“من غير كلام كتير يا ضيا، من غير كلام كتير يا أيمن، من غير كلام كتير يا حازم، من غير كلام كتير يا أصحابي، دخلوني مستشفى المنيرة، دخلوني المنيرة.. الله يخليكم أنا تعبت النها رده بالليل أوي، حد ييجي ياخدني حد يساعدني بس، حد يعمل أي حاجة، أنا مستعد أدفع فلوس بردو أنا مابقولشي أتعالج مجانًا، الله يخليكم أنا تعبان، أنا تعبان ألحقوني بس قبل ما نَفسي يتكتم، حد يصحي ضيا مش عارف أصحيه، أيمن، المجلس، عبد الرحمن، أي حد، أي حد، يلا يا اخوانا ساعدوني، ساعدوني الله يخليكم”.
بصوت متقطع، محملًا بوجع السنوات المُرة، جاءت رسالة الصحفي والمناضل محمد منير، الأخيرة، قبل أيام من وفاته، في بث مباشر عبر صفحته على “فيسبوك”، مناشدًا أصدقائه وزملائه الصحفيين.
ظل الرجل حتى آخر لحظاته، مرفوع الرأس، لم يتسول شيئًا من أحد، حتى وهو يطلب حقه في العلاج، قال إنه لا يريد العلاج بالمجان، وما الغريب، فما عرف أحدًا الرجل متسولًا لشيء، ولا مهادنًا، ولا متنازلًا عن مبدأ، أو منحنيًا لريحٍ كما فعل من فعل، ومن التمس لهم هو نفسه الأعذار، عذرًا تلو الآخر.
ظل الرجل بعيدًا عن عالمهم، عن معاركهم، لكنه لم يكن بعيدًا عن قضايا مهنته ومعارك وطنه، فصلوه، فظل يكتب، لا ليكسب قوته فحسب، بل حتى لا يخسر قلمه، أو يضعه في صندوق الحاجيات القديمة إلى جانب ضمائرهم البالية.
في الرابع عشر من شهر يونيو الماضي، اقتحمت قوات الأمن منزل منير، في الشيخ زايد بمدينة أكتوبر، وفتشوا المنزل، فخرج منير بفيديو مصور على صفحته على “فيسبوك” ينتقد فيه الإجراء، بخفة روحه المعهودة، ساخرًا من اتهامه بالعمالة لأنه يكتب في عددٍ من المواقع خارج مصر، قائلًا إنه يكتب في تلك المواقع لأنه تم فصله من عمله تعسفيًا، مؤكدًا أنه يكتب وجهة نظره بكل حرية ولم يستطع أحد أنه يجعله يكتب كلمة ضد قناعاته أو ضد وطنه.
لتعلن أسرته في اليوم التالي أنه تم القبض عليه فجرًا من شقتهم بالشيخ زايد، واقتياده إلى مكان مجهول، مطالبين مجلس نقابة الصحفيين بالتحرك للكشف عن مكانه وحضور التحقيقات معه، ليصدر بعد أيام قرارًا بإخلاء سبيله.
بعد خروجه، أرسل منير رسالة إلى نقيب الصحفيين، ضياء رشون يشكره ومجلسه، على جهودهم في الإفراج عنه ووعدهم له بمتابعة علاجه بعدما أثبتت الفحوصات التي أجريت له بمستشفى ليمان طرة عن إصابته بجلطة وقصور في وظائف الكلى، مشيرًا إلى تدهور حالته بعد خروجه وإحساسه بآلام في الصدر وضيق في التنفس وارتفاع في درجات الحرارة، قائلًا: “عشت سنوات لم أتلق تعويضًا عن فصلي من العمل بسبب آرائي، ولم أتلق مساعدة، فقد كان ذراعي يحملني، وصحتي تحمي كرامتي لكنها خانتني”.
اَستمَر المُعلم في الضحك حتى في عز وجعه، تخبرنا منشوراته خلال الأيام الأخيرة، عما تحمله روحه من عذوبة وقوة، من خفة لا يمكننا تحمل روعتها.
بينما كان الألم يحفر عميقًا في صدره، كتب منير مداعبًا أصدقائه: “لأعراض ارتفاع الحرارة مظاهر، منها إنه يكبس على ذاكرتك كام كلمة من أغنية لا أنت فاكر مين اللي غناها ولا بقية كلماتها وتقعد تدندن بيها طول ما حرارتك عالية، الحرارة كبست عليا النهارده بالكوبليه ده [بعد بيتنا ببيت كمان.. حلو ساكن من زمان] لو زميل حرارته عالية يكمل الكوبليه ويفكرني بالمغني وكلنا إخوة في كورونا”. بعدها نشر “منير” على صفحته صورة لتسجيل بناته بخط اليد، لتذبذب درجات الحرارة خلال يومي 5 و6 يونيو، قبل نقله لمستشفى العجوزة في اليوم التالي.
سنظل عاجزين عن وصف الرجل، ونحن نتتبع سيرته، لكنه حتى في هذه كان رحيمًا بنا، لم يرد إرهاقنا، فقد كتب يقول: “بعد ما أموت، عايز سيرتي الذاتية تتكون من معلومة واحدة، محمد محمد منير يوسف، شارك بصدق وإخلاص في ثورة 25 يناير 2011”. “جفت الأقلام ورفعت الصحف”.