عندما تعاقد نادي ليفربول مع المدرب الألماني يورجن كلوب في شهر أكتوبر عام 2015، لتولى تدريب الفريق خلفًا للأيرلندي برندان رودجرز الذي تمت إقالته من منصبه بسبب تراجع النتائج، كان حينها بلا عمل بعد رحيله من تدريب بروسيا دورتموند الذي وصل معه لنهائي دوري أبطال أوروبا 2013، وحقق معه كل البطولات بألمانيا، لم يكن يتوقع أكثر المتفائلين للرجل الأشقر تحقيق ربع ما حققه رفقة النادي الأحمر العريق.

وخلال تقديمه للإعلام كمدرب للريدز في أول مؤتمر صحفي له، سأله أحد الصحفيين “ماذا تريد أن تلقب؟”، وكان يوجد جوزيه مورينيو مدرب تشيلسي آنذاك بلقبه الشهير “سبيشال وان” أي الاستثنائي، فرد المدرب الألماني بتلقائية شديدة أنه يريد أنه يكون “نورمال وان” أي الطبيعي وليس الاستثنائي ثم ابتسم، ولم يكن يدور في باله هو نفسه أن يحقق كل تلك الإنجازات رفقة نادي مدينة فرقة “البيتلز” الموسيقية الشهيرة، ليتحول بالفعل لـ”استثنائي” وأي استثنائي.

جاء “كلوب” ليكون ترتيبه الـ20 فقط في تاريخ النادي الأحمر، وثاني ألماني يتولى تدريبه بعد فيليكس ماجات، ولكنه أحد أفضل هؤلاء الـ20 الذين سبقوه، حيث حقق أكبر وأعظم بطولات للنادي، الدوري الإنجليزي الممتاز، دوري أبطال أوروبا، كأس العالم للأندية، كأس السوبر الأوروبية، ونستعرض في السطور التالية عددًا من العوامل حولت “كلوب” خلال السنوات الخمس الماضية، من طبيعي كما مازح الصحفي، إلى استثنائي مثل “مورينيو” بالنسبة لجماهير تشيلسي، وربما تفوق كثيرًا، وكسب حتى الرهان مع المدرب البرتغالي الأشهر.

شخصية كبيرة

افتقد ليفربول لشخصية البطل داخل البريميرليج منذ سنوات طويلة، والتي تُستمد أغلبها من شخصية المدير الفني للفريق، ففي الغريم الأزلي للريدز مانشستر يونايتد، استطاع كسب شخصية السير أليكس فيرجسون ليتحول الفريق إلى عملاق وأكثر أندية إنجلترا فوزًا بالبريميرليج، وأصبح لديه روح البطل وتحديه من شخصية المدرب الإسكتلندي الأسطوري، وهذا في الغالب ما كان يفتقده ليفربول منذ البطولة الملحمية في 2005 بالفوز بدوري أبطال أوروبا في مباراة اسطنبول الشهيرة على حساب ميلان.

طوال تلك المدة، مر العديد من المدربين على الريدز، لم يستطيعوا أن يحدثوا الفارق والفوز باللقب المحلي الغائب عن خزائن النادي منذ عام 1990، لقد مر روي هودسون، ورافائيل بينيتز نفسه صاحب لقب 2005, وكذلك برندان رودجرز الذي كان على مقربة من الفوز باللقب لولا انزلاقة ستيفن جيرارد الشهيرة وخسارة اللقب لصالح تشيلسي، حتى وصل كلوب ميلوود وتغير كل شيء.

