عرفت مصر صراعات كثيرة بين الفنانين على الألقاب الجماهيرية أو الصحفية، فهذا من يسموه الزعيم، وهذه نجمة مصر الأولى، وتلك نجمة الجماهير، وذاك الملك، باستثناء محمود رضا الذي سعى منذ نعومة أظافره إلى لقب “الراقص” أمام المجتمع وفي الأوراق الرسمية.

رحل الفنان محمود رضا” 1930-2020″ تاركًا خلفه إرثًا كبيرًا في الرقص الشعبي سيبقى شاهدًا على عظمة إنتاجه وإبداعه الفني طوال 60 عامًا، غير من خلالهم النظرة الرسمية والشعبية للرقص في مصر.

قدم “رضا” خلال رحلته التي توقفت عن محطة الـ 90، نموذجا للاحتراف واحترام المهن الإبداعية، فلم يكن يعجبه وضعه كراقص هاو يرقص الجمباز والباليه بالنادي، ويظهر في مشاهد استعراضية بالأفلام السينمائية، فتحول إلى راقص محترف وجامع تراث هذا البلد من خلال رقصاته الشعبية التي عبرت عن كل فئاته وأقاليمه المختلفة.

“يا ليل يا عين”

لمن تكن مصر في خمسينيات القرن الماضي تمتلك فرقا استعراضية شعبية، حتى شق الفتى الوسيم هذا جدران الصمت بالمشاركة في العرض المسرحي والغنائي “يا ليل يا عين” الذي أقيم بدار الأوبرا في العام 1956، وقدم من خلالها الخريطة الفلكلورية الشعبية لمصر بصعيدها، وأحياء القاهرة الشعبية، التي ضمت حفلات الزار، ورقصة عرائس المولد وخيال الظل، وساحلها ودلتاه من خلال عروض لمجتمع الصيادين والفلاحين.

يدين الراحل رضا بالكثير لنجاح “يا ليل يا عين” حيث هيأ المناخ الرسمي في دولة جمال عبد الناصر لتقبل فكرة إنشاء أول فرقة فنون شعبية في مصر، التي بدأت عروضها لأول مرة في أغسطس 1959، لينطلق منها الأخوان علي رضا المخرج السينمائي، وشقيقه الأصغر مصمم الرقصات محمود.

كواليس الفرقة الشعبية

يحكي رضا، وفقًا لكتاب محمود رضا والرقص الشعبي في مصر، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، أن مشروعه واجه صعوبات جمة في بدايته، إذ عطله وزير الإرشاد فتحي رضوان بعد تقدمه باقتراح لإنشاء فرقة دائمة للفنون الشعبية يتولى هو الأعمال الفنية فيها ويشرف الوزير عليها، وبعد ترحيبه وإعلانه عن طلب الراقصات تراجع الوزير بسبب الإمكانيات المادية، فقرر الانسحاب من هذا المشروع، ليقرر إنشاء الفرقة مع أخيه علي.

استغرق الاتفاق على اسم فرقة رضا للفنون الشعبية بعض الوقت، فمحمود كان يريدها بدون اسم، لكن الأصدقاء اقترحوا عليه “فرقة محمود رضا” على غرار فرقة نجيب الريحاني أو فرقة موسييف الشهير بالاتحاد السوفيتي، ورغم رفضه في البداية إلا أنه امتثل لقرار العائلة في النهاية.

تأميم فرقة رضا

أدركت الدولة حجم نجاح “رضا” ودوره المهم وآثاره الإيجابية على الفن المصري، فقرر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في العام 1961 تأميم الفرقة وضمها إلى الدولة، حيث كان يقدر ما يقدمه رضا من فن رفيع، وكان يطلب الفرقة دائمًا لتقديم عروضها أمام الرؤساء والملوك عند زيارتهم لمصر.

ونتيجة لذلك، زاد عدد أعضاء الفرقة إلى 80 راقصًا وراقصة و100 عازف وكورال، وقدمت الفرقة في هذه الفترة أعمالا مهمة مثل: “رنة الخلخال” “السد العالي” ” علي بابا والأربعين حرامي”، كما وفرت الدولة إمكانية السفر حول العالم لتقديم عروضها ونشر ثقافة الفن الشرقي والشعبي.

يمكن القول إن نجاح رضا ليس في إزالة الأعباء المالية من على عاتقه وإنتاج الأعمال الفنية الضخمة فحسب، بل في انتزاع اعتراف رسمي من الدولة بصحة أفكاره الفنية ومحو كل ما التصق به من سوء السمعة باعتباره “راقصًا”.

