيها وزوجها، ولا يحق لها اختيار شيء، وأن حاولت إحداث تغيير خلاف ذلك، فهي مستباحة، وتتحمل ذنب تعرضها للتحرش والاغتصاب، ولم يفلح نجاح المرأة كطبيبة وعالمة ووزيرة في تغيير تلك النظرة، استنادا على جزء مما ورد في حديث نبوي في صحيح البخاري “ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”، وأن المرأة لو كان لها قيمة لما كرم الله الرجال في الجنة بمنحهم 70 من الحور العين.

ومع انطلاق أصوات تطالب بالمساواة بين المرأة والرجل في شتى مناحي الحياة، تعالت أصوات الأصوليين مرددين قوله تعالى “الرجال قوامون على النساء… الخ”، ليخرج بعضهم قائلا في تغريده له عبر حسابه بموقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، أن لو كان للمرأة رفعت في الشأن ما جعل الله الرجل يعتليها وقت النكاح.

 تفسيرات مشددة

أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، الدكتور أحمد كريمة، شدد على براءة الدين الإسلامي من كل ممارسات المتشددين، مبينا أن بعض الجماعات المحسوبة على الإسلام تتبنى مناهج متشددة، من خلال تأويل مغلوط للنصوص، واستشهادات باطلة، وأجندات غربية ينفذوها، مؤكدا أن تلك الفتاوى والتصرفات “شاذة” وليست من الإسلام في شيء.

وأكد “كريمة” أن المشكلة الرئيسية في انتشار تلك الأفكار هي التمسك بوجود أصحابها، فمثلا سمح لترشح رئيس حزب الحرية والعدالة السابق محمد مرسي في انتخابات الرئاسة عام 2012، ثم سمح لأصحاب التيارات المتشددة بالبقاء في الحياة السياسية، ما أعطاها شرعية في ممارسة أفعالها ونشر أفكارها، متعجبا من تمسك الدولة من استمرار تلك الجماعات في الحياة العامة، والسماح بممارساتها.

سد الذرائع

الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، ماهر فرغلي، أوضح أن التيارات الأصولية الدينية تستند طوال الوقت إلى قاعدة أساسية، تدفعها إلى ممارساتها العدوانية، تتمثل في “سد الذرائع”، بحيث يحاول منع أي شيء غير معتقده حتى لا يقع فريسة له، لتكون اعتقاد لديه أنه في حرب مع كل شيء موجود حوله، وبالتالي يحرم الحلال، استنادا لمبدأ “الضرورات تبيح المحظورات”.

وأوضح “فرغلي”، أن التيارات الأصولية واحدة في كل الأديان، تدفعها معتقداتها إلى محاولة المنع والقضاء على كل ما يخالف رؤاها، ثم تصعد درجة تطرفها مرة تلو أخرى، حتى تصل إلى الدرجات العالية من العنف والاضطهاد، فيصبح كل شيء ممنوع ومرفوض.

وذكر أن انتشار مثل تلك الأفكار بين العوام يأتي بسبب اختفاء أو تقصير المؤسسات الدينية، ما يدفع المواطن العادي صاحب “التدين الشعبي” إلى البحث عن المتدينين الموجودين حوله، فيجد أصحاب الأفكار الأصولية، في انتظاره، فيبدأ انتشار مثل تلك الأفكار في المجتمع، لتصبح قاعدة أساسية، وبسبب ضعف علومه الدينية ما يجعله سهلا الوقوع في براثن تلك الجماعات.

وأشار إلى أن الهجوم على المؤسسات الدينية والتراث “كارثي”، حيث أن العامة تبدأ حينها في الإيمان بأن هناك هجوم على الدين، فتبدأ بالتحزب ضد كل تلك الدعوات، ومن ثم يزيد الأمر سواء، لافتا إلى ضرورة دراسة الأمر بعناية وانتقاء الأمور الجيدة من التراث وترك الباقي، واستخدام لغة تساهم في الحد من التعصب.