ظهرت شخصية كبيرة للمدرب الألماني على كل النادي، من إدارة كانت قليلة الدعم في المشاريع التي سبقته مع المدربين، وجماهير كانت تفتقد لشخص البطل ووجدته في المدرب الألماني، وكذلك لاعبين وشباب تحولوا سريعًا لأبطال مستمدين ذلك من شخصية “كلوب” الكبيرة التي غيرت العقلية والروح وكل شيء تمامًا في الفريق الأحمر منذ وصوله، حيث إنه يجيد التعامل النفسي بشكل رائع ومثمر مع الجميع لأنه حصل على دبلومة في علم النفس الرياضي، ساعدته بشكل كبير في عمله وجعلته متفوقًا على أقرانه المدربين في تلك الجزئية.

ألقاب عظيمة ونادرة

بعد فرض شخصيته الكبيرة، وبث الروح والقتالية داخل الفريق، ولم شمل الجميع والتعامل والتحفيز النفسي الدائم حتى غير عقلية كل اللاعبين وكذلك الإدارة في منظورها لدعم الفريق، جاء الدور على الجانب الفني، حتى يستثمر العمل النفسي الذي قام به جيدًا وبشكل فعال في الملعب، وقد قام “كلوب” بجهد عظيم وعمل دؤوب ومستمر في تطوير الفريق فنيًا من كافة الجوانب الخططية والتكتيكية والفنية، بكرة قدم جميلة معتمدة على الاستحواذ وكذلك الهجمات المباغتة السريعة، وبدا هناك شكل واضح في الفريق بعد فترة عمل قصيرة في ميلوود.

 

 

ومع تحسن النتائج تدريجيًا استمر الفريق في التحسن في ذلك العام، حتى جاءت الانطلاقة الحقيقية مع بداية موسم 2016-2017 وقيامه بفترة إعداد نموذجية وجلب بعض النجوم لسد ثغرات الفريق، وظهر ليفربول مغايرًا تمامًا في ذلك الموسم ونافس على البطولات وعاد لدوري أبطال أوروبا بعد غياب وبدأت ثقة الجماهير ترتفع في فريقها ومدربها، حتى جاء وقت جني ثمار كل ذلك العمل العظيم في موسم 2017-2018، الذي ظهر فيه ليفربول بشكل استثنائي مع تعاقده مع نجمنا المصري محمد صلاح من روما في صيف 2017، وتألق الفرعون كثيرًا في أول مواسمه ونال لقب الهداف وأفضل لاعب في إنجلترا.

ونافس ليفربول على اللقب ولكن غياب التوفيق وقلة الخبرات بعض الشيء حالت دون ذلك بهذا العام، كما وصل لنهائي دوري أبطال أوروبا وخسره في النهائي الشهير أمام ريال مدريد الذي شهد إصابة “صلاح” من “سيرخيو راموس”، ولم يحالفه الحظ في ذلك الموسم بعدما فعل كل شيء ممكنًا للفوز بكل البطولات ولكن أخطاء فردية من حارس المرمى حينها لوريس كاريوس وأخطاء الدفاع كلفته الكثير.

وهو ما عمل على علاجه في “الميركاتو”، بالتعاقد مع اثنين من أفضل لاعبي العالم وبأعلى الصفقات، وهما فيرجيل فان دايك في يناير 2018 قادمًا من ساوثهمبتون في صفقة صنفت كأغلى مدافع بالعالم، وفي الصيف ضم أليسون بيكر من روما، كأغلى حارس في العالم كذلك لحل كل ثغراته والتي كلفته خسارة الألقاب.

وجاء الموسم الماضي ليصل ليفربول لآخر جولة مصارعًا على لقب البريميرليج وخسره في المباراة الأخيرة لصالح مان سيتي، ولكنه فاز باللقب الأغلى دوري أبطال أوروبا لعام 2019، وكلل مجهوداته بلقب كبير بعد سنوات عجاف دون بطولات، وحسم هذا الموسم ثمرة كل ذلك العمل المضني من المدرب الألماني الذي ابتسمت له أخيرًا الساحرة المستديرة.