يقول الناقد الفني طارق الشناوي إن نجاح “رضا” يتمثل في الإبقاء على اسم فرقته دون أن تتحول إلى فرقة ناصر، فمن كان يجرؤ في زمن ناصر على الاجتهاد يبقي على فرقة تحمل اسما غير ناصر؟

ويصحح “الشناوي” معلومة عن أن الفنانة الاستعراضية نعيمة عاكف كانت الراقصة الأولى للفرقة، وأنه استعان بفريدة فهمي مكانها، حيث إن الثنائي كان حاضرًا منذ البداية لكن عاكف رحلة فجأة في عام 1966.

إلا أن محمود وفريدة شكلا ثنائي فني لافت، فعملا على تعليم الفتيات الشعبيات الحركة والفلاحات المصريات الوقوف على المسرح، فكانت فريدة زوجة شقيقه على ملتزمة بأداء العروض المسرحية ومتطلباتها التزاما لا حدود له، وكانت بارعة كذلك في تصميم الأزياء الخاصة بعروض الفرقة.

ولعلي رضا إسهامات كبيرة في تأسيس ونجاح هذه الفرقة، بحكم خبرته في الإخراج السينمائي وتفاصيل الديكور والموسيقي، وهو ما ساعد الفرقة في تقديم أفضل أداء لها خلال الستينيات والسبعينيات توجت بفيلم “غرام في الكرنك” الذي أخرجه علي ومثل به محمود وفريدة، وصار علامة كبيرة على نجاح فرقة رضا، علما بأن الفرقة قامت ببطولة 3 أفلام سينمائية لاقت نجاحاً جماهيرياً عريضاً، هي “إجازة نصف السنة”، و”غرام في الكرنك”، و”حرامي الورقة”، لذا استحق “علي رضا” بجدارة وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى الذي منحه له الرئيس جمال عبدالناصر عام 1965.

ويقول طارق الشناوي عن آل رضا: “عائلة تحمل أفكارًا اجتماعية مختلفة أحدثت نقلة نوعية في المفهوم الشرقي للراقصة الشعبية والفتاة الجامعية والمهندسة ترقص شعبي”.

لماذا كان رضا متفردًا؟

تقول الدكتورة سمر سعيد، مؤلفة كتاب محمود رضا والرقص الشعبي في مصر، إن رضا كان متفردًا لأنه كان يشاهد كل ما يمكن رقصات وأزياء، ويسمع كل ما يمكن من موسيقى وغناء، فلا يكفيه أن يلجأ إلى مركز الفنون الشعبية ويشاهد ويسمع تسجيلات جمعها غيره دون أن يعيشها، فليس كل ما يشاهده يصلح للاستلهام بل ينتقي ما ينفعل له من فنون خلال المعايشة، فهو لم يكن مجرد باحث عن التسجيل والحفاظ على هذه الفنون من الاندثار.

زار رضا، العديد من البلدان كي يتقن تدريب الراقصين والراقصات في فرقته، كل مدرسة كان لها انلته التدريبي الخاص بها سواء الرقص الصيني أو الأمريكي أو رقص الباليه الكلاسيكي، فكان يبدأ في تدريب الشباب على القواعد الأساسية لرقص الباليه ثم يضيف إليه الحركات الشعبية المميزة لكل منطقة من مناطق الجمهورية والمقتبسة من الرقصات، مثل الرقصات المميزة للنوبة والصعيد وبنات البلد والحجالة بمرسى مطروح، وهو ما جعله يجول المحافظات للتفاعل مع الثقافات والفنون.

قدم رضا، رقصات وعروض فنية منها السياسي كعرض “السد العالي” الذي أبرز فيه جهود عبد الناصر في إنشاء السد العالي بعد صراع مع الولايات المتحدة الأمريكية، و”فدادين 5″ التي جاءت بعد مشروع الإصلاح الزراعي الذي رافق ثورة 23 يوليو، مما ساهم في تغيير نظرة الدولة والمجتمع المصري إلى فن الرقص، لأن هذه الفرقة كانت تنقل الواقع الاجتماعي والبيئي بما فيه من موروثات ثقافية ومعتقدات شعبية.

عاش رضا حياته نجمًا لامعًا بجسد لا يتوقف عن الحركة حتى في لحظاته المُنهكة، فمسرح البالون احتضن العام الماضي آخر رقصاته خلال تكريمه من وزارة الثقافة في ذكرى مرور 60 عاما على تأسيس فرقة رضا للفنون الشعبية التي قدمت حوالي 300 عرض عالمي في أهم وأعرق مسارح العالم.