“المراجعات الفكرية”، مصطلح فرض نفسه على الساحة السياسية خلال الفترة الماضية، وشهد حالة من الجدال والخلاف، بين مؤيدين ومعارضين للفكرة، فبينما يسعى المتعشطون للجهاد والسلطة للعودة إلى الحياة مرة أخرى، يأبى قطاع كبير أن يقبل تلك العودة ويشكك في نوايا أصحابها.
تظل المراجعات الفكرية موضع شكوك حول مدى مصداقية أصحابها في التراجع عن أفكارهم المتطرفة، حيث يرونها مجرد مناورة سياسية يلجأ إليها المتطرفون عند فشلهم في تحقيق غاياتهم وتضييق الخناق عليهم والزج بهم في السجون، خاصة بعد أن شهدت منصة اعتصام رابعة تراجع عدد من عناصر الجماعة الإسلامية عن موقفهم من نبذ العنف ولجوئهم للمواجهات المسلحة التي تبرأوا منها فيما سبق.
من أين جاءت فكرة المراجعات؟
لم تكن المراجعات الفكرية، وليدة لحظات ندم أو تراجع حقيقي من الجماعات المتطرفة عن الأفكار المتشددة التي اعتنقوها لعقود طويلة وكانت تدعو للقتل وسفك الدماء ودفع الغالي والثمين للحكم بمبادئ الشريعة، والتي تختلف من جماعة لأخرى ومن تيار لآخر، الأمر الذي جعل جديتها مصدر تشكيك دائم.
بدأت النبتة الأولى لفكرة المراجعات عام 1965، خلال الحديث عن مبادرة لتعديل معتقدات المتطرفين من أنصار جماعة الإخوان، ولكنها لم تكتمل، حتى بداية السبعينيات، والتي شهدت نشأة الجماعة الإسلامية، وكانت بدايتها جماعة دعوية شأنها شأن جماعة الإخوان، حيث أسسها عدد من المنتمين السابقين لها، ومع الوقت تم تسييس الجماعة الإسلامية، وسعت للبحث عن السلطة، والوصول للحكم، وهو ما قسمها لثلاثة أقسام، مجموعة تحولت للإخوان مثل عصام العريان وحلمي الجزار وعبد المنعم أبو الفتوح وخيرت الشاطر وغيرهم.
أما المجموعة الثانية، فأنشأتها جماعة السلفيين، فيما ظل جزء بالجماعة الإسلامية يتمركز في صعيد مصر، وهي المجموعة التي اعتنقت العنف وقامت بالعديد من العمليات الإرهابية، منها أحداث المنصة واغتيال الرئيس محمد أنور السادات، وحادث أسيوط، واستهداف السياح، واغتيال رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب وغيرها من العمليات المسلحة، رفضًا منهم لنظام الحكم واعتراضًا على حملة الاعتقالات والإعدامات التي تعرضوا لها.
واستمرت عمليات الكر والفر بين الجماعة الإسلامية والجهات الأمنية، وسط محاولات لوقف هذا الصراع وحقنًا للدماء، قام بتلك المحاولات أمنيون مثل مبادرة اللواء فؤاد علام، والذي طلب من قيادي الجماعة كرم زهدي عقد حوار للوصول إلى حل لوقف العمليات المسلحة، وتم رفض المبادرة بعد تدخل عبود الزمر.
وأطلق الشيخ محمد متولي الشعراوي، مبادرة للنقاش عام 1988 ولكنها لم تكتمل، وفى 1993 قامت قيادات الجماعة ممدوح يوسف وصفوت عبد الغني بتقديم مبادرة لوقف العمل المسلح ولكنها توقفت عقب محاولة اغتيال الجماعة لعاطف صدقي، ومبادرة أخرى قادها عبد الحارث مدني ومحمد سليم العوا وتوقفت لوفاة الأول.
وساطة المثقفين ورجال الدين
وتجددت وساطة المثقفين، ورجال الدين، وبعض قيادات الجماعة، لوقف العنف من جانبهم، ولكنها لم تكن بالإجماع، مثل التي أطلقتها مجموعة الوساطة والتي ضمت الشيخ الشعراوي ومحمد سليم العوا ومحمد الغزالي وفهمي هويدي وعبد الحي الفرماوي، لكنها هوجمت بسبب رفض معظم السياسيين والمثقفين للتصالح مع عناصر الجماعة الإسلامية الملوثة أيديها بالدماء، فيما فشلت مبادرة أخرى قادها خالد إبراهيم قيادي الجماعة بأسوان عام 1996، لوقف العنف ضد المسئولين ورجال الشرطة، ولكن جاء تنفيذ الجماعة لعملية استهداف أتوبيس سياحي راح ضحيته 18 سائحًا لينسف هذه المساعي.