وفاز باللقب الأثمن والغائب عن خزائن الليفر منذ 3 عقود وتوج رسميًا بلقب البريميرليج، فيما تخللت تلك الفترة الفوز بلقبين مهمين أيضًا كأس العالم للأندية 2019 وقبلها بأشهر قليلة كأس السوبر الأوروبية، ليكون حقق أغلى الألقاب الممكنة لليفربول، وأعاده إلى قمة المجد الكروي في العالم مرة أخرى بعد أعوام من الخفوت.

إعادة الأمل للجماهير وكسب حبها

أحد أهم تلك العوامل التي حولته لمدرب استثنائي بالفعل، هو تحويل جماهير ليفربول الوفية والمساندة بشدة للفريق رغم كل تعثراته في السنوات الطويلة الماضية، من شعور الحزن السائد عليها، إلى بث الأمل فيها من جديد، بإمكانية العودة للأيام الخوالي وتحقيق كل آمالها المختزنة لسنوات طويلة داخل صدورها، فكان ذلك العامل حاسمًا في تشجيع ومساندة تلك الجماهير الغفيرة بشكل أكبر من الطبيعي لـ”كلوب” ولتجربته وفريقه حتى حقق كل تلك الإنجازات.

كسب حب جماهير وفية وغفيرة مثل ليفربول في تلك الفترة القصيرة، يدل على حجم العمل والإنجاز الذي قام به الرجل الألماني في أنفيلد، وخلد اسمه على لوحة شرف النادي العظيم ودخل قلوب كل تلك الجماهير بصدق، وأصبح يحتفل معهم دائمًا عقب كل انتصار في مشهد أصبح معتادًا ومنفردًا له بشكل خاص معهم، ليصبح استثنائيًا في تاريخ النادي الأحمر العريق وليس طبيعيًا أبدًا كما مازح الصحفي في مؤتمر تقديمه عام 2015.

فريق عملاق بأقل الإمكانيات

الأمر الآخر العظيم الذي يُحسب لـ”كلوب” وقام به على أفضل وجه ممكن، وجعله أفضل مدرب في العالم لعام 2019 بكل جدارة واستحقاق، هو عينه الثاقبة في انتقاء المواهب والنجوم الشابة والكبيرة وضمها لصفوف فريقه، وتكوين توليفة خاصة تصنع العجب في كل الملاعب والبطولات، وأعادت لليفربول مجده وشموخه المفقودين، وكذلك صبره على بعض اللاعبين الشباب رغم أخطائهم الكارثية حتى أصبحوا نجومًا بين الأفضل في مراكزهم بالعالم، وكل الفضل يعود للرجل الألماني المبهر فنيًا بالقياس للعمل الذي قام به.

 

 

ترينت ألكسندر أرنولد، أندرو روبرتسون، جورجينو فينالدوم، تشامبرلين، فيرمينو، ماني، وأوريجي، وحتى صلاح نفسه مع الثنائي الأغلى فان دايك وأليسون، كل هؤلاء النجوم خاصة الثنائي الأول، كان لا يعرفهم أحد قط، حولهم المدرب الألماني للأفضل في العالم بمركزهم بلا شك بمهنية ورؤية ثاقبة وعمل مضنٍ معهم، كذلك بقية الأسماء كانت تندرج ضمن صفوف اللاعبين متوسطي المستوى، تحولوا وتطوروا رفقة “كلوب” لنجوم الصفوة في العالم، وشهدوا قفزة هائلة في مستوياتهم جميعًا.

ناهيك عن اختيار 4 لاعبين من ضمن أفضل 10 نجوم في العالم لعام 2019 من ليفربول، الذي كان لا يعرفهم سوى القليل وربما القليل جدًا، فما فعله “كلوب” من إنجاز على مستوى كل الجوانب بنادي ليفربول يستحق كل الإشادة والوقوف عنده كثيرًا للاستفادة وتعلم كيفية إعداد فريق بطل يستمر على القمة لسنوات وليس لفترة قصيرة فقط.