وكان اعتراض قادة الجماعة، على تقديم مبادرات غير مشروطة، حيث طالبوا بوقف الاعتقالات والسماح لهم بممارسة حياتهم الدعوية بحرية وإخراج المعتقلين منهم من السجون ووقف المحاكمات العسكرية.
في عام 1997، أطلقت الجماعة مبادرة وقف العنف من طرف واحد دون شروط وجاء فيها “يناشد القادة التاريخيون للجماعة الاسلامية إخوانهم من قيادات الجماعة وأفرادها إيقاف العمليات القتالية والبيانات المحرضة عليها داخل مصر وخارجها دون قيد أو شرط وذلك لمصلحة الإسلام والمسلمين”، وجاء البيان بتوقيع كرم زهدي، وناجح إبراهيم، وعبود الزمر، وفؤاد الدواليبي ومجدي عبد الرحمن، وهو البيان الذي قسم الجماعة لفرق مؤيدة ومعارضة وصامتة.
ورفض محمد الإسلامبولي، ورفاعي طه، المبادرة ونفذوا عملية إرهابية بالدير البحري راح ضحيتها 58 سائحًا و3 من عناصر الشرطة.
وتعرضت الجماعة، لعمليات انقسام بين قادتها وشهدت استقالات عدة منهم أسامة رشدي ومحمد الإسلامبولى ورفاعي طه، وتولى قيادة الجماعة مصطفى حمزة الذي أعلن حل الجناح العسكري عام 1999.
وفى 2001، بدأت المبادرات تأخذ حيز المراجعات، وقادها القادة التاريخيون بالجماعة منهم ناجح إبراهيم، حيث أعلنت الجماعة التراجع عن أفكارها خاصة المتعلقة بالجهاد وأعلنت تحريم الخروج عن الحاكم واعتبروا الجهاد وسيلة وليس غاية، واعترفوا بأن القتال ساعد في تقسيم الأمة ومحرم شرعًا، كما أعلنوا التبرؤ من تنظيم القاعدة، وجاء كل ذلك في سلسلة كتب حملت اسم “تصحيح المفاهيم”.
وعملت الجماعة، على شرح المفاهيم الجديدة لقادتها بالسجون، واستمر هذا الأمر لما يقارب العام، وبدأ يشعر أعضاء الجماعة بمرونة الدولة في التعامل معهم لنبذ أفكار العنف والتطرف، وظهر ذلك في تحسين معاملتهم في السجون، ووقف الإعدامات، وخروج بعض من انتهت أحكامهم مثل ناجح ابراهيم وحمدي عبد الرحمن والدواليبي وأسامة حافظ، وسط رفض الجماعات الجهادية لتلك المراجعات ومنهم أيمن الظواهري وياسر السري.
تراجع المتطرفين عن المراجعات
استمرت حالة الهدوء وتوقف العمليات المسلحة من قبل الجماعة الإسلامية، حتى عام 2011 مع بداية ثورة 25 يناير، والتي كشفت عن نوايا بعض المتطرفين ممن أعلنوا مشاركتهم في المراجعات، حيث كانوا يسعون فقط للخروج من أسوار السجون، فرغم إقرارهم بتحريم الخروج على الحاكم، إلا أنه كان أول ما فعلوه عقب استشعارهم بانتهاء حكم محمد حسني مبارك.
أطاح عصام دربالة، بالقيادات التاريخية وهم زهدي وناجح والدواليبي من مجلس شورى الجماعة، وشارك ف التظاهرات، وخرج قادة الجماعة الإسلامية من السجون منهم عبود وطارق الزمر ومصطفى حمزة، وعاد الهاربون من الخارج منهم محمد الإسلامبولى وأسامة رشدي وأسسوا حزب البناء والتنمية، وشاركوا في الانتخابات البرلمانية وحصلوا على مقاعد به.
وبعد سقوط حكم الإخوان، عادت عناصر الجماعة الإسلامية للعنف من جديد، والتهديد بحمل السلاح ورددوا عبارات الإرهاب على منصة اعتصام رابعة والنهضة، ما أكد عدم جدية المراجعات التي أقروها وأنها كانت مجرد بوابة للهروب من المعتقلات.
عودة الحديث عن المراجعات الفكرية
رغم غياب فكرة المراجعات عن المشهد السياسي سنوات طويلة، إلا أنها عادت للظهور مجددًا، بين معتقلي جماعة الإخوان، وأعاد التاريخ صفحاته للوراء، حيث طالب عدد من الإخوان في وثيقة مسربة أطلقها الهاربون للخارج بضرورة التراجع عن العنف والحديث عن معالجة الأزمة.
وعقدوا ورشًا ومنتديات فكرية لمراجعة أفكارهم ومواقفهم منذ تأسيسها، كذلك أرسلوا للمسئولين طلبًا للعفو معلنين رغبتهم في تنظيم مراجعات فكرية، مؤكدين استعدادهم على إعلان تراجعهم عن أفكارهم المتشددة.
وأثارت الدعوة، استياء الكثيرين ممن شكك في مصداقيتها مستشهدين بتاريخ المتطرفين من التراجع، وأنها مجرد سبيل لتخفيف معاناتهم وتحسين أوضاعهم بالسجون، كما سبق وقال الجهادي أبو حمزة المصري عن مراجعات الجماعة الإسلامية.
المراجعات وخيانة العهد
واعتبر الباحث في شئون الجماعات الإسلامية وليد البرش، أن المراجعات الفكرية، كانت سبيل عدد كبير من الجماعة الإسلامية للخروج من الأسر وتجنب الضغط الشديد من الدولة، مشيرًا إلى أن عدد قليل منهم، كان على قناعة حقيقية بالمبادرات والمراجعات الفكرية.
وتابع “البرش”، أن المراجعات تمت على عدة مراحل منذ 1965 بمراجعات حسن الهضيبي “دعاة لا قضاة”، والتي سرعان ما تراجعوا فيها، ثم عام 1981 مع حوارات السجون، ومن 97 حتى 2002 مع الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد، أما تكرار الفكرة الآن مع الإخوان أو داعش فهي غير مفيدة لأن الإخوان تنظيم يسعى للحكم منذ عام 1990 ومن الصعب تراجعه عن تلك الفكرة، كما أنهم ماهرون في الخطاب المزدوج الذي يتماشى مع المرحلة وليس مع قناعتهم.
وأكد “البرش”، أن المراجعات مجرد مرحلة التقاط أنفاس للإرهابيين ليعاودا الأمر عندما تسمح لهم الفرصة، ولا يوجد أي ضمان لعدم عودتهم للتطرف، فمثلًا فوزي السعيد أحد المشاركين في مبادرات 1981 شاهدناه يتراجع عنها في 2013، وأعلن أن من يشك في عودة مرسى يشك في قدرة الله، كذلك نسيم عاصم الذي نقض المراجعات بعد مرور 4 سنوات عليها وعمل جماعة الشيخان وجماعة الهجرة، فالتاريخ مليء بنقض العهد وخيانته.
المراجعات والفرصة الأخيرة
ويؤكد خالد الزعفراني، أحد القيادات السابقة بالجماعة الإسلامية، أن المراجعات الفكرية التي قامت بها مصر كانت فكرة ناجحة، بمساعدة علماء دين وعلماء نفس واجتماع، وانتقلت إلى العديد من الدول مثل الجزائر.
ويشير “الزعفراني”، إلى صعوبة تكرار التجربة في الوقت الحالي، لأن المراجعات كانت تقوم على مناقشة شخص تربى في بيئة وجماعة وأفكار منغلقة، وتفنيد أفكاره من الناحية الشرعية والفقهية من علماء متخصصين، وهو ما يصعب في الأجواء الحالية، مشيدًا بدور الأزهر ومرصد الإفتاء في محاولة تنفيذ هذا الدور.
سيكولوجية المراجعين
يوضح الدكتور هاشم بحري أستاذ علم النفس، أن التطرف قائم على الخلل الفكري، بمعنى أن يكون شخص لديه فكرة ثابتة لا يمكن تعديلها أو تغييرها وهي الحق ودونها خطأ.
ويضيف “البحري”، أن هذا الخلل لو كان نابعًا من اضطراب عقلي مثل الانفصام، فلا قيمة لمجادلته لأن تراجعه عن فكرته يتوقف على علاجه من الانفصام لأنه مرض عقلي يسمى الضلال الفكري وهذا لا يتراجع، أما لو كان الأمر راجع لسوء تعليم أو اضطراب في الشخصية نتيجة ضعفها فهذا قابل لتعديل فكره من خلال منحه مساحة للتفكير والمراجعة.